جلولاء ضيقة كصحراء, و فسيحة مثل قلب أم رؤوم.
صلاح زنكنه
الحوار المتمدن
-
العدد: 8261 - 2025 / 2 / 22 - 22:11
المحور:
الادب والفن
صلاح زنكه وذاكرة الأمكنة / جلولاء
حاوره محمد اسماعيل / جريدة الجمهورية 10 / 4 / 1999
* صف لي جلولاء كما عرفتها ؟
- جلولاء مدينة صغيرة محصورة بين نهر ديالي من جهة والتلال والجبال من جهة أخرى، وفي الشتاء تزخر بالفيضانات الصاخبة جراء الأمطار والسيول التي تنحدر من تلك المرتفعات عبر الوادي الذي بقسم المدينة إلى قسمين لتصب في النهر, وكم هددت ودهمت البيوت الطينية آنذاك.
كانت جلولاء تقترن بقوافل الغجر وحميرهم المحملة بأمتعتهم السحرية وهم يمرون بالمدينة عبر بلاد الفرس ويعسكرون في ضواحيها, أولئك الذين أشعلوا فينا هاجس السفر والترحال ووشموا أكفنا بالصلبان والأقواس وطلوا أسناننا برقائق الذهب والفضة، وكشفوا لنا الطالع والبخت، وكم كان أهلنا يخيفوننا بحكايات عن اختطافهم للأطفال ليرحلوا بهم إلى ما وراء الأفق.
وهي تقترن أيضا بمحطتها العتيدة (اللوكه) وسككها الحديدية والقطارات (الرايحة والغادية) من والى بغداد وكركوك وخانقين وهي تصفر وتزأر وتنفث بخارا أبيض كنا نحن الصبية نستحم به, ونمني النفس بأن نمتطي عرباتها الباذخة يوما ونسافر إلى مدن قصية تزخر بالسينمات والكرنفالات والأراجيح والحلوى.
* ترى ما هو الجذر التاريخي لتسمية المدينة ؟
- كانت جلولاء تكنى بـ (قره غان) أي الدم الأسود بالتركية, وفي واقعة جلولاء ، قرب حلوان أثناء معارك التحرير الإسلامية بقيادة القعقاع بن عمرو حين طارد الجيش الإسلامي فلول الفرس, سأل على بن ابي طالب سعد بن أبي وقاص .. هل جلو الأعداء أم لا ؟ فكانت التسمية على ذمة المؤرخين.
* هل لجلولاء ثمة حضور في قصصك ؟
- جلولاء حاضنة طفولتي وصباي، فيها ترعرعت وتعرفت على الطبيعة بكل تفاصيلها .. والإنسان عادة تلاحقه طفولته ويتشكل من خلالها, وكلما حاولت تشكيل مكان افتراضي تنبثق جلولاء من اللاوعي, فهي المكان الواقعي المتجذر في الأعماق, وقد أعيد بناءها ذات يوم في عمل أدبي.
* وما هي المعالم التي رسخت في ذاكرتك من جلولاء ؟
- مدرسة الشروق الابتدائية ومعلموها الأفذاذ, والمستوصف الفقير الذي لم يسعف مرض أبي فمات اثر السل, ومركز الشرطة الذي أوقفت فيه لساعتين, وسمعت لأول مرة أن الحبس للرجال, ونهر سيروان (ديالى) الذي كاد أن يأخذني إلى ضفة الموت لولا ذلك الـ (حمد) الذي أنقذني من الغرق.
* ومن هو حمد ؟
- حمد الولد النحيف الأسمر الفاحم كان أكسل تلميذ في المدرسة, كان معلمنا صفاء يسميه (حمد بعثة) كونه يبعث من شعبة لشعبة في الصف الرابع الابتدائي, كنا نتحاشاه ويتحاشانا, جمعتني به مصادفة على النهر حين قذفت بجسمي الى الماء لأول مرة في حياتي (ضربت زرك) وإذ بي أغطس وأستغيث, قفز حمد خلفي وراح يدفع بي نحو الجرف لينقذني من موت محقق.
*وكيف تراها الآن ؟
- جلولاء ضيقة كصحراء, وفسيحة كقلب أم رؤوم .