الحرب أورثتني العطب الروحي, وسلبتني الطمأنينة
صلاح زنكنه
الحوار المتمدن
-
العدد: 8198 - 2024 / 12 / 21 - 21:50
المحور:
الادب والفن
لقاص صلاح زنگنه / الحرب أورثتني العطب الروحي و سلبتني الطمأنينة.
حين أرى المسدس أهرع إلى قلمي !
حاوره / مشتاق عبد الهادي
جريدة العرب العالمية / لندن 7 / 6 / 1999
ينتمي القاص العراقي صلاح زنكنه للجيل الثمانيني الذي عاصر ويلات حربين ضاريتين وخاض غمارهما، وحصار جائر طال كل مفاصل الحياة، وفتك بالإنسان العراقي وطمر الكثير من القيم والأحلام, فكتب نصوصاً قصصية استقى مادتها الأولية من عنف الواقع وقساوته، واستطاع أن يحقق حضوراً فاعلاً في الوسط الثقافي من خلال قصصه ومقالاته في الصحف والمجلات العراقية والعربية ومشاركاته في العديد من الفعاليات والندوات والملتقيات.
في هذا العام 1999 دشن صلاح زنكنه عامه الأربعين, وكان للهم الأدبي حصة عشرين عاماً, وهذا حوار معه خص به جريدة العرب.
• من هو صلاح زنكنه ؟
- هو ذلك الإنسان المرهف الواجم، القانط الغاضب, العاشق المزاجي الحالم الطموح المغامر المكابر، القلق. وهو ذلك الكاتب الذي تؤرقه قضية الإنسان وحريته وكرامته، والمؤمن بقوة الكلمة وفعل الكتابة والذي لا يساوم أبداً, بل يقاوم كل الشرور والطواغيت عبر كتابة القصة القصيرة.
• الواقع والكابوس تنطلق عادة من الواقع في موضوعاتك القصصية، هل الواقع كفيل برفدك بكل هذه الغرائب ؟
- أجل يا صديقي من المؤكد أن كل كاتب ينتقي موضوعاته من الواقع ومن ثم يدخلها ورشته أو مختبره القصصي ليعيد صياغتها وفق ما هو يرتئيه من رؤى وأفكار ومواقف، وهنا تتداخل وتتساوق مجموعة من العوامل التي تحدد بدورها مدى نجاح أو إخفاق المؤلف في عملية خلق النص مثل اللغة والمعرفة والمخيلة والتجربة والمران, إن الموضوعات شتى ومباحة للجميع، لكن الكاتب الفذ، الخالق، هو الذي يستطيع أن يلتقط الموضوعة الأثيرة، ويبثها الروح لتفعم بالحياة، ويمهرها ببصمته الخاصة المميزة.
• لا شك ان الواقع يعج بالغرائب والعجائب والمحن، وطبيعي ان الخيال لا يتشكل إلا من خلال الواقع وفي إطاره وماء يجرف الناس وغبار يدفنهم، وكائنات تولد من الرؤوس، وبشر يبيضون، وتماثيل تمشي وتتكلم وخراف تنهش الناس ووو... الخ، لم كل هذه الكوابيس؟.
- رأسمال القاص هو خياله، شخصياً أعتقد ان لي مخيلة ثرية فنطازية، كل هذه المشاهد التي ذكرتها بالرغم من كابوسيتها وفنطازيتها فإن لها صلة بالواقع أي ان لها جذوراً في الواقع ومرجعها هو الواقع, كما أسلفت حتى أن دانتي استقى مادة ملحمته عن الجحيم من عالمنا الواقعي، وقد صاغ جحيماً كاملاً، لكنه عندما حاول وصف الجنة ومباهجها، واجهته صعوبة كبيرة، لأن عالمنا لا يتيح أية مادة للفردوس، هذا ما يورده شوبنهاور في كتابه "العالم إرادة وتخيل "
• وهل للكوابيس علاقة بكل هذا الخراب القائم في نصوصك ؟
- الى حد ما نعم، والى حد ما أنا سوداوي المزاج بعض الشيء غالباً ما تشدني تلك العوالم الخربة لأنشئ على انقاضها نصوصاً توازي وتستوعب جزءاً ولو يسيراً من ذلك الخراب, الخراب ليس فيما يحيطنا نحن كحيوات مهددة، بل الخراب الذي يعشعش في دواخلنا والذي يتسع بمرور الزمن كلما اتسعت مساحة أحلامنا، يقول صديقي القاص زعيم الطائي (إن عالم صلاح زنكنه، عالم مخيف لكنه لذيذ، متخم بالأحلام المستحيلة والمميتة والمليئة بالغرابة, وهي نسخة من كوابيس العالم الذي نعيشه)
إنني أحاول أن أتحدى هذه الكوابيس وأن أوقف هذا الخراب، أحاول أن أراوغه ريثما تسنح الفرصة للإفلات والخلاص، نحن معشر الكتاب والشعراء والفنانين عادة ما نفلت منه عبرالكتابة, أي بافتراض وبناء عالم يوتيبي.
• ترى وبمناسبة الكوابيس والخراب، ما الذي منحتك الحرب؟
- هي لم تمنحني، بل أورثتني الحزن القانم والوجوم الأبدي والغضب العارم والعطب الروحي والكوابيس التي لن تنتهِ, وسلبتني الطمأنينة والفرح والحب والأصدقاء, الحرب سحقتني وهدتني وتركت لي الخواء والانهيار، لقد صدعتني وصقلتني وجعلتني أشيخ قبل الأوان، إنها تحيل كل شيء الى حطام ورماد وعويل، يا للحرب ويا لبشاعتها.
• قصة (طواحين امرأة) التي نشرتها (العرب) كادت أن تطحنك، هل تخشى الطحن من جراء الكتابة؟
- أجل أحياناً أخشى ذلك كثيراً، لأننا نعيش في عالم غير متوازن عرضة في كل مكان وزمان للطحن والطعن والاستلاب, والكاتب الجاد كائن مشاكس، مناضل، مغامر، مقاتل، لا يمكن أن يسكت على ضيم، ويجاهد عموماً من أجل العدالة والحق والخير والجمال والسلام, وإلا لماذا يكتب، لقد دفع سقراط حياته ثمناً لذلك فجرع السم ومات، واتهم ابن رشد بالكفر والزندقة وأحرقوا كتبه واغتيل المتنبي ولوركا ونيرودا.
والآن في إيران ثمة حملة شرسة وبشعة لاغتيال المفكرين والمثقفين والأدباء، وقد قضى غرامشي نحبه في السجن, ولم يسلم من الاعتقال كل من ناظم حكمت, ويشار كمال, وسعدي يوسف, وعبد الستار ناصر, وعبد اللطيف اللعبي, وقاسم حداد.
كان الوزير الهتلري غوبلز يقول, حين أسمع بكلمة ثقافة أضع يدي على مسدسي، وأنا حين أرى المسدس أهرع الى قلمي.
• ألا تشعر بالازدواجية باعتبارك كردي القومية وتكتب بالعربية ؟
- حقيقة لا أشعر بالازدواجية، فالعربية اصبحت قدري ومصيري في الكتابة والثقافة، إذ انني أفكر وأحب وأحلم بالعربية وأكتب بها، أما الكردية التي أجيد التحدث بها بسهولة ويسر, ولا أتقن الكتابة بها، فهي لغة أبي وأمي، لـغـة الحليب والحب والغناء والكبرياء، لغة الجبليين التي تتسم بالشفافية والرومانسية والبساطة، وحين أتحدث بها أشعر بالغبطة والقوة والأمان، وحين أكتب بالعربية أشعر بأنني إنسان, وبديهي أن اجادة الكاتب لأكثر من لغة شيء ضروري, وشخصياً أسعى لأتقن الانكليزية، فاللغة تعني شعباً وأمة وتراثاً، وهي تجعل أفق الإنسان أوسع, وثقافته أغنى, وتمنحه المرونة والدفق والسلاسة والرصانة.
• تساهم بين حين وآخر في كتابة عروض نقدية لبعض المجاميع القصصية هل من الضروري للقاص أن يكون ناقداً ؟
- النقد بالمعنى الأكاديمي، منهج ورؤية وفكر، شخصياً لا أدعي لنفسي التحكم بكل هذه الشروط، أن ما أكتبه هو انطباعات شخصية ووجهة نظر خاصة ترتبط بذوقي ومزاجي وقراءتي, وعادة أكتب عن قصص أحبها وأتعاطف معها، وليس ضرورياً أن يكون القاص ناقداً، لكن من الضروري جداً أن يكون ناقداً لنصوصه, ذواقاً وموضوعياً وصارماً، وأعتقد أن القاص كلما كان مثقفاً ومطلعاً وملماً كلما كان أكثر حيوية وتفاعلاً ورسوخاً، يقول تشيخوف في هذا الصدد (إن أصالة الكاتب لا يمكن أن توجد في أسلوبه وحسب, بل في نمط تفكيره واعتقاداته أيضا).
• هل لنا أن نعرف المرجعية الفكرية والثقافية والمعرفية لصلاح زنكنه ؟
- هما مرجعان كبيران أثرا في تأثيراً هائلاً وجذرياً وما زلت أنهل منهما وأدين لهما، ماركس والماركسية، وفرويد والفرويدية وكل ما يتجذر ويتمفصل عنهما وما يدور في فلكهما من أسماء ومذاهب وتيارات، وهناك أيضاً نيتشه وسارتر وكامو وكافكا وتشيخوف وكل ما يقاربهم ويصب في مصبهم، ولا تنس ذلك العملاق أدونيس عراب الحداثة العربية، وكان لنزار قباني تأثير طاغ علي في بداياتي وكنت مغرماً بأشعاره, أما عمالقة الأدب فالقائمة طويلة، دوستويفسكي، شتاينبك، مورافيا، كزانتزاكي, مارلو، ماركيز، فوكنر، يوسف ادريس، عبد الرحمن منيف، زكريا تامر, وهناك من أعاد صياغة معرفيتي، فوكو، بارت، غولدمان, تشومسكي, كريستيفا، لاكان، التوسير.
وهناك من تعلمت منهم كتابة القصة من العراقيين الأفذاذ, عبد الرحمن الربيعي، محمود جنداري، عبد الستار ناصر جليل القيسي، محمد خضير، محيي الدين زنكنه، أحمد خلف, هي خلطة عجيبة غريبة لكنها رصينة.
• عبر زيجتين ونساء في الذاكرة، هل وجدت المرأة؟
- الذي على شاكلتي من الصعوبة أن يجد المرأة / المرأة, ويبقى أبداً يفتش ويحلم ويولع بامرأة غير موجودة، بل من الصعوبة أن يجد الوطن / الوطن، لأنه منفي أبدأ, ومغترب لا وطن يلمه، وهو لا يهنا بالملاذ والاستقرار, لأنه مغامر لا يستكين، ولا يقتنع, لأنه طموح وحالم.
أنا أصبو لامرأة لا تشبه النساء بل هي كل النساء.