عن مناقشة السبب فى تدهور المستوى العلمى فى العصر المملوكى


أحمد صبحى منصور
الحوار المتمدن - العدد: 8010 - 2024 / 6 / 16 - 02:45
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

مناقشة السبب فى تدهور المستوى العلمى فى العصر المملوكى
أثر التصوف فى تدهور المستوى العلمى فى العصر المملوكى
كتاب : أثر التصوف المعمارى والثقافى والاجتماعى فى مصر المملوكية
الفصل الثانى :( أثر التصوف الثقافى فى مصر المملوكية )
مناقشة السبب فى تدهور المستوى العلمى فى العصر المملوكى
10 ــ على أن هذا التناقض بين الكيف والكم في العصر المملوكي قد أثار انتباه بعض الباحثين المعاصرين مثل احمد أمين القائل : ( كانت حركة التأليف قوية في عصر المماليك حتى ليعجزنا حصر ما ألف في ذلك العصر ، ولكنها كانت قوية من حيث العدد لا من حيث القيمة . ومن الغريب أن عالما يأتي فيختصر ثم يأتي عالم اخر فيشرع ما اختصر .... ولم نكسب من ذلك إلا المجهود الضائع . وكل يوم يمر يزداد الحال سوءا ) ويقول : ( يكاد العلم والأدب والفن قد انتهى فى العالم العربي بانتهاء القرن الخامس ، وربما تولد شيء في القرن السادس من الابتكار والتجديد ،أما بعد ذلك من ابتداء القرن السابع وحتى النهضة الحديثة (العصرين المملوكي والعثماني) فيكاد يكون ترديدا لما فات ، تجميعا لمتفرق او تفريقا لمتجمع" ) ...
11 ـ ونأخذ مسيرة ( علم الحديث ) مثالا على الفشل العلمى للعصر المملوكى : فالخطيب البغدادي ت463 أول المتأخرين وأخر المتقدمين في علم الحديث ، وضع مؤلفين : كتاب الكفاية في قوانين الرواية وكتاب الجامع لآداب الشيخ والسامع . وقد ظل هذان الكتابان محور النشاط العلمي للعصر المملوكي بالاختصار والشرح على النحو الآتي:
إبن الٌصلاح ت 643 ( عثمان بن عبد الرحمن الشهروزى ) جمع شتات مؤلفات الخطيب في كتاب له هو ( مقدمة ابن الصلاح فى علوم الحديث ) . وعكف المتأخرون بعده عليه اختصارا وشرحا: ابن جماعة ت 733 في كتابة المنهل الروي في الحديث النبوي الذي اختصر فيه كتاب الصلاح . وجاء بعده ابن ابي بكر ت819 فشرح مختصر ابن جماعة في كتابه ( المنهج السوي في شرح المنهل الروي ) . ثم سراج الدين البلقيني 805 الذى ألف ( محاسن الإصلاح في تضمين كتاب الصلاح ) وهو مختصر ، ثم : محيي الدين النووي 676 ــ الذى اختصر كتاب الصلاح في كتابين : (تدريب الارشاد إلى علم الاسناد ) وهو مختصر ، والثاني ( التقريب والتيسير) وهو مختصر المختصر . لذا انكب عليه متأخرون لاحقون بالشرح وشرح الشرح ، كما فعل الزين العراقي والسخاوي والسيوطي . وأنهمك آخرون في كتابة تعليقات ونكت كتاب ابن الصلاح كالعراقي في كتابة التقييد والايضاح وابن حجر في كتابة الإفصاح والزركشي... وقام اخرون بنظم كتاب ابن الصلاح شعرا ، مثل الحافظ العراقي 805 في ( نظم الدرر في علم الأثر ) . ثم قام نفسه بشرح النظم في كتابين احدهما مطول والأخر مختصر . وقام البقاعي بتأليف حاشية على الشرح المختصر اسماها ( النكت الوفية : بشرح الألفية ) ، وشرح السخاوي هذا النظم في ( فتح المغيث في شرح ألفية الحديث ) ، وشرحه السيوطي في ( لقط الدرر ) ، وشرحة الدمشقي في ( صعود المراقي ) وشرحة زكريا الأنصاري في : ( فتح الباقي بشرح ألفيه العراقي ). والأمر لا يحتاج على تعليق..
12 ــ والباحث المفكر الاستاذ أحمد أمين يعلل التقليد والجمود العلمى فى العصر المملوكى باختفاء العنصر العربي وغلبة العنصر الفارسي والتركي وسقوط المعتزلة وهجوم التتر وانتشار العصبيات المختلفة بين المسلمين مما نتج عنه اقفال باب الاجتهاد ) ..
والواقع انه قد ظلم العنصر الفارسي الذي أسهم فى الحياة العلمية في القرون السابقة، كما ان هجوم التتر لم يكن مانعا من الاجتهاد العلمي ، بل أنه ألهب حماسة العلماء لتعويض ما دمر من مؤلفات ، وكان العلماء العرب أساتذة للصليبيين ، وانتشار العصبيات لا يعوق الحركة العلمية بل قد يدفع للمنافسة بينها ، وما ذكر عن سقوط المعتزلة صحيح وان لم يعلل ذلك السقوط بانه كان هزيمه مبكرة للإتجاه العقلى أمام الحنابلة فى العصر العباسى الثانى . وكان هذا قبل العصر المملوكى بقرنين على الأقل ,
ويقترب باحث اخر من الحقيقة حين يقول مترفقا ( ومن سمات العصر قوة التصوف ولعل ذلك من عوامل ضعف الحركة العلمية، فإن العلم يعتمد على العقل والفكر على حين يعود التصوف الحق على الذوق والوجدان ) ..
13 ـ والحقيقة ان التصوف المملوكي هو المسئول عن ذلك الركود . اذ كانت علوم السابقين قد جُمعت وفُصّلت ، ولم يبق إلا البناء عليها بالاجتهاد والابتكار على نحو ما بدأت به مسيرة الحركة العلمية فى العصر العباسى الأول قبل أن يُجهضها الحنابلة فى العصر العباسى الثانى ، ثم تحكم التصوف فجعل التقليد دينا ، وأرسى الخرافة محل العلم ، وأعلى شأن الحفظ كمقياس وحيد للقدرة العلمية .
14 ـ ويلاحظ ان العلاقة العكسية واضحة بين مسيرة العلم والتصوف في العصر المملوكى ، فكلما إزدهر التصوف بالتدريج تدهور العلم بنفس الوتيرة ، حتى إذا وصلنا الى نهاية العصر وتسيّد التصوف تحول التقليد الى جمود ، ثم اشتدت الظلمة تكاثفا في العصر العثماني باشتداد سلطان التصوف فيه. وأي مقارنة للإنتاج العلمي بين القرن السابع مثلا والقرن العاشر تُظهر ذلك بوضوح ، وعلى الأقل فاقرأ أسلوب المقريزى وابن حجر وقارنه بأسلوب ابن اياس وابن زنبل الرمال فى أواخر العصر المملوكى ومطلع العصر العثمانى ، تجد الفارق واضحا.
والمؤسف أن ربط الصوفية جهلهم بالدين قد جعل الإسلام مسئولا عن نشر ذلك الجهل . ونذكر بالعرفان قول كلوت بك يصف المصريين في العصر العثماني : ( السواد الأعظم من الامة المصرية هائم في الجهالة . وقد حاول بعضهم اسناد جهلهم إلى الديانة الإسلامية، وهو خطأ فاحش ومذهب باطل ، فإن في القرآن آيات كثيرة تدل على شرف العلم والحض على تحصيله ) .. ...
15 ــ وبعدٌ ..
فإن تاريخ العلم يختلف عن التاريخ السياسي لأمة من الأمم. فمن الممكن أن تبدأ أُمّة بالضعف ثم تصل إلى القوة والشباب ثم تنحدر للضعف والانحلال . وهذا واضح فى مسيرة التاريخ الانسانى . إلا إن التاريخ العلمى ليس حتما أن يرتبط بهذا الخط البيضاوي البياني ، كما لا يرتبط تاريخ العلم في امة ما بقوتها السياسة، بل ربما تزداد القوة العلمية لأمة ما في عصر ضعفها بل تفككها السياسي، فالمسلمون تفرقوا دولا وأمراء في القرن الرابع الهجري وهو عصر الازدهار العلمي ، بل إن الأمة المهزومة قد تنتصر علميا على الفاتحين الجهلاء وفي التاريخ امثلة كثيرة ( أثينا مع اسبرطه والعرب مع البلاد المفتوحة والتتار مع العرب والصليبيون مع المسلمين والأتراك مع المصريين في الفتح العثماني ) .
العلم في الطريق الطبيعي ـ بدون عوائق ــ يسير في صعود وتقدم ، ويتوقف وينحسر ويذبل وينتهى إذا وُوجه بالجهل الذى يتمسح بالدين .
العلم فى أوربا ظل فى تقدم فى اليونان ( سقراط / افلاطون / ارسطو / جالينوس ..الخ ) ، وتلقّح بالحضارة الفارسية فى عهد الاسكندر الأكبر وخلفائه ، ثم قام الرومان بالبناء عليه ، ثم تحكمت الكنيسة فى العقل الأوربى فتوقفت مسيرة العلم الأوربى . العلم فى تاريخ المسلمين حمل الراية بعد اوربا بترجمة مؤلفات الاغريق وغيرهم ، والنقل عن الحضارات السابقة ـ أوربية وفارسية ـ وبنى عليها ، وظل فى تقدم إلى ان أوقفه الحنابلة باسم ( السّنة ) وأنها وحى سماوى، وجعل ( علوم السنة ) من حديث وتفسير وعقائد ( علم الكلام ) وما يسمى بعلوم القرآن ــ بديلا عن العلوم الحقيقية الفلسفية والطبيعية . ثم قضى التصوف بالتدريج على ما تبقى من ( العلوم السنية ) ، ووصل بالحياة العقلية الى الحضيض. هذا ، فى الوقت الذى بدأت فيه النهضة الأوربية بترجمة المؤلفات العربية ـ فى عصر الازدهار العلمى ـ والبناء عليها ، وإكتشاف المنهج العلمى التجريبى فى العلوم الطبيعية والذى دعا اليه القرآن الكريم ، كما إتبعوا دعوة القرآن فى السير فى الأرض ــ كل هذا بدون معرفة بالقرآن ـ ولكن وصلوا للمنهج القويم علميا لأنهم بدأوا الخطوة الأساس وهى تحجيم دور المسيحية وأربابها وتحريم تدخلها فى السياسة والتفكير وحظر تجولها فى الشارع ، وسجنها داخل أديرتها وكنائسها . بهذا إنطلقت أوربا تكتشف العالم وتستعمره ، وتكتشف البخار والقوى الكهربائية وتخترع ، ودخل بها العالم فى مسيرة علمية تتقدم الى الأمام حتى الآن ـ بعد أن تحرر العقل والفكر من تحكم المسيحية وكنيستها . ومن أسف أنه فى الوقت الذى كان فيه الشعرانى يسجل بطولاته الوهمية مع الجن وأسفاره الوهمية حول العالم ، وفى الوقت الذى عاش فيه المسلمون يفكرون فى ( جبل قاف ) وقدرة الولى الصوفى على تحريك الجبال وهزيمة الجيوش كانت أوربا تكتشف العالم الجديد ، وتجرّب إستعمال البخار قوة متحركة . وظل المصريون فى سُبات عميق الى أن أيقظتهم مدافع نابليون وهى تدكُ الأزهر ، فهرع شيوخ الأزهر يقاومون مدافع نابليون بتلاوة صحيح البخارى و ( دلائل الخيرات ) . وبعودة الحنبلية الوهابية تتحكم فى عقلية مسلمى اليوم عادت خرافات الأحاديث وعجائب الفتاوى الفقهية تتصدر الساحة تحمل إسم الاسلام .