إحتقار الصوفية للعلم - الظاهر -


أحمد صبحى منصور
الحوار المتمدن - العدد: 8002 - 2024 / 6 / 8 - 19:55
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

إحتقار الصوفية للعلم " الظاهر "
كتاب : أثر التصوف المعمارى والثقافى والاجتماعى فى مصر المملوكية
الفصل الثانى :( أثر التصوف الثقافى فى مصر المملوكية ):
( فى العلم ـ العلوم ـ التعليم ، الأدب والفنون )
إحتقار الصوفية للعلم " الظاهر "
مقدمة :ـــ
1 ـ نعتذر مقدما عن إستعمال مصطلح ( العلم )، نضطر الى ذلك لأن ذلك كان هو الشائع والسائد فى علوم الدين منذ العصر العباسى ، وإستمر بعده فى العصرين المملوكى والعثمانى ، ولا يزال جهلة الشيوخ فى عصرنا هم ( العلماء ) ، ومن ينتقد جهلهم يُقال له إن لحومهم مسمومة.!
2 ـ العلم الحقيقى هو العلوم الطبيعية التى تكتشف آلاء الله جل وعلا ، وجاء منهجها قرآنيا بحثا ماديا تجريبيا ، بالأمر بالسير فى الأرض وبالنظر العلمى الى آيات الله جل وعلا فى الكون وفى أنفسنا . قال جل وعلا :
2 / 1 : ( أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) العنكبوت ) .
2 / 2 : (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105) يوسف ).
2 / 3 : ( قُلْ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (101) يونس )
2 / 4 : ( وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (21) الذاريات ).
3 ـ بإنفتاح ( المسلمين ) على النتاج العلمى الاغريقى والهندى وترجمته نشأت حركة علمية أنجبت أفذاذا من العلماء فى الطب والهندسة والرياضات والفلك ..الخ ، لا يزال يفخر بهم العالم . وعلى الجانب الآخر كان هناك جهلة يصطنعون أكاذيب ينسبونها بالاسناد للنبى ، ونشأ بذلك ما تسمى بعلوم الأحاديث والتفاسير وعلوم القرآن . ولأسباب سياسية بحتة إنحاز الخليفة المتوكل الى ما يسمى بعلماء السّنّة ، أو الحنابلة ، وإضطهد الاتجاه العقلى الدينى ( اللاهوتى ) ممثلا فى ( المعتزلة ) . قبله ، كان الخليفة الواثق يستضيف العلماء الحقيقيين الذين يتناقشون فى المنهج التجريبى للعلم سابقين المنهج اليونانى الأغريقى الذى كان يحتقر التجربة فى العلم ، جاء بعده أخوه الخليفة المتوكل ليعلن السُنّة مذهبا رسميا للدولة ، ويضطهد الآخرين من الشيعة والصوفية والمعتزلة ، بينما قرّب اليه غُلاة السنيين ، وهم ( الحنابلة ).
4 ـ ومن وقتها علا شأن الحنابلة وقاموا بتخريب العراق قرونا الى أن تسيد التصوف ( السنى ) فى العصر العباسى الثانى ، ثم أصبح التصوف المتطرف مرعىّ الجانب فى العصر المملوكى متحالفا مع السلطة المملوكية . وبهذا حلّ الجهل الصوفى محل الجهل السُنّى .
وكان الجهل الصوفى أسوأ حالا . يكفى أن الفقية السُنّى يخترع إسنادا يزعم فيه أنه : روى فلان عن فلان عن فلان عن فلان أن النبى قال كذا ... ويكتبون فى هذا كتبا ، لكن الصوفى أراح نفسه بالتقوّل مباشرة عن الله جل وعلا بلا واسطة ، أى أن يقول ( حدثنى قلبى عن ربى ) أو إنه يرى الرسول فى المنام أو فى اليقظة ، أو أن النبى نفسه يسعى اليه فى المنام أو اليقظة . كان ( علماء السّنّة ) بشرا ، فزعم الأولياء الصوفية أنفسهم آلهة ، وساد فى العصر المملوكى أنهم ( معتقدون ) بفتح القاف ، أى ( يعتقد الناس ) أى ( يؤمنون بآلهتهم ، ومعجزاتهم ( كراماتهم ) وعلمهم بالغيب ، وعلمهم ( اللّدنّى ) الذى يتلقونه ـ بزعمهم ـ من لدن الله جل وعلا مباشرة ، حيث يجالسونه فى ( الحضرة الالهية ) . هذا الخبل العقلى هو الذى ساد فى العصر المملوكى ، وهو الذى تأثرت به ثقافة العصر ، من علم وتعليم وفنون وآداب . ونعطى لذلك تفصيلا ، نضطر فيه ــ آسفين ــ لاستعمال كلمة ( العلم ) و ( العلماء ) .
الصوفية والعلم الظاهر
1 ـ بازدياد التصوف لم يعد العلم شرطا في الانخراط في الطريق الصوفي ، بل كان من أسباب انتشاره عدم التقيد بالقراءة والكتابة ن بل أصبحت ( أمية الولى ) من مفاخر بعضهم .
ومن بداية التصوف وقف بعض رواده موقف العداء من العلم وأهله ، ومنهم كالشبلي القائل :
( فلو طالبوني بعلم الورق برزت عليهم بعلم الخرق ) ، يقصد علم التصوف.
وبسبب شهرة رواد التصوف الأوائل بالجهل فقد قال عنهم الشافعى : "لو ان رجلا تصوف اول النهار لا يأتي الظهر حتى يصير احمق ". وقال أيضا : " ما لزم احد الصوفية أربعين يوما فعاد إليه عقله أبدا ) . ولا شك أن نظرة الشافعي لهم كانت متأثرة بعداء عصره للصوفية والتصوف كمبدأ .
2 ـ وكان أولئك الصوفية من ناحيتهم يكرهون ( الحديث ) أهم علوم ( السّنة ) . قال أبو سعيد الكندي : ( كنت انزل رباط الصوفية وأطلب الحديث خفية بحيث لا يعلمون ، فسقطت الدواة ( دواة الحبر ) يوما منى ، فقال لي بعض الصوفية : استر عورتك ) ..ومالبث أن إعتبر الصوفية العلم عائقا للوصول على الله لأن ( الاشراقات الإلهية ــ بزعمهم ــ لا ترد إلا على قلب فارغ من كل هم ومن كل علم ) ...وبهذا فإن جهد التصوف المملوكي في ناحية العلم كان سلبيا ، عطل التطور العلمى والعقلى وحارب من أوتي مقدرة على الاجتهاد ، خصوصا وأن بعض خصومهم كابن تيمية ـ قالوا عنه أنه اجتمعت فيه شروط الاجتهاد ......
3 ـ والواقع انه مع الشهرة التي تمتع كثير من علماء العصر المملوكي فقد حرموا الابداع العقلي الذي يضيف إلى التراث الإنساني . كان الاجتهاد ممكنا ومطلوبا ، ولكن تم وأده بسبب سيطرة التصوف ودعوته للتقليد وحربه للاجتهاد. ويلفت النظر ان من أوتى بعض العلم من أشياخ التصوف قبل العصر المملوكى وبعده ــ من الغزالى الى الشعرانى ــ وقفوا ضد العلم واستعمال العقل ، واستخدموا حصيلتهم العلمية في حرب المنكرين عليهم من الفقهاء ــ حماية لطريقهم الصوفي من الاعتراض . ومعروف أنه لا بد من تغييب العقل ومنع الاجتهاد العلمى والبحثى حتى يؤمن الناس بدعاوى الكرامات وتقديس الأولياء الصوفية ، وغضّ الطرف عن إنحرافاتهم السلوكية وعقائدهم فى الحلول والاتحاد ووحدة الوجود ، ومقالاتهم الفظيعة المنكرة فيما يُعرف بالشطح . وهذا هو ما حدث فى العصر المملوكى الذى اشتد نفوذهم فيه وسيطروا على الحياة الثقافية ، فكان أن وجّهوها في خدمة دينهم الصوفي ، فكانت تلك الردة العلمية في العصر المملوكي ، الذى جمع بين ظواهر متناقضة : وجود حركة تعليمية نشطة فى مؤسسات التصوف ، ووجود الأكثرية من التلاميذ الذين حملوا وصف (العلماء والفقهاء ) بسبب سيطرة التقليد العلمي وازدهار الايمان بخرافات التصوف.
متصوفة العصر المملوكي والعلم و نظرتهم للعلم والعلماء : ــ
1ــ قلنا إنه فى العصر العباسى الثانى إنتصر الفقهاء السنيون الذين كانوا يمثلون ( الاتجاه المحافظ ) على علماء الاتجاهات العلمية العقلية والفلسفية ، من المعتزلة والفلاسفة والحكماء من الكندى والفارابى وابن سينا والخوارزمى والبيرونى والرازى وابن الهيثم ..الخ . وتسيد الفقهاء السنيون الساحة بزعامة الحنابلة ، وهم الأشد تطرفا ، ووجدوا فى صناعة الأحاديث وسيلة للإجتهاد ، فالرأى يُقال فى شكل حديث ينسبونه للنبى عليه السلام ، ويتحصّن بهذا الاسناد من النقد . وبوأد الحركة العلمية العقلية وإبادة المعتزلة ودفن جهود العلماء الأفذاذ الذين نفخر بهم الآن ، ولم يعد موجودا على الساحة سوى الفقهاء السنيين ، واصبح لقبهم العلماء ، أى حلوا محلّ العلماء الحقيقيين فى عصر الازدهار العلمى والعقلى فى القرون الثانى والثالث والرابع والخامس من الهجرة . ( علماء ) السّنة بزعامة الحنابلة إضطهدوا خصومهم حتى من الشيوخ السنيين ( والطبرى أشهر ضحاياهم ). ونال الصوفية والشيعة الكثير من العنت . ثم تحول الموقف لصالح التصوف والصوفية ، وقد سبق شرح هذا ، وتسيد التصوف ، وأخذ شيوخ التصوف يضطهدون المنكرين عليهم من الفقهاء الحنابلة كابن تيمية والبقاعى .
2 ــ وفى حمأة الصراع بين الفقهاء السنيين والمتصوفة المملوكيين إحتقر شيوخ الصوفية علوم ( السنة ) وأطلقوا عليها ( العلم الظاهر )، وأطلقوا على علومهم الوهمية الخرافية إسم (العلم الباطن ) ، وغلفوه بادعاء الكرامات والمنامات التي ساد الاعتقاد بها في العصر حتى عرف " بالعلم اللدني" أي الذي يأتي من لدن الله بالوحي كما يزعمون .
وبهذا تغير الحال فى العصر المملوكى عنه فى العصر العباسى الثانى . الحنابلة السنيون جعلوا لهم علوما وهمية بالاسناد وصناعة الحديث ، وجعلوها علوما دينية ( التفسير والحديث النبوى والقدسى وعلوم القرآن ) وجعلوها ( وحيا الاهيا ) ، وقالوا إنها ( سُنّة ) وأن تلك ( السُّنّة ) وحى ، جاء بالاسناد والعنعنة . وهذا لا يتقبله عقل ، فكيف يأتى الوحى الالهى بالاسناد عن فلان عن فلان عن فلان .. وحتى يتجنب السنيون الاعتراض والتعقل حرّموا الفلسفة وعلم المنطق والعلوم الطبيعية ، كى يؤمن الناس بهذا الوحى القائم على الاسناد والعنعنة . ثم جاء التصوف فى العصر المملوكى بعلم دينى آخر ، هو ( العلم اللدنى ) لا يحتاج الى عناء الاسناد و قولهم ( حدثنا فلان ، أخبرنى فلان عن فلان ) بل يقول الشيخ الصوفى ما يشاء ويزعم أنه من الله جل وعلا مباشر بلا واسطة ، اى وحى الاهى مباشر ، ومن يعترض عليه فهو محروم من ( الفتح عليه ). ولهذا أرسى التصوف التقليد ومنع الاعتراض ، وأوجب التسليم لكل ما يقوله الشيخ الصوفى وما يزعمه .وسيأتي اثر دعوى العلم اللدنى في نشر الجهل في العصر المملوكي .
3 ـ ونعرض لموقف شيوخ التصوف فى العصر المملوكي من العلم ( الظاهر)أى ( علوم السّنة ) ودعوتهم للعلم الباطني .
3 / 1 : كان جدُّ ابن عطاء السكندرى فقيها سنيا ، ثم صار حفيده ابن عطاء مريدا لآبى العباس المرسي. ولم ينس أبو العباس المرسى أن جد مريده ابن عطاء كان فقيها سنيا ، فكان يقول عن ابن عطاء وقد استنسخ له كتابا : ( هذا الكتاب استنسخه لى ابن عطاء الله . والله ما أرضى له بجلسة جدّه في العلم الظاهر ، ولكن بزيادة التصوف )، وقال أيضا عن جد ابن عطاء السكندرى وعن حفيده ابن عطاء :( صبرنا على جد هذا الفقيه لأجل هذا ــ الفقيه ). وسئل المرسي عن بعض العلماء فقال " اعرفه هنا :وأشار إلى الأرض ــ "ولا اعرفه هناك" وأشار على السماء ) ،.
3 / 2 : ( وكان الشيخ مدين اذا سأله احد عن مسألة في الفقه لا يجيبه ، ويقول : اذهب الى عيسى الضرير يجيبك عنها . وكان عيسى هذا اميا مقيما في الزاوية ) ، اى إحتقارا للسائل وسؤاله .
3 / 3 : اما احمد الزاهد فكان اذا أتاه من يريد الاشتغال بالفقه يقول له : ( يا ولدي ما نحن معدين لذلك اذهب الى الجامع الأزهر. ) ، ( ومنع فقراءه الا من تعليم العبادات فقط )
4 ـ ونتوقف مع البديل الصوفى : خرافة العلم اللدنى .!