نص الحوار الذي أجراه معي صفاء الصالحي في صحيفة أوروك 23 / 10 / 2023
صلاح زنكنه
الحوار المتمدن
-
العدد: 7774 - 2023 / 10 / 24 - 22:47
المحور:
الادب والفن
هدفه الأسمى إشاعة ثقافة الحب والحرية والجمال / الشاعر والكاتب صلاح زنگنة :
أكتب وفق ما أفكر وقضيتي هي الإنسان الكائن الوجودي بكل أبعاده ومشاغله وهمومه
المرأة هي رئة كلماتي وشهيق هواجسي ولوعة تجلياتي
حوار/ صفاء الصالحي
صلاح زنگنه قاص وشاعر وناقد وكاتب إشكالي متمرد جريء يعبر عن مواقفه بصراحة لا يرى حرجاً في انتقاد أي سلطة، من مواليد 1959 بمدينة ( جلولاء)، بدأت عليه ملامح التأصيل الثقافي مبكراً إذ عرف بقراءته الأدب مع انطلاق قطار الدراسة الثانوية قبل أن تتعاظم موهبته وتتفاعل مع الواقع وتنحت اسمه كواحد من أهم السراد في العراق.
ابتزغ الشعر عليه في الصبا وأفل قبل انغماسه في المسرح كتابة وتمثيلاً ضمن النشاطات المدرسية حتى انضمامه لفرقة مسرح بعقوبة للتمثيل 1975. ينتمي صلاح زنگنة إلى التيار الليبرالي العلماني المدافع عن الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، ويعد محنة الإنسان النفسية والفكرية والوجودية قضيته.
وكقاص يحسب زنگنة على الجيل الثمانيني الذي برز وتمرس في ظروف الحرب والمحنة، دخل دائرة السرد القصصي بالمجموعة القصصية ( كائنات صغيرة)/ 1996، وقد عدها النقاد حينها رسائل إدانة لبشاعة ووحشية الحروب المتكررة، ومدونة لقصة الوطن والمآسي والانكسارات الإنسانية فيه، ثم تلاها بست مجاميع قصصية أخرى (صوب سماء الأحلام/ 2000، هذا الجندي أنا/ 2000، ثمة حلم ثمة حمى/ 2002، كائنات الأحلام/ 2002، الصمت والصدى/ 2002، عائلة الحرب/ 2014، حكايات حميمة/ 2020)
اختط فيها لنفسه نزعة جمالية رومانتيكية تكسر قيود العقل وتتمرد على الواقع وتطلق عنان الخيال مستجيبة لأهواء النفس ورغباتها دون قيود. يزاوج القاص في تجربته بين الرمز والواقع بطريقة احترافية يرسمها بمسار فنطازي ونفس غرائبي وبلغة إبداعية منغمة بعيدة عن الترف ملتزماً بأهم تقاليد الكتابة الكلاسيكية.
أشرقت شمس تجربته الشعرية بعد تدشين العقد الخامس من العمر بإنجازه أربع مجاميع شعرية منها مطبوعة وأخرى في طريقها للطبع.. هذا الولد مولع بالنساء /2017، سأدل العصافير عليك/ 2021 ، بلاد موحشة قصائد، وجع القلب.
تتسم فلسفته الشعرية بعبقها بالأنوثة التي وجد فيها أجمل وأرق وسائل التعبير، فضلاً عن انغماسها بالحياة والجمال والتمرد على كل التابوات والعقائد. وبالإضافة إلى الحضور القصصي والشعري سجل حضوره الفكري والنقدي المتميز عبر كتاباته الصحفية والنقدية الموضوعية والجريئة، كما عمل محرراً للصفحة الثقافية لجريدة الأنباء ومراسلاً لقناة البغدادية ومديراً لمكتب قناة دجلة في ديالى. وتناولت تجربته القصصية مئات المقالات والدراسات النقدية فضلاً عن الأطاريح الأكاديمية كما اختيرت إحدى قصصه ( الواقعة) كمادة في تحليل النصوص الأدبية لطلبة الدراسات العليا في جامعة تكريت وترجمت بعض القصص إلى اللغة الإنكليزية والفرنسية والصربية والكردية، وفاز بجائزة الصدى للقصة القصيرة 2002 في دبي عن مجموعته (ثمة حلم ثمة حمى) ، علاوة على فوزه بجائزة أفضل كاتب قصة لعام 2013 في استفتاء مجلة عيون العراق.
معظم من عاصر صلاح زنگنة شهد مشاكساته للنظام السابق ورفضه لسياساته التي دفعته إلى الاعتقال أكثر من مرة في مديريات الأمن وما زال هو كاتب غاضب مشاكس متفاعل مع الواقع ومتحمس في إبداء الرأي يمارس طقوس ثورته بين آونة وأخرى.
تعالوا نتعرف على بعض آرائه في هذا الحوار.
◙ كيف أثرت البيئة التي ولدت فيها ونشأت في شكلنة كينونتك الشخصية والأدبية، وما أبرز الشخصيات التي تـأثرت بها في سنوات اليفاعة والفتوة؟
ـ الإنسان، كل إنسان ابن بيئته التي تكونه وتصيره، وأنا ابن بيئات عديدة، جلولاء، وكركوك، حيث طفولتي وصباي، ثم بعقوبة حيث مرحلة الشباب والنضوج والكينونة، ولقرب بعقوبة إلى بغداد كنت أصول وأجول فيها، وهي أقرب المدن إلى روحي ووجداني، وفي مرحلة المتوسطة كان لشاكر نوري تأثير كبير عليّ، إذ كان يدرسنا اللغة الإنكليزية، ثم جلال زنگابادي الذي تعلمت منه الكثير، وفي بعقوبة كان صباح الأنباري معلمي الرصين الذي دلني على كنوز الثقافة والمعرفة ولن أنسى تأثير محيي الدين زنگنة الذي كان يدرسنا اللغة العربية.
◙ هناك العديد من الأدباء والشعراء الذين انتهجوا المذهب الإيروتيكي، فمن استهواك من الأدباء الغربيين والشرقيين؟ وهل كان لهم من تأثير على مستوى التقنية الكتابية أو طريقة التخيل في نتاجاتك الأدبية ؟
ـ لا أعتقد ثمة تأثير مباشر، هم خليط غير متجانس ممن قرأت لهم آنذاك مثل البرتو مورافيا ونزار قباني وحسين مردان وغيرهم. ولو رجعت لنصوصي القصصية، ستجد هذا الهاجس يشغل حيوات الكثير من شخصياتي السردية التي تؤرقها حالات الكبت الجنسي وتطمح بواقع لأكثر نقاءً وصفاءً وبهاءً، وترفض وتتمرد على قدرها المرسوم وفق تقاليد المجتمع الذي ألزمها المشي جنب الحيطان. وهكذا وجدت في إنثيالاتي الايروسية فسحة واسعة للانطلاق إلى براري الحب والجمال وتلمس متع الحياة والانغماس في العشق الايروسي، وتبجيل الأنثى كونها مانحة حياة وصانعة كينونة وباذخة جمال. أدرك أن الجسد أيقونة الحياة، ومنطقة محرمة، والمحافظون والخوافون لا يجرأون على المساس بالمحرمات والمقدسات، إنهم مجرد كهنة يرتلون أناشيد الأجداد الأفذاذ ويلوكون ما هو بائر ومباح ومستهلك.
شخصياً أبغي إشاعة ثقافة الحب والحرية والجمال، ثقافة الحياة في ظل حضارة الإنسان، الإنسان العالمي الكوني العابر للأديان والطوائف والقوميات والمناطقيات.
◙ ما بين القصة والشعر وباقي الأجناس الأخرى مناطق إبداع شخصية تتسع بها قدرة الأديب الإبداعية وتضيق في أي منها وجدت نفسك اخصب خيالاً؟
ـ الشعر والقصة والرواية والمسرحية والمقالة أجناس أدبية متقاربة ومتداخلة ومتواشجة أيضاً ، ليس المهم أن تكتب تحت يافطة ما، بل الأهم أن تكتب بشكل جيد خارج المسميات. أكتب فوق ما أفكر .. حين تأتيني فكرة ما وتؤرقني أبدأ بالكتابة، وهذه الكتابة قد تكون على شكل قصة أو مقالة، وعادة تكون القصة أكثر فسحة ووسعاً للخيال، كون الخيال يسمو ويتدفق عبر الحكي والحكاية أم الخيال وبودقتها.
◙ بعد هذه العقود من الاحتراف السردي لماذا لم تلتحق بموكب الرواية؟
ـ من السهل أن تكتب رواية وروايتين، لكن من الصعب جداً أن تترك أثراً مهماً، عندنا مئات الروايات ونفتقد لروائيين متميزين، اطلعت على عشرات بل مئات الروايات العراقية حصراً، ونادراً من لفت انتباهي، معظمهم يكتبون سيرهم الذاتية المملة ويحشون الفصول حشواً، ويعتقدون أنهم قد أنجزوا منجزاً بديعاً، لكن الحصيلة مجرد لغو فارغ، شخصياً لم تستهويني كتابة الرواية لسبب بسيط جداً، هل بمقدوري كتابة رواية مهمة تجاري الروايات العظيمة التي قرأتها؟ أعتقد هذا السؤال الإشكالي الشائك وقف حائلاً أمام رغبتي في كتابة الرواية.
◙ ماهي القضايا المحورية التي تستحوذ على اهتمامات صلاح زنگنة وتقوده باتجاه تجسيدها إلى عمل أدبي؟
ـ باختصار شديد قضيتي هي الإنسان، الإنسان(الكائن الوجودي) بكل أبعاده وبكل مشاغله وهمومه.
◙ في مقالك النقدي الموسوم (ما لم يقلهُ النقاد في ما لم يقلهُ الرواة) تناولت المجموعة القصصية للمبدعة لطفية الدليمي بجرأة وموضوعية توخت التقويم الصحيح للنصوص، إلى أي حد ممكن أن يسهم اعتبار موضوعية النقد أولية وأهم من العلاقة الشخصية بين الناقد والأديب في تطوير وتنمية الساحة الإبداعية والنقدية في ظل غياب الجرأة النقدية وطغيان المدارس النقدية الإخوانية؟
ـ الأخوانيات والمجاملات مشكلة النقاد وأشباه النقاد، وما زال هؤلاء يصولون ويجولون ويكتبون الفذلكات والخزعبلات تحت يافطة النقد، الناقد الحقيقي هو ناقد موضوعي لا يأبه بكل ما هو خارج النص. النقد بمفهومه الشمولي يعتمد البحث والدراسة والتقصي والاستدلال والاستنتاج، يكاد يكون معدوماً أو نادراً في الثقافة العراقية الراهنة، كون معظم الذين يشتغلون في هذا الحقل الحيوي المهم، هم من الأدباء والكتاب والشعراء والصحفيين والهواة وغالباً ما تتسم كتاباتهم بالنفخة الإخوانية المنافقة، فضلاً عن التكسب والتقرب وإرضاء المتنفذين وكسب ودهم، وبالنتيجة تجيء نقودهم على هذه الشاكلة الغوغائية المجانية، والتي لا تغني ولا تسمن، كونها تفتقر إلى الحس النقدي السليم. أما الناقد الأكاديمي الذي يكتب دراسات نقدية فاحشة البذخ الفكري والأبهة المعرفية والثراء الاصطلاحي المستل من النقد العربي القديم والمناهج الحداثوية الغربية التي تتجلى بهالات من التزويق النظري الهلامي والفلكات الأدبية والإنشائية، في الوقت الذي يدعي المنهجية الصارمة والبحث العلمي الموضوعي، واستبطان الآفاق والأبعاد الاستراتيجية في ما وراء النص الأدبي، حتى يسقط من حيث لا يدري صريع هيمنة الأطروحة النقدية المفخخة والمدججة بالتهويمات والترميمات المعدة سلفاً، جراء سوء الاستقبال والاستعمال، وبالتالي إسقاط مفاهيم ونظريات إجرائية لا تتواءم وبنية النص، ليدور في فلك من الدوامة التحليلية المقننة والمفبركة وفضاء من الخواء والهراء والثرثرة.
◙ وهل العلاقة الجدلية ما بين جرأة ونرجسية الناقد ونرجسية وحساسية المبدع أوقعتك في صراعات وخصومة؟
بلا شك.. وأنا شخصياً عندي خصومات شتى خصوصاً مع الأقزام الذين يتقافزون هنا وهناك.
◙ تمثل المرأة بكل ما تحمل من أسرار وجمال شخصية محورية في أغلب نتاجاتك، كما يعد الشبق واستمراء الجنس محوراً يتمركز حوله النص؛ فهل هذه ترجمة لفضاء إيديولوجي وثقافي تموضع بداخل صلاح زنكنة وجمهوره؟ أم هي محاولة قصدية لتعرية السلطة الذكورية التي تسلع قيمة المرأة وتحصرها بإثارة الشهوة وتلبية الشبق الجنسي؟
ـ سبق وأن أجبت على هذا السؤال وإليك ما قلت نصاً : ( المرأة هي رئة كلماتي وشهيق هواجسي ولوعة تجلياتي كون الكتابة عندي فعل كينونة ووسيلة لديمومة الحياة فأنا أكتب القصة وكأني أكتب قصيدة عن امرأة هجرتني وأبغي وصالها، وأكتب القصيدة كأني أسرد حكاية امرأة أعشقها وأخشى هجرانه، لهذا أتشبثُ بأطيافها وأغور في محيطاتها وأدور حول أفلاكها عبر كل نص أنجزه أو أحاول إنجازه) .
◙ يحمل الرمز والإيحاء في معظم مجاميعك القصصية بعدا يحيل المتلقي إلى معاني ودلالات واسعة داخل النص بالإضافة إلى إيحاءات لقضايا خارج النص غالبا ما تتعلق بالظروف السياسية والاجتماعية. هل لك أن تضعنا في المعاني الكامنة وراء الرموز في قصة القيد/ 1985، متوالية التماثيل/ 1994، لعنة الحمام/ 1996 والظروف التي كتبت بها؟
ـ مهمة القاص أن يوحي لا أن يسمي ويقرر، كون الإيحاء سمت الفن، ولكل قصة ظرفها ومناخها، والقصص التي أشرت لها هي نصوص فنطازية بامتياز حاولت من خلالها وعبرها أن أقدم إدانة صارخة للدكتاتورية القامعة التي جثمت على صدورنا وقطعت أنفاسنا وسرقت أحلامنا وسحقت أعمارنا.
◙ اللغة الشعرية سلاح ذو حدين فإما أن تجر القاص إلى آليات قصيدة النثر وتلفظه خارج الدائرة القصصية أو أن ترتقي إلى دائرة الإبداع القصصي بجدارة. هل أنت مع إضفاء الشعرية كسمة من سمات كتابة القصة؟ وماهي المعايير التي تلتزم بها؟
ـ ما من معايير ثابتة أو قارة، المعيار المهم والأهم هو الوضوح والسلاسة والإحاطة والإيجاز، الشعرية مفهوم ومصطلح نقدي يتجاوز الشعر ويتأصل في الكثير من النصوص السردية، المشكلة أن بعض الساردين يتشاعرون ويشعرنون ما هو غير شعري فيقعون في مطبات اللغو والتشاعر الساذج، معظم قصصي قريبة من قصيدة النثر أي مختزلة ومكثفة وموحية من دون أطناب وإسهاب بشهادة نقاد وشعراء.
◙ ما رأيك بما ذهب إليه الدكتور وليد إبراهيم قصاب في ورقته النقدية الموسومة (النثر من الشعرية إلى الشعر) بأنَّ قصيدة النثر ترتبط بخطاب أيديولوجي يقوم على مفهوم متطرف للحداثة، وهي قصيدة انقطعت عن الحياة وغرقت في رؤية شخصية وذاتية مفرطة وهي نصوص بلا قضية وبعيدة عن الالتزام والاهتمام بقضايا الأمة؟
ـ لا أتفق مع القسم الأول من كلامه بصدد الخطاب الأيديولوجي، وقد أتفق معه جزئياً في أنَّ الكثير من قصائد النثر لا علاقة لها بالحياة وهي عبارة عن تهويمات وفذلكات لغوية، أما الالتزام والاهتمام بقضايا الأمة فهو من الأوهام والأكاذيب التي صدعوا بها رؤوسنا.
◙ في مجموعتك الشعرية( سأدل العصافير عليك) تشكل تقنية التكرار في البنيات اللغوية مهيمناً أسلوبياً لافتاً في بناء النص، فما هي أسباب ومبررات توظيفك لهذه الظاهرة الأسلوبية؟
ـ التكرار نظام بلاغي عربي قديم الغاية منه تأكيد ما هو مؤكد بصيغة جمالية، لم أتعمد استخدامه بل جاء عفوياً وفق سياق النص الذي يتطلب هذا الأسلوب أو ذاك، من دون إقحام أو زوائد بلاغية بليدة.
◙ (كحمامة مهاجرة.. حطت على قلبي.. بعد طواف طويل.. واتخذت من أضلاعي عشا وبيتا.. وراحت تشدو بالهديل).
ـ يقيناً يجمع القارئ أو الناقد على أنَّ الصورة الشعرية المتناغمة مع الموسيقى الداخلية سمة بارزة من سمات هذا النص.
◙ ماهي المصادر والمنابع التي تستقي منها في تشكيل صورك الشعرية؟
ـ يقيناً لا أدري فأنا أكتب وفق مزاجي الروحي الخاص، ومصدري الأكبر هو الحياة بكل تموجاتها، ومنبعي الأهم هو ذائقتي الشعرية بكل عفويتها وبساطتها وطراوتها.
◙ مارست الفعل الإداري والثقافي كرئيس لاتحاد أدباء وكتاب ديالى وعضو في المجلس المركزي للاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق لدورات عديدة، فإلى أي حد ممكن يؤثر العمل النقابي على الرصيد الإبداعي للأديب؟
ـ يؤثر تأثيراً سلبياً.. يجعلك تتفرغ للآخرين، والآخرون في حل مما تفعله وتعمله وتقدمه لهم، العمل الإداري متعب ومقرف وممل، وهو لا يليق بالمبدعين أبداً إلا باستثناءات قليلة، بعض الأدباء والكتاب يستثمرون العمل الإداري لغايات شخصية، وهذا ما حصل ويحصل لهؤلاء النفر الذين يعتاشون على العمل الإداري النقابي والمهني ويحصلون على مكاسب شتى من لدن ذوي الأمر ويتسنمون مناصب حكومية وحزبية ومعظمهم بلا إرث ثقافي أصيل كونهم يجيدون أكل الأكتاف وهز الأرداف.
◙ دائماً ما تذكر أن العاشق لا يشيخ وأن لا نهاية لمصل الحب والجمال والحياة؛ فهل لمصل النرجسية والمشاكسات والتمرد الساخط الكافر بالمحيط من نهاية؟
ـ أجل يا صديقي العشاق لا يشيخون كونهم ينهلون من نهر الحياة الجاري المتدفق، والعاشق الحقيقي نرجسي بطبعه وهو كائن مشاكس لما هو جاهز، ومتمرد على الثوابت، وساخط على محيطه البليد، وكافر بكل ما يمس أناه
( الإنساني) ويخدش كرامته من تابوات ومحرمات ومقدسات كاذبة، العاشق إنسان يلهو بالحياة كما يلهو الطفل بأرجوحته.
# لعنة الحمام # اقصوصة
حول القصر الرئاسي ، سرب حمام يحوم ، حمائم بيض مثل حمام الجنة , أرواح غضه نقية شفافة ، تهدل هديلاً حزيناً كما الحزن العراقي .
(كوكوختي وين أختي وين أخوي وين أمي وين أبوي)
حمام يحوم وينث دماً قانياً وينثر رماداً كثيفاً بارداً .
دم ورماد يتهاطل على القصر الرئاسي ، ينهمر انهماراً على الجند والحرس والحماة ...
مضادّات الجو والدفاعات الأرضية من الدوشكات ورباعيات وقناصات أوتوماتيكية صوّبت فوهاتها نحو الحمام بأمر الرئيس .
الحمامات لم تصب بل انقضت على الجند المصوبين وفقأت أعينهم وظلت تشدو :
(كوكوختي وين أختي وين أخويّ وين أمي وين أبوي)
الرئيس عاف القصر الرئاسي ، هجره إلى قصر أخر ليواصل اجتماعاته المتوالية متناسياً أمر الحمام ، الحمام العراقي الطروب اللحوح اللجوج الذي تبعه بهديله ونواحه ونثيث الدم والرماد .
الرئيس القوي العنيد الجبار الذي لا تهزه النوائب ولا الحروب ولا المصائب , هزه الحمام أقلقه وجنَّ جنونه .
أصدر أمره إلى وزير الحربية بإبادة الحمام بالسلاح الكيماوي الفتّاك وليذهب الحمام وأهل الحمام إلى الجحيم .
حلَّقت الطائرات فوق الحمام وراحت ترشه بالكيماوي .
الحمامات هاجمت الطائرات واشتبكت معها وأسقطت معظمها أناس كثيرون ماتوا اختناقاً وتشوّه آخرون وجن جنون آخرين وحلت لعنة الحمام .
الرئيس لم يقرّ له قرار ولم يهدأ له بال والحمام ينحب نحيباً مراً :
كوكوختي .. كوكوختي .
أصدر قراره التاريخي الكبير وأمر وزير الحربية بتنفيذه فورا ودون أي تأخير:
اضرب الحمام اللعين بالنووي .
مات الشعب كل الشعب ، مات بالنووي وبقيَّ هو متمترساً في خندقه يائساً والحمام ما زال ينحب نحيباً سافرا :
كوكوختي ... كوكوختي .
قرر الرئيس ، لا بد من ترك البلاد بعد أن تحولت إلى مقبرة كبيرة والفرار إلى بلد آخر عسى أن ينجو من لعنة الحمام ويحظى بالراحة والأمان .
همَّ بالرحيل يسبقه أعوانه وحاشيته وحماته ، بأم عينيه رأى الحمام حمام الأبابيل يجهز عليهم بغضب من سجّيل ، ويقتلع العيون من المحاجر.
استسلم الرئيس للحمام ليسمل عينيه ويهيم على وجهه وهو يتعثر بالجثث والحمام ينقر وينقر وينقر ...
منذ ذلك اليوم كفّ الحمام عن الهديل والنحيب والنواح .
واختفى في ملجأ العامرية حيث أعشاشه.