موضوعات حول الحزب - اليساري - الكبير
جيلاني الهمامي
الحوار المتمدن
-
العدد: 7949 - 2024 / 4 / 16 - 11:09
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
موضوعات حول
الحزب " اليساري " الكبير
1 - مطمح مشروع
كان الرفيق الشهيد شكري بلعيد أول من نادى في أحد اجتماعات الجبهة الشعبية بتكوين" حزب يساري كبير ". وتكرر نداؤه على لسان قادة الجبهة الشعبية أكثر من مرة وفي أكثر من مناسبة. ولم يلاق هذا الشعار معارضة صريحة من أي طرف من أطراف الساحة اليسارية في تونس. بل على العكس من ذلك تلقف الكثير من المناضلين من داخل هذه الأحزاب وفي محيط أنصارها غير المتحزبين هذه الفكرة بكثير من الارتياح بل واعتبرها البعض منهم بمثابة وعد والتزام بتحقيقها وظلوا يتلهفون للشروع في إنجازها فعليا. غير أنها ظلت إلى اليوم تراوح مكانها، ظلت مجرد شعار لا أكثر، الأمر الذي خلق نوعا من خيبة الأمل.
ونعتقد أنه وفاء لروح الشهيد واستجابة لتطلعات أوساط واسعة من المناضلين في أحزابنا اليسارية ومن محيط أصدقائنا فقد حان الوقت للانكباب على هذا الموضوع بالقدر الذي يستحقه من العناية والانطلاق على الأقل في الجدل الفكري والسياسي الذي هو جدير به، أعني الشروع في تدارسه من الزوايا المبدئية العامة للنظر بأكثر وضوح ودقة في ما إذا كانت الشروط الموضوعية والذاتية متوفرة بهذا القدر أو ذاك لقطع ما ينبغي قطعه من الخطوات في اتجاه إنضاج فكرة بعث "الحزب اليساري الكبير"، طالما أننا لم نستمع إلى حد الآن إلى اعتراضات مبدئية على ذلك.
لكن وبقدر ما يجب التعجيل بالشروع في التشاور حول سبل بحث الموضوع، لا ينبغي السقوط في الاستعجال والتسرع. فهو في تقديري موضوع يتطلب كثيرا من الحكمة في التعامل وكثيرا من الدقة في رصد القضايا المركزية التي سيتعين إيلاؤها الأولوية في البحث والنقاش حتى لا يضيع الجهد في الجوانب الهامشية أو الجزئية كل ذلك من أجل بلوغ الهدف الأول والأساسي وهو التوصل إلى وضع الأسس المتينة للإطار المراد تأسيسه. وبذات الدقة أيضا ينبغي تحديد التمشي المنهجي الذي سيقع إتباعه في تناول تلك القضايا المركزية.
إن دواعي المناداة بتوحيد فصائل اليسار، التي تحولت بعد الثورة إلى أحزاب، لكثيرة وتعطي لهذا المطمح - من حيث المبدأ على الأقل – مشروعية لا جدال فيها. غير أنه ولأهمية الموضوع لا يمكن التعاطي معه من الزاوية العاطفية – على أهميتها – بقدر ما يجب تناولها بما يلزم من المبدئية والعقلانية لا فقط في مستوى المضامين التي ينبغي بحثها ونقاشها وبلورة خلاصات بشأنها ولكن أيضا في مستوى التمشي المنهجي الواجب إتباعه.
ونعتقد، نحن في حزب العمال، أن عملية التأسيس يجب أن تنقاد برؤية واعية تتحلى بما يلزم من إرادة وتصميم وتمتلك تصورا ممنهجا وعقلانيا تحت إشراف قيادة موحدة مركزية تجسد هذه الإرادة وتسخر الجهد اللازم للتخطيط والإنتاج والمتابعة وتمتلك كل أدوات البحث والتنفيذ الضرورية حتى يكون هذا العمل هادفا ولا يتحول إلى مجرد جدل من قبيل الترف الفكري العقيم.
حول المفاهيم والمصطلحات
يجري الحديث اليوم في أوساط مناضلي أحزاب " اليسار " وأوساط من أنصار الجبهة الشعبية عامة حول بعث " حزب يساري الكبير ". ونعتقد أنه بصرف النظر عن الدوافع السياسية العامة وحتى الشحنة العاطفية المشروعة التي تحرك وجدان الكثير من رفاقنا وأصدقائنا لا بد من الاعتراف بأن ضبابية كثيفة تلف هذا الشعار. ولئن كنا نلتمس للكثير منا الأعذار المنطقية في حماسهم هذا فإن ذلك لا يعفينا من ضرورة وضع الأمور في نصابها وتفكيك هذا الشعار بتمام الوضوح المطلوب. واسمحو لي رفيقاتي، رفاقي، أن أتوقف منذ البداية عند التناقض الذي يتضمنه الشعار الغامض " حزب يساري " ذلك أنني أعتقد أن لكلا المصطلحين " حزب "من جهة و" يساري " من جهة ثانية من مقومات ومقتضيات خاصة لا تتفقان بل تتناقضان إلى حد بعيد.
فكلمة " اليسار " نفسها من المقولات التي وجب أن يخاض فيها الجدل اللازم لتبديد ما علق بها من غموض. فما لم نتفق على معنى ومدلول هذا المصطلح سيكون شعار " توحيد اليسار " في حزب كبير حتى وإن أضفنا إليه ما شئنا من التوصيفات مثل " اليسار الماركسي " أو " اليسار الثوري " فإنها تبقى مقولة تعميمية وفضفاضة وفي أحسن الأحوال مقولة سياسية بحتة وهوية غامضة ونسبية تتطلب شيئا من التدقيق. الأمر الذي يختلف، من وجهة نظرنا نحن في حزب العمال، تمام الاختلاف عن مصلح " الحزب " الذي نعتقد أنها تشترط معايير ادق من حيث الهوية الفكرية والبرنامج السياسي والانتماء التنظيمي. لذلك نعتقد انه دون هذا التوضيح سيكون توحيد " الحزب اليساري " رغم كل النوايا الحسنة والبريئة وكل المساعي والاهداف الثورية التي تحركه مجرد شعار عام ومثالي وتوفيقي لا يمكن أن يكتب له النجاح طويلا.
لقد دأب الخطاب السياسي في تونس كما في كل بلدان العالم تقريبا على إطلاق صفة " اليسار " على كل من يدعي ولو قولا تبني الفكر الاشتراكي والانحياز للعمال والكادحين والفئات الشعبية الأخرى. وإطلاق هذه الصفة بناء على هذا الادعاء بث الكثير من الخلط والغموض حتى لم يعد من اليسير التمييز بين من يدعي اليسارية من منطلق التبني الفعلي والوفاء الحقيقي للفكر الاشتراكي العلمي والانحياز الصادق للطبقة العاملة والفئات الشعبية الأخرى وبين من يتعمد ادعاء ذلك من مواقع سياسية ظرفية أو مرحلية أو بصفة انتهازية وتضليلية، خدمة للبرجوازية بأغلفة اشتراكية كاذبة. وليس أدل على ذلك بعض الأحزاب التي تحمل أسم " اشتراكي " أي تدعي اليسارية وتتبع سياسات اقتصادية موغلة في الرأسمالية الليبرالية وتتصرف على الصعيد الدولي كقوة استعمارية لا تقيم لحقوق الشعوب والعمال أي وزن. ومعلوم أن ليس ثمة من ألحق الضرر والتشويه بالفكر الاشتراكي العلمي كالذي ألحقه به أدعياء " الاشتراكية الديمقراطية " و" الاشتراكية المعتدلة " و" الاشتراكية الجديدة " وأصحاب " الفكري الاشتراكي النقدي " وما إلى ذلك من التسميات. وليس ثمة عدائية تضاهي عدائية هؤلاء الذين شنوا أعنف الهجومات على الماركسية وأفكارها فأنكروا مبدأ الصراع الطبقي والتضاد التام بين الرأسمالية والاشتراكية وشيطنوا مقولة ديكتاتورية البروليتاريا وشوهوا مقولات اشتراكية علمية صميمة مثل المركزية الديمقراطية وغيرها بدعوى مقاومة الجمود العقائدي وتجاوز فشل تجربة الاشتراكية وما إليه من الحجج المتهافتة. هؤلاء رغم كل ذلك لا يتوانون عن إطلاق، صفة " اليسار "على أنفسهم. يقول لينين في هؤلاء وأمثالهم " إذا حكمنا على الناس لا على أساس الرداء البراق الذي يخلعونه على أنفسهم بأنفسهم، لا على أساس اللقب الطنان الذي ينتعلونه لأنفسهم، بل على أساس تصرفاتهم وعلى أساس ما يدعون إليه في الواقع اتضح أن .. حرية تحويل الاشتراكية الديمقراطية ( أي الماركسية ) حرية إدخال الأفكار البرجوازية والعناصر البرجوازية إلى الاشتراكية ".
هذا من الناحية العامة. أما في تونس وإذا كان المقصود بكلمة " يسار " القوى التي تتبنى اليوم وفي المرحلة الحالية من المسار الثوري ومن نضال شعبنا من أجل جملة من الأهداف السياسية والاقتصادية والاجتماعية بمضمونها الوطني والديمقراطي فهذا أمر آخر وله إطاره بصرف النظر عما إذا كانت هذه القوى تنتسب إلى " اليسار " ام أو ينطبق عليه مصطلح يسار أصلا أم لا. هذا البرنامج الثوري في سياق النضال المرحلي من أجل توفير المقدمات التاريخية للمرور إلى برنامج ثوري حقيقي في معناه الطبقي يمكن فعلا أن يتبناه أكثر من طرف سياسي ثوري أي كل طرف يهدف إلى إجراء تغيير عميق على مجتمعنا واقتصادنا ونظامنا السياسي في تعارض مع الامبريالية ومع البرجوازية الكبيرة العميلة. وحتى إذا اتفقنا على انه برنامج " يساري " انطلاقا من مضمونه التغييري إذا جاز القول، حتى في هذه الحالة، فإن إطاره التنظيمي الذي سيتولى قيادة النضال من أجل إنجازه لا يمكن أن يكون " الحزب " بمواصفاته الدقيقة كما قلنا. فهو وبمعنى من المعاني " حزب المشتركات " فقط أي الإطار التنظيمي للقوى التي تتفق على النضال المشترك على أساس البرنامج المشترك الذي يكتفي بإطار قادر على استيعاب كل الاختلافات الاخرى الأيديولوجية والتنظيمية التي تبقى من عداد الخصوصيات لكل طرف من الأطراف دون أن تشوش على وحدة البرنامج والنضال والانتماء المشترك. لذلك نعتقد أن هذا البرنامج لا يستوجب حصريا الإطار الحزبي كصيغة تنظيمية ويمكن ان تؤمن الجبهة الموحدة الذي نخوض غمارها في تونس بكل نجاح رغم كل التعثرات الإطار النسب له. وللإشارة فإن المصاعب التي تصطدم بها الجبهة الشعبية اليوم في تونس ليس مردها الأساسي وسببها الأصلي طبيعة الإطار التنظيمي أي الإطار الجبهوي بقدر ما تجد تفسيرها في جوانب أخرى من عملنا في الجبهة منها ما هو سياسي ومنها ما هو تنظيمي ومنها ما يتعلق بأسلوب العمل ومنها ما يعود إلى مخلفات الموروث الانعزالي السلبي الذي مازلنا لم نتخلص منه تماما.
وعليه فحينما ندعو إلى توحيد تيارات اليسار في حزب كبير موحد وجب الانتباه إلى ما قد تنطوي عليه هذه الدعوة من سوء فهم. فإذا كان المقصود من ذلك بعث إطار تنظيمي للبرنامج الثوري المرحلي الذي أشرنا إليه فلا بد من الاعتراف أن هذا الإطار سيكون مفتوحا لكل الأطراف التي تتبنى هذا البرنامج بصرف النظر عن مرجعيتها الفكرية وعلاقتها بالاشتراكية وبصرف النظر عن هويتها وأصولها وتمثيليتها الطبقية. وهي بداهة أطراف تعبر عن كل الفئات الطبقية التي لها مصلحة في هذا البرنامج عمالا وفلاحين وموظفين وأصحاب مهن صغرى وحتى برجوازية متوسطة المتضررة من الغزو الرأسمالي الأجنبي، رساميل وسلعا. فالإطار التنظيمي الذي سيجمع كل هذه التعبيرات السياسية لكل هذه الفئات الاجتماعية المتنوعة هو بالضرورة إطار لالتقاء مصلحة ظرفية يطول ويقصر بحسب ما سيستغرقه النضال من أجل تحقيق هذه المصلحة. ونعتقد أن إطاره التنظيمي الأنسب والأنجع هو التنظيم الجبهوي الذي تتحدد هيكلته وطرق تنظيمه وأساليب العمل بحسب مضمون البرنامج وعمق الاتفاق والانسجام حوله. ولا نستغرب حتى أن تتخذ الجبهة شكلا قريبا من الصيغة الحزبية إذا كان الاتفاق داخلها يقوم على برنامج مرحلي شامل ويضم قوى سياسية متقاربة من حيث التوجهات العامة والأهداف ويلف من ورائها قوى اجتماعية تشترك في كثير من الخصائص والمطامح. أما أن يكون حزبا بالمعنى العلمي الدقيق للكلمة فهو أمر متعسف على منطق التنظيم وعلى أسسه الفكرية باعتبار الحزب، هيئة أركان طبقية، سواء عبر عن مصالح العمال أو عن مصالح البورجوازية أو غيرها من الطبقات.
إن الحزب " اليساري " بالمعنى الماركسي اللينيني عامة يعني في تونس، في رأينا، الأطراف المتشبثة بالاشتراكية العلمية، بالماركسية اللينينية، تصورا للعالم، وتحليلا للرأسمالية، وتحديدا لدور الطبقة العاملة في هذه المرحلة التاريخية بصرف النظر عن التجارب التي لحقت تجربة الحزب البلشفي أي النماذج الصينية والألبانية والتي لا نعتبرها من الكلاسيك المعتد به رغم ما تنطوي عليه من إضافات وإيجابيات. وبلغة أخرى فإذا كانت كلمة " اليسار" بالمعنى السياسي العام أي من زاوية تبني برنامج التغيير المرحلي الذي تتبناه عديد الأطراف هي مصطلح يشمل قوى ذات أصول ماركسية وقومية ومستقلة فإن كلمة " الحزب اليساري " لا تعني في مضمار التنظيم الماركسي إلا القوى التي تتخذ من الماركسية فقط مرجعا فكريا وسياسيا وتستلهم من تجاربها نموذج التنظيم الحزبي الذي ترنو إلى تأسيسه في تونس. ورغم هذا الفارق الجوهري فإننا نعتقد أن اتحاد الماركسيين في حزبهم الخاص لا يعني بالضرورة أن يكون أو أنه في تعارض مع اشتراكهم من موقعهم المنظم في الانتماء لتنظيم جبهوي يجدون فيه أرضية اتفاق على برنامج أدنى من برنامجهم الخاص يساعدهم كما يساعد غيرهم على إنجاز مهمات المرحلة التي تهدف كل القوى المنضوية للجبهة تحقيقها. بل بالعكس فإن اتحاد الماركسيين في حزب خاص بهم مثله مثل اتحاد الأطراف اليسارية ذات الأصول والتوجهات القومية في حزب قومي موحد وقوي هو عامل قوة للإطار التنظيمي المشترك أي الجبهة.
الأسس الأيديولوجية والسياسية والتنظيمية للحزب
إن حركة نضال الطبقة العاملة ضد الاستغلال والقهر البرجوازي يمكن أن تفرز في مرحلة من مراحل تطورها عدة تعبيرات تعبّر عنها، تعكس وجهات النظر التي تسود في صفوفها وفي صفوف الأوساط المثقفة الثورية التي تنتصر لها وتبتغي أن تكون معبرا عنها بالقوة. وانطلاقا من هذه الحقيقة لا نرى في تعدد الأطراف التي تتكلم باسم الطبقة العاملة في تونس وتتبنى فكرها ومطامحها إلا إفرازا طبيعيا في طور معين من أطوار نضال الطبقة العاملة ونضال الشعب التونسي ككل وفي طور من أطوار انتشار الفكر الاشتراكي العلمي بين صفوف العمال والكادحين في بلادنا. وهو إفراز موضوعي وذاتي في نفس الوقت أولا باعتباره نتيجة سيرورة الصراع الطبقي في بلادنا وثانيا باعتباره يعكس مستوى الوعي الحاصل عند الطلائع الثورية من داخل الطبقة العاملة ومن خارجها.
بلغة أخرى إذا كان التفكير في تجاوز هذه الانقسامات والتشرذم يفترض نضج جملة من الشروط الموضوعية في النضال العام ببلادنا وأهمها انخراط العمال في النشاط السياسي الواعي بشكل بات يطرح في الظرف الراهن مهمات جديدة ومتقدمة، فإنه يشترط من جملة ما يشترط أيضا استعداد أحزاب اليسار ووعيها بضرورة تخطي أسباب الانقسام والتشرذم وإدراك القناعة المشتركة بأن نجاح الطبقة العاملة في دحر عدوها الطبقي ودك نظامه الاستغلالي، يشترط وحدتها كطبقة واعية بذاتها وتناضل من أجل ذاتها تحت راية هيئة أركان موحدة الإرادة والصفوف. فتوحيد جميع فصائل وواجهات نضال الطبقة العاملة يشترط بالضرورة وحدة البرامج والأهداف والخطط، هذه الوحدة التي لا يمكن أن تحصل إلا تحت راية قيادة موحدة. فوحدة الثوريين في تنظيم واحد موحد هي في الآن ذاته شرط وهدف ونتيجة لمسار من النضال والعمل الواعي.
إن مقومات وحدة حزب الطبقة العاملة متعددة ومترابطة الأبعاد تشكل خطا متكاملا ومنسجما أيديولوجيا وسياسيا وتنظيميا. وبلغة أخرى فإن وحدة الحزب المناط بعهدته تغيير المجتمع استراتيجيا من مجتمع الاستغلال والاضطهاد والعبودية العصرية إلى المجتمع الخالي من استغلال الإنسان للإنسان المجتمع الخالي من الطبقات ومن الصراع الطبقي، إنما تنبني وترتكز على خط سياسي ثوري، أي برنامج الثورة الخاص الذي يدرك بدقة طبيعة التناقضات الرئيسية والثانوية التي تشق المجتمع ويرسم في ضوء ذلك المهمات المباشرة والمرحلية، أي تكتيك الثورة، فضلا عن الهدف الاستراتيجي بعيد المدى.
ولا يمكن لهذا البرنامج أن يكون ثوريا بحق ما لم يستند إلى خلفية فكرية ثورية درست واستوعبت خصائص المرحلة التاريخية الكبرى التي يمر بها مجتمعنا في سياق تطور المجتمع الإنساني ككل. وليس هناك في الواقع من استوعب هذه الخصائص وتعمق في درسها ووضع بدائلها أكثر مما توصل إليه الفكر الاشتراكي العلمي الذي استفاد من كل الإرهاصات الفكرية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي سبقته فطورها ووضعها في نصابها عبر مختلف التجارب الثورية التي عرفها المجتمع الإنساني المعاصر واغتنى بما راكمته هذه التجارب من إضافات ما تزال هي الأخرى في حاجة إلى مزيد التعميق والتطوير وفقا للتطورات والمستجدات في مختلف الميادين، حتى تستجيب لتحديات العصر على جميع الأصعدة الاقتصادية والسياسية والفكرية والعلمية والاجتماعية.
لقد وضع ماركس وانجلز في بحر ما يقارب 60 سنة من النشاط الفكري والممارسة الثورية أسس الفكر الاشتراكي العلمي من الناحية النظرية العامة، الفلسفية والفكرية، وكذلك من الناحية السياسية والاقتصادية والاجتماعية فقدما نظرية شاملة ومتماسكة تحتوي على الأجوبة الأساسية الكبرى لمعضلات المجتمع الطبقي المعاصر، المجتمع البرجوازي. وجاءت نضالات الطبقة العاملة والشعوب خاصة في أوروبا وفي بلدان الشرق لتقدم إسهامات تجاوزت حدود التطبيق الخلاق للنظرية إلى تطوير جوانب كثيرة منها حتى راحت مكونا مرجعيا من مكوناتها. أبرز هذه الإسهامات ما أنتجه كل من لينين والبلاشفة خلال مراحل النضال ضد القيصرية وعلى رأس سلطة السوفيات وفي تجربة بناء الاشتراكية.
لذلك لا نرى مجالا لأن يسترشد حزب الطبقة العاملة في بلادنا بغير هذه النظرية التي تمثل أرقى ما أنتجه الفكر البشري، بغير الإرث الفكري العام للاشتراكية العلمية. ولا يمكن لهذا الحزب أن يتوفق لوضع خط وبرنامج الثورة في تونس من دون أن يستند إلى قوانين المادية الجدلية والمادية التاريخية كمرجع فكري خالص وأصيل وفي تباين واضح لا يشوبه الغموض أو الاختلاف مع كل التلفيقات الفكرية والسياسية التي واكبت نشوء وتطور الفكر الاشتراكي العلمي أو التي لحقت به تاريخيا، ومع التحريفات التي بلورتها النظريات " النقدية " البرجوازية والبرجوازية الصغيرة أو التي ادعت تبني الاشتراكية العلمية ولكنها حادت عنها وألحقت بها المسخ والتشويه.
تحتاج الطبقة العاملة، إلى جانب منهج التحليل العلمي والمرجعية الاشتراكية العلمية، وإلى جانب برنامج الثورة الخصوصي، تحتاج إلى هيئة الأركان المنظمة التي تجسد أرقى درجات الوعي بذاتها ولذاتها، هيئة قيادية طلائعية منظمة وموحدة تفكر وتخطط وتقود كل واجهات النضال من أبسط مهمة إلى أكثرها تركيبا وتعقيدا هو الحزب الماركسي اللينيني. لقد خاضت الماركسية في بواكير تجربة التنظيم الحزبي للطبقة العاملة معارك طاحنة مع العديد من الرؤى والمدارس والتجارب العفوية التريديونية الإصلاحية والفوضوية ( الباكونينية ). وخاض لينين صراعات مماثلة مع أنماط وتجارب معاصرة له ضد المنشفية والفرق الشعبوية التي أنتجتها تيارات الاشتراكية الديمقراطية الوافدة آنذاك على روسيا وكذلك مع تجارب من بلدان أخرى ( روزا لوكسمبورغ ) وعلى مستوى أممي ( بقايا الأممية الثانية وبداية الأممية الثالثة ). ونتيجة لهذا الصراع المرير في مجال التنظيم تبلور النمط اللينيني في الحزب القائم على قانون المركزية الديمقراطية كأمثل نموذج للتنظيم الثوري الذي يجسم تفوق الوعي على العفوية وتميز الديمقراطية الواعية عن الديمقراطية الشكلية وعن البيروقراطية وتفوق الوحدة الثورية عن مناهج تعايش الخطوط والتوفيقية البرجوازية الصغيرة.
هذه الأركان الثلاثة المكونة لخط الحزب الماركسي اللينيني التي تجسم الهوية الفكرية والسياسية والطبقية لحزب الطبقة العاملة : مرجعية اشتراكية علمية وبرنامج سياسي ثوري وخط تنظيمي من الطراز اللينيني. وكما قال لينين من اجل أن نتوحد وقبل أن نتوحد يجب أن نبدأ بالاختلاف، بمعنى يجب أن نتعمق في خصائص هذه الأركان الثلاثة التي من المحتمل أن تنطوي على خلافات بيننا لم نتبينها بعد، وعلى قدر ما نعمق النقاش في الخلافات المعروفة والمحتملة ستكون حظوظ تجاوزها أوفر بشكل سيمكننا من بلورة استخلاصات واضحة ودقيقة تشكل الضمانة الحقيقية لخوض غمار تجربة توحيد سليمة.
عوائق كثيرة وعوامل مشجعة
لنصارح بعضنا أن تأسيس حزب " يساري كبير " بالمعنى الذي أتينا عليه منذ حين، حزب يوحد الثوريين الماركسيين اللينينيين في تونس، إنما يستدعي منا قبل كل شيء الوعي بأن ما يوحدنا في الظاهر كثير ولكن ما يحتمل أن يفرقنا يمكن أن يكون بنفس الحجم والتعقيد ولا مهرب من ان نبسطه على بساط البحث الواعي والصريح والجريء. فنحن ننطلق من تجربة مريرة موروثة عن حقبة الصراعات اللامبدئية والأحكام المتعجلة المشحونة بالكثير من الذاتية والفئوية تعمقت على مدى العشرات من السنين بفعل المواجهات النقابية والشبابية والسياسية العامة.
وبعيدا عن جلد الذات فإن هذه الحقيقة تعكس ظاهرة موضوعية لأن " تعدد التعبيرات السياسية التي تتبنى فكر الطبقة العاملة يؤدي بالضرورة "، وإن في مرحلة من مراحل انتشار الفكر الاشتراكي العلمي في صفوف الطبقة العاملة، إلى الانقسامات والمصادمات التي لا تفعل غير أن تضعف كل الأطراف على حد السواء. وليس من المبالغة في شيء القول أن هذه الانقسامات أرهقت تيارات اليسار في تونس تحت ضربات قمع النظام لها وهجمات التيارات الدينية عليها علاوة على ما تعج به الدعاية البرجوازية من بضاعة فكرية وأخلاقية وثقافية مدمرة لمطامح الثورة والتحرر في بلادنا وعلى النطاق العالمي.
وإذا كان هذا الواقع السلبي والأليم نتاج شروط موضوعية وذاتية فإن " انصهار اليسار الثوري في حزب واحد " هو، كما جاء في نص للرفاق في حزب الوطد الموحد ( خلاصات اللجنة المركزية بتاريخ 26 جانفي 2015 )، حتمية لا مهرب منها سيتكفل التاريخ بتحقيقها. ولكننا نقول أيضا أن حتمية اتحاد اليساريين الثوريين، الماركسيين اللينينيين في حزب واحد بدل التشرذم والانقسامات ليست حتمية متروكة للقدر ولن يكتب لها أن تحصل إلا بتوفر شروطها الموضوعية والذاتية، أي من دون أن تتطور حركة النضال الثوري بدرجة أن تصبح المهام الثورية المطروحة عليها تملي على الثوريين الوحدة كي يتسنى لها أن تتحقق. كما لا يمكن أن يتم هذا التوحيد من دون أن يدرك الثوريون، وبقدر كبير من الوعي والاستعداد الذي يلامس الطواعية، واجبهم في تجاوز خلافاتهم وانقساماتهم وعلى أسس صحيحة وواضحة. وحين ننظر إلى واقعنا اليوم نستطيع القول بشيء من الوثوق إن كلي الشرطين قد جهزا بقدر مهم من النضج إذ أصبحت أوضاع النضال من اجل استكمال مهام الثورة ومواجهة تيارات الالتفاف عليها تطرح وبإلحاح على الثوريين، إلى حد التأنيب، توحيد صفوفهم كشرط لا جدال فيه للاضطلاع بمسؤولياتهم حيال الثورة والشعب. ومن جانب آخر وكما سبق أن أشرنا إليه جرت سلسلة من الأحداث والانتكاسات لعل أبرزها انتخابات 23 أكتوبر 2011 ثم انتخابات 26 أكتوبر 2014، هزت القناعات القديمة المتمترسة خلف الحزازات الفئوية لدى أطراف اليسار وأجبرتها على أن تنظر بإيمان متزايد وثقة صادقة في الوحدة مفتاحا من مفاتيح كسب المستقبل.
لقد ساهمت هذه التطورات السياسية العامة موضوعيا في التخفيف من حدة مشاحنات الأمس – حتى وإن لازالت مستمرة في بعض مجالات النشاط المشترك كالشباب والنقابات – وتحت ضغط الواقع والوعي على حد السواء تتجه العلاقات إلى درجات متزايدة من النضج. وقد كان ميلاد الجبهة الشعبية استجابة للضرورة وتجسيدا للقناعة في نفس الوقت بالوحدة. وهما أمران أملتهما استحقاقات النضال الناجمة عن قيام ثورة 17 ديسمبر – 14 جانفي. وبفضل هذه التجربة - رغم كل نقائصها - وبفضل منجزات النضال الموحد تحت يافطتها تناقصت حدة الخلافات القديمة أو في أحسن الأحوال أزاحت تلك الخلافات إلى زوايا التناسي بفعل إرادة التغاضي عنها عمدا لتلافي تعكير صفو القليل من الوحدة لحماية التجربة الوليدة من الانتكاس خاصة وهي تتعرض باستمرار لكل ضروب التآمر والمناورات المعادية.
وليس للجبهة الشعبية في ظروفها الراهنة وفي الظروف التي مرت بها ان تفعل أكثر مما فعلت في هذا المضمار لأن وحدتها كانت ولا زالت وحدة اتفاق سياسي تكتيكي مباشر لا يسمح ولن يسمح تحت وطأة ورهانات النضال المباشرة تقدير حقيقة ونوعية الوحدة التي تجمعها حول المشروع الثوري الاستراتيجي أي طبيعة الثورة التي نهدف ونعد لها، ثورة ضد من؟ ولصالح من؟ وعلى من تستند من الطبقات الاجتماعية؟ وما طبيعة المرحلة التي نحن بصددها والمرحلة الجديدة التي نرنو إلى خوض غمارها؟ إن جملة المقولات من قبيل الانتقال الديمقراطي والتغيير الثوري وما إليها من المصطلحات التي باتت رائجة على الساحة في تونس هي مقولات غارقة في الضبابية والتعميمية لا تنطلق لا من تقييم مدروس للأوضاع السائدة والتناقضات الواجب حلها ولا من معرفة دقيقة للمهام والأهداف التكتيكية والإستراتيجية المطروح تحقيقها. ولا نبالغ في شيء إذا قلنا أن شعار الثورة الوطنية الديمقراطية الذي يوحد خطابنا المشترك ( بصرف النظر عن الحرب الضروس القديمة حول أي المهمتين أسبق الوطنية أم الديمقراطية والتي عفا عنها الزمن في ما يبدو اليوم ) يحتاج إلى مزيد من التوضيح والتدقيق حتى يكون محل اتفاق مدروس وواع وعميق. لقد ورثنا من سنوات الصراع القديم خلافا حادا حول طبيعة المجتمع التونسي والمرحلة التاريخية التي يمر بها وخصائصها الاقتصادية والاجتماعية وما عاد من الجائز اليوم التعاطي مع هذا الخلاف بالطريقة المتوخاة في السابق. إن فض هذا الخلاف بالنقاش الصريح والمعمق هو حجر الزاوية لرسم معالم الثورة التي نطرحها سويا وتحت راية حزب موحد. ونعتقد أن فصل هذا الخلاف من شأنه أن يسهل تجاوز بقية الخلافات المتفرعة عنه وبالتالي الاتفاق على تكتيك الثورة في تونس.
هنالك مسألة أخرى تكتسي أهمية خاصة في تجربة اليسار الماركسي في تونس بكل تفرعاته – تماما كما كان الأمر في غالبية التجارب الأخرى – هي المسألة التنظيمية التي عرفت ثقافات تنظيمية مختلفة بل ومتنافرة أحيانا من حيث التصور والممارسة رافقها حجم هائل من المماحكات القديمة وما خلفته من نزعات ذاتية لا زالت منتشرة وغافية بين صفوفنا حتى اليوم وما تلبث أن تظهر بمناسبة " المعارك " النقابية والشبابية. ومن غير المضمون ان نتوحد وان نضمن لهذه الوحدة الديمومة والرسوخ بالتعويل فقط على وحدة المرجعية والبرنامج وعلى أفكار عامة ومجرد ضمنيات في مجال التنظيم. والأكيد أيضا أن ترك هذه المسألة لتتكفل بها الحياة ما بعد التوحيد إنما هي مجازفة غير محمودة العواقب.
ما من شك أن التقدم على هذه الواجهات من الصراع الفكري السياسي سيدفع بنا إلى التقدم بخطى أسرع إلى وضع أسس التنظيم الموحد وحتى إن استمرت بعض ترسبات الماضي فسيكون من الهين، أو في أسوأ الأحوال أقل صعوبة، أن نواجه تلك الرواسب القديمة الموروثة من تجربة أطراف اليسار الماركسي وستتكفل التجربة الجديدة المشتركة بتسوية هذه العوائق وما قد يطرأ لاحقا من مصاعب النشوء والتطور في تجربتنا الجديدة من منازع الذاتية والمماحكات الصغيرة المعزولة التي تظهر في خضم النضال حتى داخل الحزب الواحد.
نحن ندرك أن التاريخ يلقي على عاتقنا مسؤولية جسيمة، مسؤولية توحيد صفوف الثوريين الماركسيين اللينينيين ومن ورائهم توحيد نضال الطبقة العاملة. وإذا كنا سنواجه في هذه المهمة صعوبات لا حصر لها فإننا في الحقيقة ننطلق من مكتسبات هامة وثمينة أصبحت اليوم لا فقط تشجع على خوض غمار هذه التجربة بل تملي علينا الاضطلاع بها دون تردد. ولا شك أن إقدامنا على ذلك ليس من باب المغامرة بل هو نابع من إرادة واعية وواثقة في الانتصار إذا ما انتهجنا فيها اتجاه الصراع الفكري العميق والمبدئي والصريح والبحث البناء وإذا أجرينا هذا النقاش وفق منهجية علمية وعملية مدروسة. إن لمنهجية العمل أهمية قصوى قد يكون النجاح مرتهنا بها أشد ارتهان. وفي هذا الإطار نعتقد أنه لا بد من بعث إطار مركزي يعنى بتنظيم النقاش وإدارة الصراع وصياغة الحوصلات وتعميمها وضبط الخطط العملية المترتبة عنها. فلا بد أن يخاض صراع فكري وسياسي في مستوى قيادي مشترك ويعمم بصورة متدرجة وواقعية وحذرة دون تسرع أو إبطاء قبل أن يقع توسيع النقاش في مستوى الإطارات المتقدمة مركزيا وجهويا وقبل فتح ورشات التفاعل القاعدي. إن تبادل وجهات النظر والمقترحات المدونة يساعد أكثر من أي أسلوب آخر على إبراز الاتفاقات وحصر الخلافات بما يساعد على السيطرة على التباينات. ومهمة الإطار المركزي الموحد هي بالضبط المساعدة على جمع حصيلة النقاشات ورسم المراحل الموالية لتعميق الاتفاقات وتطويق الخلافات وتسهيل حسمها.
إن فترة العمل المشترك تحت يافطة الجبهة الشعبية أكدت لنا أن قدرا كبيرا من الاستعداد والحماس للتوحيد في إطار حزب " يساري " ثوري كبير تحدو أوساطا واسعة من قواعد " أحزاب اليسار" وأن حظوظ النجاح في ذلك ممكنة وكبيرة وان الاستعداد المعبر عنه حتى الآن جديران بأن ينتقل بنا من الحلم إلى التجسيد شرط أن يكون انتقالا واعيا علميا وثوريا.