كيف سيتعامل الماركسيون مع هذه القضايا (٢)
محمود يوسف بكير
الحوار المتمدن
-
العدد: 7014 - 2021 / 9 / 9 - 23:53
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
في الجزء الأول من المقال تحدثنا عن الفائض الكبير في الأبحاث النظرية الماركسية وعدم وجود أي أبحاث في كيفية التطبيق العملي لها على أرض الواقع لتحقيق ما يسمونه بجنة الشيوعية في الأرض، وبينا كيف أن الماركسية تحولت إلى ديانة مقدسة غير قابلة للنقد أو التطوير بالرغم من وضوح حقيقة أن الشيوعية التي تنادي بها الماركسية تتناقض مع طبيعة النفس البشرية وأن المروجين لها غير مستعدين لتطبيقها على أنفسهم. كما تعرفنا على بعض صعوبات التطبيق المنطقية والعملية و الثقافية بحكم أن الأوضاع الاقتصادية التي صاغ بموجبها ماركس نظريته منذ نحو قرنين لم تعد قائمة الآن.وختمنا المقال بحل عملي وسهل لمعضلة فائض القيمة يتمثل في أنه “إذا أراد العامل أن يحصل على فائض القيمة بالكامل فإن أحدا لن يمنعه، ولكن سيتعين عليه في هذه الحالة تدبير كل متطلبات العملية الإنتاجية من أرض وآلات ومعدات ورأس المال والتنظيم بالإضافة إلى النظم المحاسبية والقانونية والمالية المطلوبة لأي عملية إنتاجية، لأنه ليس من المنطق أو العدل أن يساهم الرأسماليون وآخرون بكل هذه العناصر لوجه الله وأن يستمتع العامل وحده بالفائض الناتج عنها.”
وهذا رابط الجزء الأول من المقال لمن يريد أن يطلع عليه: https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=728045
في هذا الجزء سوف نعرض لأهم ملامح النظام الاقتصادي القائم حاليا والتحديات الكبيرة التي يواجهها وتبعات هذا على العالم بشكل عام والفكر الماركسي بشكل خاص.
وباختصار شديد نقول أن الاقتصاد العالمي يمر بمتغيرات سريعة للغاية ومتلاحقة ويمكن أن نرصد منها ما يلي:
١ دفعت جائحة الكوفيد كل الشركات تقريبا إلى تغيير اساليب عملها من خلال تكثيف استخدام التكنولوجيا من أجل الحفاظ على وضعيتها التنافسية سواءً المحلية أو الدولية وذلك بعد أن أصبح المستهلكون أنفسهم خاصة الشباب يميلون إلى استخدام التكنولوجيا في كل ما يحتاجونه من خدمات مالية وتجارية وترفيهية وذلك من خلال الإنترنت والتطبيقات الإلكترونية. وهناك الآن تحول كبير نحو ما يعرف بالاقتصاد الرقمي حيث تتم يوميا بلايين وليس ملايين المعاملات المالية والمعلوماتية والخدمية بين الناس وبين الشركات وبين بعضهم البعض وأيضا بين الأجهزة الإلكترونية نفسها من خلال الانترنت. وعلى سبيل المثال فقد كنا نضطر في آواخر القرن الماضي في مجال عملنا إلى الجلوس أمام شاشات الكمبيوتر لساعات طويلة لمتابعة الأسواق المالية المختلفة من أجل إدارة المحافظ المالية بدقة، ولكن الآن يمكن استخدام تطبيقات مالية متقدمة وبرمجتها لإجراء عمليات البيع والشراء ونحن نيام. ويدخل ضمن هذا ما يسمى ب إنترنت الأشياء أو IOT وهناك الآن شركات عملاقة ومتعددة الجنسيات لا تمتلك الكثير من الأصول، ولكنها تمتلك تقنيات وبرامج إلكترونية لإدارة عملها ومنها شركة فيسبوك العملاقة التي لا تمتلك أي محتوى حيث تركت هذه المهمة للمشتركين أنفسهم، ومنها شركة التجارة الإلكترونية الصينية العملاقة علي بابا التي لا تحتفظ بأي مخزون لأي من انواع الإلكترونيات و السلع العديدة التي تبيعها، وكذلك لا تمتلك شركات حجز الفنادق الكبرى أي فنادق أو مكاتب ولكنها تعمل مع زبائنها ومع الفنادق الكترونيا.
٢ أصبح الاقتصاد المعاصر خدمي بالأساس بحيث أصبحت نسبة مساهمة هذا القطاع في الناتج المحلي الإجمالي لا تقل عن 60% في اقتصاديات الدول المتقدمة والنامية والدول متوسطة النمو. ويشمل هذا القطاع خدمات التعليم والرعاية الصحية والنقل والمواصلات والاتصالات والإنترنت والتجارة والخدمات المالية والمعرفية …إلخ ولا يعني هذا أن قطاعات الصناعة أو الزراعة أو التعدين وغيرها قد انكمشت، بل إنها تنمو أيضًا ولكن بشكل لا يقارن بمعدلات نمو القطاعات الخدمية. وكما هو معروف فإن معدلات النمو في أي قطاع محكومة بسلوك وحجم طلب المستهلكين ونحن الآن بالفعل ننفق على الخدمات التي ذكرناها اكثر بمراحل مما ننفقه على المنتجات الزراعية والسلع المصنعة.
٣ وهناك تطور آخر وهام الآن يسمى بالذكاء الاصطناعي وهو العلم والتقنيات التي تجعل الآلات تعمل و تحاكي سلوك الإنسان في كل شي تقريبا وبدون أي تدخل بشري، ولهذه التطبيقات والآلات مزايا عديدة منها:
• الأمان والحد من الأخطاء البشرية،
• الحد من الفساد لانه لا يمكن تقديم رشوة لهذه الاجهزة والتطبيقات خاصة تلك التي تعمل في مجالات التقييم الائتماني لعملاء البنوك،
• ضمان عدم التحيز العاطفي أو التلاعب بالمعلومات كما يحدث من البشر،
• المحافظة على الوقت والعمل بنفس مستوى الكفاءة طوال الوقت ودون الحاجة للتوقف لشرب الشاي او التحدث مع الآلات الأخرى أو التوقف عن العمل بسبب المرض.
وهو ما يعني بالنتيجة زيادة الإنتاجية ورفع مستوى المعيشة.
٤ بالإضافة إلى كل ما سبق فإن هناك تحول في كل الدول وكل الصناعات نحو الاعتماد المتزايد على هذه التقنيات الجديدة في القطاعات الحيوية والحساسة في كل الدول، كما أن تقنيات الذكاء الاصطناعي تمكن الدول والشركات من بناء قواعد بيانات ضخمة ودقيقة يمكن استخدامها في مجالات البحث والتطوير بشكل مذهل خاصة في المجالات الطبية، والعلمية، والاقتصادية، والتسويقية.
5- ومن التطورات الهامة الأخرى أن الشركات عبر العالم تنفق بشكل ضخم على التكنولوجيا وتطبيقات الذكاء الاصطناعي لدعم مركزها التنفسي ضد الشركات الأخرى. وقد نشرت مجلة الإكونومست الانجليزية في عددها الصادر بتاريخ 29 مايو 2021 بحثا قيما ومطولا في هذا الموضوع لبيان أن كل هذا يأتي على حساب الطبقة العاملة التقليدية مثلما حدث من قبل في الثورات الصناعية السابقة والتي أدت إلى اختفاء الكثير من الصناعات والوظائف التقليدية وقتها. وهذا التطور يعني تقلص مساهمة عنصر العمل في خلق القيمة بشكل سريع ومستمر لصالح عنصر رأس المال النقدي والمادي. ولا ينبغي أن يفهم من هذا ان هناك مؤامرة أو سياسات متعمدة للإضرار بطبقة العمال، ولكن ما يحدث يأتي في إطار رغبة العلماء وحتى عوام الناس في التطوير والبحث العلمي والاكتشاف لما هو جديد. وبالطبع فإنه لا يمكن وقف هذا التوجه الغريزي في الانسان ولذلك نسعى دائما في الاقتصاد إلى إيجاد نوع من التوازن بين رأس المال المادي والبشري من خلال العمل على تنمية وزيادة قدرات الإنسان.
6- وعلى مستوى السياسات النقدية والمالية فإن البنوك المركزية أصبحت تلعب دورا خطيرا في خلق النقود الجديدة بطرق فنية متعددة لحث الاقتصاد على النمو في وقت الأزمات والركود الاقتصادي وأصبحت هي الداعم الأساسي للحكومات وأكبر مقرض لها كما حدث خلال الأزمة المالية العالمية في عام 2008 وكما يحدث الان في أزمة الجائحة. وهذه النقود الجديدة توجه نسبة كبيرة منها لأسواق المال من خلال قيام هذه البنوك بشراء سندات الخزانة العامة وسندات الشركات وسندات الرهون العقارية. والحقيقة أن المستفيد من هذا هو عنصر رأس المال وليس العمال وقد سبق أن كتبنا في هذا الموضوع وقلنا إن ما يحدث ليس من العدل وأنه سيؤدي في النهاية إلى نوع من التضخم الجامح ونصحنا الناس باستثمار مدخراتهم في أي أصول مادية أو الذهب بدلًا من الاحتفاظ بالنقود الورقية إلزامية التي تنخفض قيمتها في أوقات التضخم كما أنها لم تعد تدر عائدا مقبولا نتيجة انخفاض أسعار الفائدة التي تتحكم بها البنوك المركزية هنا في الغرب والحكومات في عالمنا العربي. ولذلك تم اختراع النقود المشفرة مثل البيتكوين للهروب من هيمنة البنوك المركزية، ولكن الاستثمار في هذه النقود محفوف بمخاطر أخرى كما أوضحنا في مقال سابق. وخلاصة هذا التطور الهام والسلبي أن التضخم بدأ بالفعل كما توقعنا وأنه سوف يؤدي إلى اضطرار البنوك المركزية في أمريكا وأوروبا إلي زيادة أسعار الفائدة وبالتالي إلى زيادة أعباء خدمة الديون المتراكمة على الدول الفقيرة التي تضطر إلى الاقتراض بعملات هذه الدول لتلبية احتياجات شعوبها وهو ما يعني أن الكثير من هذه الدول ومنها دول عربية ستعاني من انخفاض في معدلات النمو والتوظيف وحالة من الركود التضخمي وأتمنى أن أكون مخطئا.
7- ومن التحديات الخطيرة التي تواجه كل الاقتصاديات العالمية الان التلوث البيئي والتغير المناخي الذي أصبح يهدد كل أشكال الحياة على الأرض وكل دول العالم مطالبة الآن بتخفيض الانبعاثات الحرارية لديها وتخفيض استهلاكها من الوقود الأحفوري واستبداله بمصادر نظيفة للطاقة. وسوف يكون لهذا التطور آثار بالغة على النمو الاقتصادي ومعدلات التوظيف في كل الدول، وهذا التحدي يمثل أولوية في أجندة كل الحكومات وهو بالتأكيد أهم من قضية فائض القيمة التي لم تعد موضع نقاش على مستوى العالم كله.
8- وأخيرا وفي ظل كل هذه التطورات السريعة لإزال قطاع المشروعات الصغيرة والمتوسطة يكافح من أجل البقاء علما بأنه اكبر قطاع يساهم في خلق الوظائف وهو يخلق منها اكثر بمراحل مما تخلقه الحكومات والشركات الكبرى والمفارقة هنا أن هذا القطاع الحيوي سوف يكون أول من تستهدفه الشيوعية و دكتاتورية البروليتاريا إذا ما نجحت في تحقيق أحلامها التدميرية باعتبار أن هذا القطاع رأسمالي وهو بالفعل كذلك لأن المنظمين أو الرأسماليين فيه يحصلون على فائض القيمة بحسب التنظير الماركسي، بمعنى أنه سيحق للعمال السطو على مقدرات الرأسماليين في هذا القطاع الهام من أجل إقامة جنة الشيوعية وهو ما يعني بالضرورة تدميره ولا يهم أنه يخلق اكبر نسبة من الوظائف في كل الاقتصاديات العالمية والمحلية.
والحقيقة أنني أتساءل من باب الرغبة في المعرفة عن الكيفية التي سيتعامل بها الماركسيون مع كل هذه المتغيرات علما بأننا بسطنا كل هذه التطورات ولم ندخل في تفاصيلها الفنية المعقدة حتى يكون الموضوع في متناول القارئ العادي. وللعلم فإن هناك جهود كبيرة وأبحاث متقدمة في معظم الجامعات الأوروبية والأمريكية لإعادة صياغة علم الاقتصاد للتعامل مع كل هذه القضايا والتطورات المتلاحقة وسوف نكتب عن هذا في الجزء القادم من هذه السلسلة بمشيئة ربي.
ونصيحتي المخلصة لكل القراء الأعزاء هي عدم تأييد أي دعوة لإقامة أي نظام دكتاتوري سواء أكان ديكتاتورية البروليتاريا أو ديكتاتورية رجال الدين أو ديكتاتورية العسكر او ديكتاتورية الراسماليين، خاصة بعد أن رأينا ما فعلته بنا نظمنا الدكتاتورية ونظام الصوت الواحد للزعيم العلامة ذو الحكمة والحنكة والذي يعلم الغيب ويرى ما لا نراه. أعتقد أن أي مثقف ذو ضمير أو حس إنساني لابد أن ينأي بنفسه عن النظم الشمولية خاصة الشيوعية التي مارست كل انواع الجرائم بحق شعوبها وكلنا يعلم ما سببته من مآسي وامتهان بحق عشرات الملايين من البسطاء. ويكفي أن نتذكر معسكرات العمل الاجباري التي كانت منتشرة في ربوع الاتحاد السوفيتي السابق وسجن لوبيانكا المرعب في موسكو والذي كان يديره وحوش ال KGB لمعاقبة كل من كان يجرؤ على فتح فمه. وكل هذا كان يتم باسم الشيوعية وقد شاهدت بنفسي حجم الرعب والفقر الذي كان يعاني منه المواطنون في كازاخستان واوزباكستان وحتى في روسيا نفسها. حق الانسان في الحياة وحقه في الحرية بكل أشكالها وحقه في الكرامة وحقه في العمل والعيش في أمان هو ما ينبغي أن نسعى من أجله بعقل مفتوح وليس مغلولا بأي أيديولوجيا إرهابية.
مستشار اقتصادي