دعوة شيوخ التصوف للعلم اللدني


أحمد صبحى منصور
الحوار المتمدن - العدد: 8004 - 2024 / 6 / 10 - 02:56
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

كتاب : أثر التصوف المعمارى والثقافى والاجتماعى فى مصر المملوكية
الفصل الثانى :( أثر التصوف الثقافى فى مصر المملوكية ):
( فى العلم ـ العلوم ـ التعليم ، الأدب والفنون )
دعوة شيوخ التصوف للعلم اللدني
1 ـ يقول الشعرانى :( وإلأُمّى الذي لم يقدم له اشتغال بعلم الظاهر والنقل اقرب الى الفتح من الفقيه والمتكلم ،لأنهما عوقبا بالجهل بالعلم اللدني الفتحي ) ..أى يفضّل الشعرانى المريد الجاهل بالقراءة والكتابة ( الأمّى ) على مريد آخر يكون فقيها أو عالما بعلم ( الكلام ) أى العقائد السُّنيّة ، لأن الفقيه العالم بالشريعة السنية والمتكلم العالم بالعقائد السُّنيّة محرومان من الحصول على العلم اللدنى ( الفتحى ) أى الذى ينزل وحيا وفتحا لارباب التصوف بزعمهم.
2 ــ وحين تتلمذ الشعراني على شيخه (الأُمّى) الخواص أمره الخواص في أول اجتماع به أن يجمع كتبه ويبيعها وينفق ثمنها احسانا ، فاستجاب لطلبه. وكان الشعرانى قد دوّن على هوامشها الكثير من تعليقاته ، حسبما يحكى عن نفسه . وطلب الخواص منه ان يستعيض عنها بالتجرد والذكر حتى ينساها، فاستجاب له ، ثم طلب منه ان يعرض عن حضور مجالس العلم عاما بأكمله فامتثل أمره . ثم اتصل به بعد هذا العام، فقال له شيخه: " بقيت فارغا والفارغ يملأ ".!. ثم طلب منه ان يعتزل الناس وينقطع للذكر ، فأقام على ذلك بضعة أشهر ، ثم امره بالزهد فانصاع ، حتى أصبح كأنه يصعد بالهمة في الهواء " ثم محى الله العلوم النقلية من قلبه واقبلت عليه العلوم ــ الوهبية ونزل به الهاتف في 17 رجب 931 أثناء وقوفه بالفسطاط اتجاه الروضة ، حيث تزاحمت العلوم اللدنية على أبواب قلبه وقد وسع كل باب ما بين السماء والأرض .............الخ ) .
الشعرانى إفترى هذا الكذب الهائل ليضع بالتلفيق أساسا لما يُعرف بالعلم اللدنى الذى يستوجب عندهم المحو الكامل لكل المعارف الفقهية وما يوصّل اليها من علوم اللغة والنحو والبلاغة . ولكن الشعرانى نفسه يُكذّب نفسه . فلم تنمح من قلبه تلك العلوم ( النقلية ) لأنه ببساطة كان أكبر فقيه فى القرن العاشر الهجرى . وعلى عادة العصر المملوكى قام الشعرانى بتلخيص ما قاله السابقون فى الفقه وعلوم اللغة ، وترك منها تراثا تفوق به على غيره فى عصره . الشعرانى هو الذى كتب ( الميزان الكبرى) وقد عرض فيه لمذاهب أصول الفقه، وأقوال الأئمة الفقهاء وتابعيهم ، وله أيضا : ( كشف الغُمّة عن جميع الأمة ) فى الفقه على المذاهب الأربعة . وله فى علوم اللغة (مختصر ألفية ابن مالك) فى النحو ، و( المقدمة النحوية )، كما كتب موسوعة ( الدرر المنثورة فى بيان زبدة العلوم المشهورة ) فى علوم القرآن والفقه وأصوله والنحو . بل قام بإختصار تذكرة الامام السويدى فى الطب .
ولكن الشعرانى بهذه الرواية يصور نظرة الصوفية للعلم السُّنى وكيفية التخلي عنه للوصول الى العلم اللدني . يقول باحث معاصر : ( وقد تابع الشعراني اساتذته في الهجوم على العلم الظاهر ولا يكاد يخلو له كتاب من حملاته على العلم) .
3ــ وحقد الأولياء الصوفية الأميون على الفقهاء السنيين ،وأظهروا الاستعلاء عليهم بما ادعو من العلم اللدني ، فكان الخواص ( الأُمّى ) يقول : ( لا يسمى عالما عندنا إلا من كان علمه غير مستفاد من نقل او صور ، بأن يكون خضرى المقام) ، أى على مقام أو منزلة ( الخضر ) الولى الصوفى الخالد الذى لا يموت والذى رسموا شخصيته الخرافية على أنه العبد الصالح الذى صاحب موسى فى سورة الكهف . ويصف الخواص الفقيه فى العلم الظاهر بأنه ( حاك لعلم غيره فقط فله أجر من حمل العلم حتى أدّاه ، لا أجر العامل ) . ويفتخر الخواص بعلم ( أهل الحال ) أى العلم اللدنى ، ويقول : (تمجُّه العقول من حيث أفكارها ولا تقبله إلا بالإيمان فقط ) . اى بإعترافه أنه لا يستقيم مع العقل ، ولذا يحتاج الى الايمان والتسليم به دون تفكير أو نقاش .
وافتخر الشعراني بأن من المنن ترفقه بالفقهاء إذا حضروا مجلسه وهو يتكلم فى ( علوم التصوف ) ورموزه التى تستعصى على الفهم ، وأنه لا يحاول إحراج أولئك الفقهاء وإظهار جهلهم بعلوم التصوف ورموزه أمام المريدين ، وقال : ( هذا الأدب قلّ من يفعله من الفقراء ( أى الصوفية ) بل رأيت من يقصد الفقيه اذا حضر دروسه ويقول لأصحابه : إش قولكم فيمن يبين لكم جهله بالطريق : ثم يعزم عليه " ) أي يدعوه للكلام في رموز الصوفية فلا يعرف ...
وقد جعلوا من انفسهم ناصحين للفقهاء بترك (العلم السّنى )، يقول المرصفي لأحد طلاب الأزهر: ( اياك ان تطالع شيئا من العلم واختص بالذكر . ). وعلّل ذلك بان ذلك الفقيه ( صاحب نفس ) أى صاحب إعتداد وفخر بعلمه ( الظاهر ) ، وأنه ( كلما ازداد علما إزداد تكبرا على الناس فأمره بالذكر لعل حجابه يرق ويذهب عنه العجب والرياء بعلمه . )
ويقول الخواص " ما جعل الله العلم في قلوب العلماء ليصيروا به أربابا على الناس وإنما اعطاهم العلم لينفعوا به الناس ) ... وتلك نصيحة غالية لولا أن الصوفية هم أول المتهمين بهذا مع افتقارهم للعلم . ولا ننسى ان الصوفية حينما سجنوا ابن تمية ـــ سجنه الأخير ــ ( منعوه من الكتابة والتصنيف والفقه وصادروا ما عنده من الكتب والورق وما صنفه، وكان خمس عشرة ربطة ) ..
وجمع الخيال بكاتب مناقب الحنفى ، فافترى رواية تصور صاحب اعظم عقلية فى العصر المملوكى ـ عبد الرحمن بن خلدون ــ وقد انبهر بعلم الشيخ الصوفى شمس الدين الحنفى فأصيب بالجذب مما سمع ، تقول الرواية أن ابن خلدون حضر ميعاد الحنفى مترددا فتكلم الحنفى ( ودقّق وأطنب على الخواطر والأسرار حتى خرج كلامه عن الأفهام ، فصار ابن خلدون يضطرب وينتفض حتى وصل إلى محل النعال ، فلما انقضى الميعاد حملوه على الحنفى فرد عليه حاله فلما ان افاق طلب المبايعة وأن يكون من مريدي الحنفي . ).! ،وقال : ( وكان الحافظ ابن حجر يجلس بين يدي الحنفي جاثيا على ركبته ومثله البساطي والأخنائى والعيني )
وعلى أى حال فإن تفضيل المريد الصوفي على الفقيه مبدأ قديم قال به معتدلو الصوفية كابن الحاج القائل انه ( اذا كان قبيحا ان يُسأل عن العالم فيقال انه بباب الأمير، فما بالك بالمريد الذي خلف الدنيا وراء ظهره ) ..
4 ــ وارتبط عداء الصوفية للعلم بدعوتهم للعلم اللدني ( الذي يهبه الحق تعالى للعارف بلا واسطة ) بمجرد الرياضات ( الروحية ) الصوفية . وزعم الشعرانى أنه كان يلقى ( الخضر ) شيخ العلم اللدنى فى التصوف ، والذى يتمتع بالخلود دون موت بزعمهم .وكتب الشعرانى كتابه ( الميزان الخضرية ) أورد فيه أكاذيب يزعم أنه سمعها من الخضر ، ومنها أن الخضر نصحه بأن يكثر من الجوع والورع حتى يرقّ حجاب قلبه ويشهد الشريعة كشفا وشهودا ، أى تتنزل الشريعة وحيا على قلبه بالعلم اللدنى ، ففعل الشعراني ذلك ( حتى شهد من الشريعة وما تفرع عنها )
ويقول الشعراني فى الدعوة الى العلم اللدنى بديلا عن ( العلم الظاهر ) : ( لو انك يا اخى سلكت على يدي شيخ من اهل الله لوصلك إلى حضرة شهود الحق تعالى فتأخذ عنه العلم بلا واسطة عن طريق الإلهام الصحيح من غير تعب ولا نصب ولا سهر ، كما أخذه الخضر. فلا علم إلا ما كان عن كشف وشهود لا عن نظر وفكر وظن وتخمين )
وإعتبر الشاذلي (من لم يتغلغل في علوم القوم ( أى الصوفية ) مات مُصّرا على الكبائر )
5ـ ولأنهم نبذوا العقل وأنكروا العلم ــ ولأن الحياة لا تعرف الفراغ فقد شغلت الخرافات ما كان يمكن ان يشغله العلم متحصنا بالعقل ) .
ونلمح آثار تلك الخرافات واضحة في التراث الصوفي في العصر المملوكي يقول الشعراني عن السيوطي " رأيت الشيخ مرة ومعه مفاتيح كثيرة فأعطاها لي ، وقال : هذه مفاتيح علومي فخذها " ) .
وروى عن احدهم قوله صعدت جبل قاف فرأيت سفينة نوح مطروحة فوقه " وقال آخر " جبل قاف امره قريب مثل جبل كاف وجبل صاد وجبل عين وهى جبال محيطة بالأرض حول كل ارض جبل بمنزلة حافظها ،وجبل قاف بهذه الأرض ، وهي أصغر الأرضين، وهو أيضا أصغر الجبال ،وهو جبل من زمردة خضراء. وقيل أن خضرة السماء من خضرته ، وحُكى أن وليا احتاج للنار فرفع يده الى القمر فاقتبس منه جذوة ...) ..
6 ــ واعترفت المصادر التاريخية والصوفية بجهل بعض مشاهير الصوفية مثل نصر المنبجي خصم ابن تيمية ، والذى كان متعصبا لابن عربى ، ولا يعرف عنه شيئا ، والذى ( كان لا يعرف ما يُعاب به ابن عربي الا لكونه منسوبا الى الزهد )
وكان عبد الرحيم شيخ الطريقة الفارضية في القرن التاسع (يحب ابن الفارض وابن العربي على جهل ولم يكن له المام بشيء من العلم ،ولا يعرف شيئا ممّا يقولانه ) .ويعترف الشعراني بهذه الحقيقة فيقول (ادعى طائفة من اهل الزمان أنهم خلفاء أشياخ من الأكابر ، وهم على طائفة من الجهل ) .
وادعى الأميون من الصوفية العلم اللدني مثل ( المتبولى. ) . وكان داود بن ماخلا ( جامعا بين علمي الظاهر والباطن وله مؤلفات عجيبة مع انه أمى ) ومثله محمد وفا الذي كان ( أُمّيا ) ( وله لسان غريب في علوم القوم ) . أى كان يتكلم كلاما غريبا عجيبا بطريقة الصوفية ويسمى ذلك علما لدنيا .
وتناقض الشعرانى ، فكان يصف خصومه ومنافسيه من صوفية عصره بالجهل ، ويعتبر جهلهم عيبا ، ومع ذلك كان يفخر بشيخه الخواص ، وبأن الخواص كان أُمّيا لا يقرأ ولا يكتب . فيقول عنه مثلا : ( فهذه نبذة صالحة من فتاوى شيخنا وقدوتنا ولى الله تعالى الكامل الراسخ الأمي : مترجما عن معنى بعضها لكونه رضي الله عنه كان اميا لا يقرأ ولا يكتب فلسانه يشبه لسان السرياني تارة والعبري تارة ) . ومن الطبيعي أن تكون خرافات أولئك الأميين موصوفة بالغرابة والبعد عن مدلولات اللغة العربية والفهم العقلى ، بل كان هذا من ملامح التفاخر بهذا الهُراء ( أو الخراء ) ، والتسليم به على أنه فوق العقول لأنه ( علم لدنى الاهى ).
7 ــ وسوّغ ذلك للمتصوفة ادعاء أصناف عجيبة من العلوم واللغات. فالدسوقي قيل أنه ( كان يتكلم بجميع اللغات من عجمي وسرياني وغيرها، ويعرف لغات الوحش والطير ) . وتكلم المرسي على زعمه بالعربية والعجمية وقال " اذا كمل رجل نطق بجميع اللغات وعرف جميع الألسن. وقال مره لأحدهم : سل ما شئت بالعجمية أجبك بالعربية ، أو سل ما شئت بالعربية أجبك بالعجمية " ) ولا نعرف ماذا يقصد باللغة العجمية . وربما تصور ان اللغات الحية لغتان فقط عربية فصيحة وعجمية غير مفهومة .
وأُتيح للصوفية أن يقولوا ما يريدون دون اعتراض بسبب التقديس الذي يتمتعون به . يقول على وفا : ( مجالس العارفين محاضرات روحية ، لا يعبأون فيها إلا بفصاحة اللسان الروحاني، وهو تحقيق المعاني ذوقا وحسن تلقيها صدقا ) ..اى تُقال طبقا للذوق الصوفى للشيخ القائل ، وعلى المريد أن يتقبلها بالتسليم الصادق.
8 ــ وقد وجدوا في الرمز وسيلة لإخفاء الجهل. ولقد ظهرت بوادر أسلوب الرمز في عصر مبكر في التصوف . واستغل متصوفة العصر المملوكي الرمز الصوفي الذي لا يحتاج على تفسير وبالغوا فيه استطرادا وتفريعا وتنويعا وتباروا في هذه الرمزيات الغامضة كعلم كشفي فوق العقل والادراك، واعتبروه مقياس العلم اللدني فيما بينهم. وأضفى اتباعهم على ذلك الهراء ( الخراء ) مظهر التقديس ، فقيل في ترجمة محمد وفا: ( وله رموز فى منظوماته ومنثوراته مطلسمه الى وقتنا هذا، لم يفك احد فيما نعلم معناها . وسئل ولده على مع علو مقامة وفرقانه ان يشرح شيئا من تائية والده فقال: لا اعرف مراده لأنه لسانه أعجمى على لساننا" . وحتى نتعرف على لسانه الأعجمى هذا ، ننقل ومن كلامه في كتاب فصول الحقائق: ( نعوذ بالله من شياطين الخلق والكون وأبالسه العلم والجهل واغيار المعرفة والنكرة ....... الخ ) . وافتخر الشعرانى بأنه كان يرسل الكلام ( من غير تحجير ولا تقييد على قدر فهم الحاضرين ، وقلّ من الفقراء من يتفطّن لهذا .. ) . ويقول عن البكرى : ( ولا يكاد احد من الحاضرين لدرس محمد البكري يتعقل شيئا من كلامه .. من الجن والانس والملائكة وغيرهم ) ...وكان لبركات الخياط ( كلام عال في الطريق لا يفهمه غالب الفقراء عصره) ، فإذا كان أغلب صوفية عصره لا يفهمونه فكيف بالآخرين ؟ .
9 ــ وكان هذا اللغو محل تفاخر بين شيوخ الصوفية ، فكان افضل الدين الشعراني يقسم ان مشايخ عصره لا يصلحون ان يكونوا له مريدين ( لأن شرط المريد ان يفهم كلام شيخه ) وكلامه لايفهمه أحد .! و كان الحنفي (اذا استغرق في الكلام وخرج عن افهام الناس يقول : " وهنا كلام لو أبديناه لكم لخرجتم مجانين لكن نطويه عما ليس به صلة ) . ويقول المتبولي : ( لا يبلغ الفقير مقام الكمال حتى يكون اماما في التفسير والفقه والحديث ويسلك الطريق على شيخ عارف حتى يصير يعرف الطريق بالذوق لا بالوصف والسماع وهناك يدخل الحضرات المحمدية يعرف احكام الشرائع المحمدية ) وكان المتبولي مشهورا بالشذوذ الجنسى ، وكان (أميا ) من أدعياء العلم اللدني...