صلاح زنكنه / صياد الدهشة
صلاح زنكنه
الحوار المتمدن
-
العدد: 8172 - 2024 / 11 / 25 - 22:24
المحور:
الادب والفن
تحسين كرمياني
آية المبدع تولد معه، يسكنها وتسكنه، ومع توافر المناخات تمطر الثمار، هكذا ابتدأ من لمح العالم وحركة الأشياء من حوله، بل امتلك خصاصة الذهول وراح يطارد ويقتنص فراشات الإثارة ويستودعها الذاكرة، حتى أنك حين تقف ازاءه تشعر بمغناطيسية جاذبة، تربكك وتعجل انسحابك لتغرق في غموض واستفزاز، هكذا كان في طفولته، غاضبا من روتينيات الحياة، لافظا الرتابة المتجذرة في هيكل العلاقات, يعتزل ليتأمل فوضى العالم ولا جدواه، كان أكبر من زمنه، من كلامه المدهش، من وقفاته, من طريقة تعامله، من غرابة أفكاره، من سعة ذاكرته, وراح يجترح حجمه واستحقاقاته.
وسيما، متأنقا، غيورا، لا يبذر في كلامه، جريئا، مقتحما، اختار دهاليز الحياة ومسالكها الوعرة كي يكتشف ما هو مطمور أو مسكوت عنه, رافضا التقليد, على اعتباره سلعة بائرة، أو التجريب، لأنه نحت في الصخر، بل سلك طرائق الواقع, ونفض الغبار عن التماثيل المهملة كي يعيدها لمتحف الحقائق كما في قصة (التماثيل)
يرفض المجاملات ولو من وراء الكواليس, فامتلك خاصية تعذر على الكثيرين الوصول الى شواطئها, خاصية التلقائية والشفافية، أهم العناصر المكملة لقيافة الإبداع، وبهما غازل ارهاصات الذاكرة واختناقاتها, وبهما التقط براعم الإثارة المخنوقة من أرحامها وحرمها من الواد وأعادها الى الواجهة.
فمن يريد الرسو على موانئ مملكته بإمكانه الاستدلال بـ (كائنات صغيرة) ليتحصن بإضمامة قصصية, تسربلت بالوضوح وانسلخت من الإنشائية والترهلات المملة، قصص قصيرة جدا، تضج بدهشات وغرائب عقلانية كونها من رحم الواقع، قصص تقنعت بسرابيل رمزية ومفارقات مألوفة، وحفلت بغايات استفزازية يقف لها شعر الرأس.
إن شخوص صلاح زنكنه كائنات فقيرة، مستباحة مسكونة بالمغامرة وحب اجتراح المستحيلات، تقتحم ذاكرة القارئ, لتسكن وتظل الى الأبد، وظل القاص حريصا، مخلصاً لفنه، مراعيا أذواق الآخرين، حتى تطورت أساليبه وتوسعت غزواته، لا يبارح جغرافية (القصة القصيرة جدا) كونها منازل قائمة بذاتها أو عمارات شاقولية تفك الاختناقات والقارئ يلتهب ويتعاطف معه، لأنه يصطدم بشخصيات عفوية، لا انتمائية، عاشقة، حالمة.
تتجلى مقدرته في (صوب سماء الأحلام) حيث الرمز والغرائبية، والإحساس بتفاهة الحياة، وحضور الانثيالات العفوية, ورشاقة اللغة الموحية مع استمرار كوابيس الأقدار, بملاحقة الشخوص في يقظاتها وسباتها حتى لتخال بأنهم مطاردون من أنفسهم ومن ظلالهم، ترفضهم أحلامهم، لذلك تراهم قلقين في بحث دائب.
للقصة وظيفة ذاتية، تتطلب الاتساق الكامل ما بين العقل والروح، ما بين الجسد وطروحات الواقع، ولأن صلاح تواصل التواجد داخل قلعته، أحدث خرقا في عالم الإبداع واجترح مكانه، وما فوزه بجائزة (المبدعون) لمؤسسة الصدى الاماراتية للعام ۲۰۰۱ إلا تأكيد على إبداعه ومكانته الواضحة على خارطة القصة القصيرة بمجموعته (ثمة حلم .. ثمة حمى) حيث حضرت الدهشة والاثارة وأعطت عالم القص زخما أسلوبيا وألوانا مضافة الى مدى استيعابية هذا العالم المفتوح.
يمتلك القاص صلاح زنگنه رؤية نافذة، دقيقة مع امتلاكه منذ طفولته ذلك الحس الشفاف، النقدي، الجريء، لذلك حافظ في مجمل أعماله على أسلوبه الرشيق والاثارة والمفارقات وايصال المحتوى بأقل الكلمات، بعيدا عن الزخرفة اللفظية والتزويقات الفنية.
ترجمت قصصه الى العديد من اللغات الحية (الانكليزية والفرنسية والصربية والفارسية والتركية والكردية).
جريدة العراق 11/12/ 2002