الأمثال الشعبية مصدرا صادقا للتأريخ


أحمد صبحى منصور
الحوار المتمدن - العدد: 7991 - 2024 / 5 / 28 - 23:47
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

مقدمة :
1 ـ روايات التاريخ ـ إذا صدقت ـ من وجهة نظر بحثية ــ فهى حقائق نسبية ، أى تحتمل الصواب والخطأ . ما عدا المصادر التى لم يُقصد بها أن تكون تاريخا ، وذكرنا منها ـ من قبل ـ وثائق الوقف ، والتى تضع شروطا لمن يعمل بها ومناهج تعليمها ، مع تفصيلات يستخلص منها الباحث التاريخى حقائق تعبر عن عصرها ، ولم يكن فى ذهنية واضع الوثيقة أنها ستكون مصدرا تاريخيا . ويضاف الى ذلك أن المعلومات الواردة فى هذه الوثائق منها ما يخص نواحى إجتماعية وإقتصادية ودينية ـ لا تحظى عادة بإهتمام المؤرخين ، ولا يذكرونها الا فى سياقات عرضية بين سطور تاريخهم الذى يلاحق السلطان وأعوانه .
2 ـ ما قلناه عن الوثائق ينطبق (غالبا ) على ( الأمثال الشعبية ) . لأن الأمثال الشعبية تزداد أهميتها عن الوثائق ، فالوثائق مرتبطة بزمنها ومكانها وأهلها ، أما الأمثال الشعبية فهى صناعة شعبية عفوية يعبّر بها الناس عن أحوالهم ومشاعرهم وما يحدث لهم ، وفى كلمات قليلة سهلة الحفظ ، وهى الأكثر شيوعا وإنتشارا بين الناس لأنها تنبع من تجاربهم ومعاناتهم .ثم أنها تظل متداولة طالما بقيت ظروف منبتها ،وبتكرار نفس الظروف ومعايشة نفس الأحوال . ولعل مصر هى المثل الحىّ ، خصوصا وأن سمات الدولة الفرعونية هى السائدة حتى الآن مع إختلاف العصور ، فهى أقدم دولة مستبدة كانت ولا تزال . وحتى الآن يقال فى ريفنا المصرى ( على رأى المثل .. ). والباحث التاريخى الجادّ ـ والذى أصبح عملة نادرة فى عصرنا البذىء ـ يستخلص منها مسكوتا عنه من أحوال الناس وقتها .
3 ـ ونختار العصر المملوكى ، حيث حكم العسكر الرقيق الذى جىء به الى مصر ، فصار القوة العسكرية الحاكمة فيها ، وأذاق المصريين أبشع أنواع الظلم ، إلا إنه وصل بمصر الى أن تكون لها إمبراطورية تمتد من جنوب الأناضول وغرب العراق الى طبرق بالاضافة الى شمال السودان والحجاز ، ثم إن المماليك هم الذين أوقفوا زحف المغول ، وهم الذين إستأصلوا الوجود الصليبى فى الشام ، وهم الذين لم يقيموا لأنفسهم قصورا ، بل لأنهم جنود عسكر فقد أقاموا فى قلاع لهم فيما يعرف الآن بالزمالك على شاطىء ( بحر النيل ) فكانوا ( المماليك البحرية )، ثم إنتقلوا منها الى القلعة وبروجها فأصبحوا ( اللمليك البرجية ). مع عدم وجود قصور لهم ، فلا تزال منشئاتهم الدينية ترصّع القاهرة وغيرها حتى الآن . الحكم العسكرى المصرى الحالى فى مصر يكرر الظلم المملوكى ، وإستبداده ، غير أن المماليك كانوا متسقين مع ثقافة عصرهم فى القرون الوسطى ، أما العسكر المصرى فهو يتناقض مع ثقافة عصرنا من الشفافية والديمقراطية وحقوق الانسان ، ثم ـ وهذا هو العار ـ فإنه عسكر خائن خائب وضيع واطى فاسد ، لا ينتصر إلا على الشعب المصرى الأعزل ، ثم أصبح يبيع أجزاء من الوطن ويرهن مستقبله ويقهر أهله ، ويجعل مصير مصر وأهلها رهينة لقوى إقليمية تمت صناعتها فى القرن الماضى فقط ، ونحن نعايش هذا العار الآن فى مذابح غزّة وأن يكون العسكر المصرى خادما للصهاينة . ومن يجرؤ على الانتقاد فمأواه القتل والسجن والاختفاء القسرى.
4 ـ لقد عبّر الشعب المصرى فى العصر المملوكى عن معاناته وأحواله ، وتم تسجيلها فى كتاب ( المستطرف فى كل فنّ مستظرف ) لصاحبه : ( بهاء الدين الأبشيهى : ) ت ( 790 : 852 / 1388 : 1448 ). ومعظم الأمثال الشعبية التى ذكرها تظل صالحة للإستعمال فى عصر العسكر المصرى الخائب الخائب الواطى الفاسد ، وخصوصا ما يخص أكابر المجرمين من الحكام ورجال الدين . فالمماليك تحالفوا مع رجال دين عصرهم حيث ساد التصوف السُّنّى ، والعسكر الحالى متحالف مع رجال دينه وهم بين السّنّة والتصوف . وبينهما دارت عجلة الظلم والتدين السطحى والفساد الدينى والسياسى .
5 ـ ونعطى أمثلة :
أولا : عن الصوم والذى أصبح عادة إجتماعية خالية من التقوى يقول المثل الشعبى ( يا طالب الشّر من غير أصل تعالى للصايم بعد العصر ) . ومعنى ذلك أن أنهم تحملوه مضطرين مقهورين، فكان رمضان – خاصة في نهاية اليوم فيه – مسرحاً للمشاجرات والإنفلات العصبي بحجة الصوم والحرمان – ولا يزال ذلك مرعياً حتى اليوم..
ثانيا : عن إنحلال أكابر المجرمين من رجال الدين :
1 ـ ( هشّ يا دبانة .. أنا حبلى من مولانا )
2 ـ ( ضلالى وعامل إمام ..والله حرام ).
3 ـ وترسب فى الضمير الشعبى أن يقال " البساط أحمدى" فى التعبير عن الإنحلال فى القول وفى الفعل. وكان ذلك سببا فى شهرة الأحمدية وكثرة مريديها. ( الأحمدية ) هم أتباع السيد أحمد البدوى .
ثالثا : عن التوسل بالأولياء وزيارة قبورهم فى الموالد :
( يشوف الغنم سارحة .. يقول سألناكم الفاتحة ).
رابعا : إدمان الحشيش
1 ـ ( ذكروا مصر بالقاهرة ، قامت باب اللوق بحشاشيها) .
الأصل فى هذا المثل ما ذكره المقريزى فى ( الخطط ). يقول عن طريقة استعماله ( ورأيت الفقراء ــ أى الصوفية ــ يستعملونها على أنحاء شتى ، فمنهم من يطبخ الورق طبخا بليغا ويدعكه باليد دعكا جيدا حتى يتعجن ويعمل منه أقراصا ، ومنهم من يجففه قليلا ثم يجمعه ويفركه باليد ويخلط به قليلا من سمسم مقشور وسكر ويستفه ويطيل مضغه ، فإنهم يطربون عليه ويفرحون كثيرا ، وربما أسكرهم) . ( ج 2 / 520). وهى نفس طريقة الاستعمال التى حافظ عليها المصريون حتى القرن الحالى حسبما يذكر أحمد أمين فى ( قاموس العادات المصرية) .( ص 170 ). ويقول المقريزى عن أماكن إدمان الحشيش ( وكان قد تتبع الأمير سودون الشيخونى الموضع المعروف بالجنينة من أرض الطبالة ــ أى العباسية الآن ــ وباب اللوق وحكر واصل ببولاق وأتلف هنالك من هذه الشجرة الملعونة، وقبض على من كان يبتلعها من أطراف الناس ورذائلهم ، وعاقب على فعلها بقلع الأضراس فقلع أضراس كثير من العامة فى نحو سنة ثمانين وسبعمائة) .( خطط المقريزى 2 / 521 ). وسجل كلوت بك فى كتابه ( لمحة عامة الى مصر ) أن المصريين إعتادوا أكله وشربه وتدخينه فى القهاوى العامة وفى حوانيت خاصة به تسمى المحاشش)،وقال : ( والمصريون أميل للحشاشين من غيرهم) . ويقول المثل الشعبى الحديث الذى ذكره أحمد تيمور فى كتابه عن الأمثال الشعبية المصرية ( مايقطعش بالحشاشين ، يفرغ العنب بيجى التين) أى لايخلو الحشاشون من عناية تحف بهم فإذا انقضى أوان العنب ظهر التين .
خامسا : الظُّلم ..!!
1 ـ عن الابتعاد عنهم يقول المثل الشعبى المملوكى ( دخلنا بيت الناس الظالمين ، وخرجنا سالمين . قال إيش دخّلكم وإيش خرّجكم ).
2 ـ ولكن يد الظُّلم كانت تطول الجميع لأن عجلة الظُّلم دارت مسلّحة بالدين الشيطانى المسيطر بسبب تحالف العسكر مع رجال الدين ، والذين إعتبروا الظّلم عقوبة إلاهية للناس لا مفرّ منها ولا سبيل للإعتراض عليها . وكان الإمام الشعراوى ـ أكبر الفقهاء فى أواخر العصر المملوكى وأوائل العصر العثمانى ـ أبرز الدعاة لهذا الإفك .
2 ـ وإشتهر بعض المماليك بالتطرف فى التعذيب وبالتطرّف فى التدين . فالمؤرخ جمال الدين أبو المحاسن يقول عن الأمير المملوكي تمراز: ( كان يّظهر التدين ، وبه بطش وجبروت . وكان يعاقب العقوبة الشديدة المؤلمة على الذنب الصغير. )، أى كان التدين عنده بطشاً وجبروتاً وتطرفاً في إيقاع العقوبات. ويقول السخاوى في الأمير تمراز يلبغا السالمى أنه كان يضرب المظلوم ، ( ثم يقوم يصلّى الضحى ثمانى ركعات مع إطالة ركوعها وسجودها ولا يجسر أحد أن يترك الضرب دون فراغه من الصلاة . ) ( التبر المسبوك 135 ) . أى كان يطيل الصلاة ليطيل في تعذيب الضحية.. وكلما ازداد الضحية في صراخه كلما ازداد صاحبنا في ابتهاله..وهكذا لم ير الظلمة من المماليك تعارضاً بين الظلم والدين حيث أن ممثلي الدين في نظرهم يباركون ظلمهم للناس . يقول الشاعر المملوكى ( الحرّاتى :
قد بلينا بأمير ظلم الناس وسبح
فهو كالجزار فينا يذكر الله ويذبح
كل هذا أوجزه المثل الشعبى : (فم ـ يسبح وقلب يدبح).!
بالمناسبة : حين كانوا يستدعوننى الى ( أمن الدولة ) لإرهابى وتخويفى كانت سجادة الصلاة على كرسى بجانب الضابط الذى يحقق معى . وحين كان يؤذن للصلاة كانوا يهرعون لأدائها جماعة ، بينما صرخات ضحايا التعذيب تغلّف المكان .!
3 ـ خوفا من هذا التعذيب ـ الذى هو أساس الحكم ـ صيغت أمثال شعبية في العصر المملوكي تعبر عن هذا ، منها :(الخضوع عند الحاجة رجولية)(الناس أتباع لمن غلب) (سلطان غشوم خير من فتنة تدوم) . وباستمرار الظلم مسلحا بالدين الأرضى الشيطانى ــ بعد العصر المملوكى ــ حكيت أمثال أخرى على نفس النمط ، منها : ( ضرب الحاكم شرف) (علقة تفوت ولا حد يموت)(طاطي لما تفوت)(ما حد يقول يا جندي غطي دقنك). وكل ذلك للحفاظ على حياة ذليلة ، فإن خسر تلك الحياة ظلماً ـ وكثيرا ما يحدث هذا ـ يقول له المثل حينئذ ـ (المخوزق يشتم السلطان) .( تيمور : الأمثال الشعبية ).أى لا حرج عليه إذا شتم السلطان والخازوق الحديدى فى أحشائه .!! ويقول أحمد أمين فى كتابه ( قاموس العادات والتقاليد ) إن ألفاظ الملق والنفاق كثيرة في اللغة الشعبية (ص : 428 ). ومنها فى ( الأمثال الشعبية ) ل ( تيمور ): (در مع الأيام إذا دارت)(إن دخلت بلد تعبد عجل حش وأطعمه)(اللي ما تقدر تواقعه نافقه)(اللي ما تقدر عليه فارقه وإلا بوس أيديه)( الأيد اللي ما تقدر تقطعها بوسها)( بوس الأيادي ضحك على الدقون)(إن كان لك عند الكلب حاجة قول له يا سِيد) ( اضرب البريء لما يقر المتهوم)(حاميها حراميها)(سيف السلطنة طويل). وترسب في الضمير معنى لكلمة (الستر) : (واللي سترها في الأول يسترها في التاني )
4 ـ والأمثال الشعبية في العصر المملوكي تصور يأس الشعب من كل حاكم مهما أعلن عن عزمه على العدل فسينحو نحو من سبقه. ومنها : (لا تفرح عمن يروح حتى تنظر من يجئ) .
5 ـ ولا تزال الأم الريفية تدعو لابنها (الله يكفيك شر الحاكم الظالم).!!
6 ـ والحاكم المصرى الظالم الآن يترصّد المصريين المستضعفين ؛ فى أى نقطة تفتيش على الطريق ، وفى مقرات أمن الدولة فى كل مكان ، وفى مراكز الشرطة وأقسامها، وفى الهجوم الليلى على بيوت الغلابة ، فكلما إرتفع رصيد الضابط فى عدد ضحاياه ترقّى . وهو مُحصّن من المساءلة مهما فعل .
أخيرا : قال الله جل وعلا :
( وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43) وَأَنذِرْ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعْ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44) وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمْ الأَمْثَالَ (45) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46) فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ (47) يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ (49) سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51) هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ (52) ابراهيم ).
قل : صدق الله العظيم .!!