مركز العالم فلسفته ، رمزيته وقدسيته
أمجد سيجري
الحوار المتمدن
-
العدد: 7302 - 2022 / 7 / 7 - 17:32
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
يعتبر مصطلح مركز العالم احد المصطلحات الشائعة والمهمة لدى العديد من الديانات والثقافات حول العالم التي تعتبر هذا المركز المحور الكوني الذي تأسس عليه نظام الكون بالتالي جمع هذا المركز جميع الأنماط الأساسية للوجود و شكل قلب الواقع ونواته بالتالي كان تمثيلاً للنظام والإبداع الإلهي في مواجهة الفضاء الفوضوي الذي يقبع وراء المجهول .
قد تختلف طبيعة هذا المركز وصفاته من ثقافة إلى أخرى حيث يأخذ أحيانا مكاناً اسطورياً تصفه احدى نصوص الديانات المقدسة أو يشغل حيزاً جغرافياً يمثل بيتاً للإله و مبدءاً للخلق و غيره ، لكنه في المجمل يشترك بجوهر واحد متمثل بالقداسة .
تعتبر الأشجار و الجبال إحدى أهم الأشكال الرمزية لمركز العالم تلك المراكز التي تم وصفها بأنها قد وجدت منذ بداية الزمان و تشكل نقطة البداية و المحور الكوني الذي تدور حوله الكواكب والنجوم و تشكل المحور العامودي الذي يربط بين العوالم المختلفة الأرض والسماء وينقل الإنسان من خلاله بين تلك العوالم .
كما أن بيوت الإله ( المعابد ) أو المدن أو العواصم الدينية كانت تعتبر في كثير من الأحيان مركزاً للعالم فكانت تتوج بالقداسة بكونها ملتقى السماء والأرض فكان يتم تصميمها بنموذج سماوي إلهي دائري كمدينة ماري و مدينة بغداد مثلاً ، فكانت تمثل محاكاة لعملية التجدد و الخلق بجانب الأنهار أو الينابيع وتعبر عن بناء النظام فوق مياه الفوضى التي مثلتها المياه البدئية كنموذج مردوخ وتيامات مثالاً .
ومن الأمثلة المهمة على مركز العالم في الديانات المختلفة نجد مثلاً في الإسلام أن معظم المسلمين يعتبرون مكة هي مركز العالم بالرغم من غياب النص القرآني الداعم لهذا الإفتراض الإ اننا نجد حديثاً واحداً عن الرسول رواه إبن عباس يحدد مركز العالم بمكة حيث نقل عن النبي محمد فقال :
( أول بقعة وضعت في الأرض موضع البيت ، ثم مدت منها الأرض ، وإن أول جبل وضعه الله على وجه الأرض " أبو قبيس " ، ثم مدت منه الجبال )
غير هذا الحديث نجد عدداً مهماً من الروايات في آثار الصحابة والتابعين تدل على أنهم كانوا يرون أن مكة هي مركز العالم لا داعي لذكرها تجنباً للإطالة .
أما في الكتاب المقدس العبري في سفر القضاة ( 9:37) يُذكر جبل جرزيم بإسم "سرة الأرض" طبور هي أرص טבור הארץ فيقول : " הנה־עם יורדים מעם טבור הארץ " " هاهم الشعب ينزلون من سرة الأرض " مع التنويه أن جميع الترجمات العربية كالأخبار السارة وسميث وفانداك والترجمة اليسوعية لا تتقيد بالنص العبري وتترجمها " بأعلي الجبال حينا أو سنم الأرض " لكن نجد التقيد بالترجمة يظهر بالنسخة السبعونية LXX وفي ترجمة الملك جيمس الإنكليزية فنجد انها تترجم بمركز الأرض أو وسط الأرض .
وفي التقليد المسيحي اعتبرت تلة الجلجثة أنها مركز العالم وقمة الجبل الكوني وذلك لأن المسيح قد صلب المسيح هناك وسال دمه و غسل به خطايا البشرية جمعاء لذلك تم اختيارها لتكون الطريق نحو الخلاص بإعتبارها كما كل الجبال محوراً شاقولياً يحدد مسار الخلاص واختراق مسارات الوجود من العالم الأرضي و إلى العوالم الروحانية الخالدة .
وفي بلاد ما بين النهرين كانت كل مدينة تعتبر موطناً لإله حيث تم بناء المعابد في كل مدينة من تلك المدن وكرسوا تلك المعابد لإله تلك المدن فعلى سبيل المثال كانت أوروك مدينةً ومقراً لإله السماء " أنو" وفيها معبده كذلك كانت نفّر مدينةً للإله إنليل وفيها معبده و بابل مدينةً للإله مردوخ و وفيها معبده .
كانت تبنى معظم المعابد في تلك بشكل متدرج بما يعرف بالزقورات فكانت تعبر بتدرجها على طريق الصعود والسمو بين العوالم وتحديداً بين السماء والأرض فكانت هذه الزقورات تعبيراً عن الجبل الكوني أو مركز العالم ، وبالإضافة إلى ذلك إحتوت بعض المعابد كمعبد إنكي في إريدو على شجرة مقدسة سوداء اسمها " كيسكانو " كانت تعتبر مركز العالم و النقطة المركزية لإقامة مختلف الطقوس التي يؤديها الملك للإله إنكي .
وفي النهاية تمثل هذه الأمثلة ثنوية متأصلة في رمزية المركز الذي يجمع بين المتناقضات فهو يربط بين بين المحدود واللامتناهي بين الإنسان الفاني والإله الخالد و بين السماء والأرض وهذا الجمع بين المتناقضات يمثل التجربة الدينية التي تحدد طرق السمو الروحي نحو الأعلى في بعض الديانات والذي يتطلب تحولاً كاملاً في فهم الوجود الروحي للفرد للوصول إلى أنماط وجودية أعلى كالتجربة الصوفية التي تتطلب رحلة نحو المركز يتم من خلالها الإرتقاء ضمن المستويات الروحية تنتهي بالموت الدنيوي وبلوغ الحقيقة المتمثلة بالمركز مبدأ وقلب الوجود .