العين الشريرة والخرزة الزرقاء - تحليل الرمزية
أمجد سيجري
الحوار المتمدن
-
العدد: 6480 - 2020 / 2 / 2 - 02:23
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
يؤمن اليوم ملايين الناس حول العالم بتأثير العين الشريرة االتي تعتبر لعنة أسطورة يعتقد المؤمنون بها بأن للعين الشريرة وهجاً ضار ينتج عن عدد من المشاعر السلبية الاجتماعية كالحسد أو الجشع ، و يكون تأثيرها مدمراً في بعض الأحيان .
بشكل عام علينا التميز بين العين الشريرة ، والتي تعتبر لعنة ، وتميمة العين المعروفة " خرزة زرقة أو نظر " ، التي تعتبر الدواء للداء السابق وتبدد لعنة العين الشريرة .
أولاً العين الشريرة :
يعتبر الايمان بهذه العين قديم جداً فالمصادر الأثرية والكتابية تشير إلى أن أقدم آثار هذه الاسطورة يعود إلى الآلاف السنين في منطقة شرق والبحر الأبيض المتوسط و في غرب آسيا .
بصراحة ويصعب تحديد مدة زمنية بدأ ت منه فهي هي مفهوم غارق في القدم انتقل إلى عصرنا الحالي جيلاً بعد جيل حتى وصل الينا اليوم، لكن بالرغم من مرور هذا الايمان عبر آلاف السنين الا اننا نؤمن به تماماً كما فعل أسلافنا من قبل في العصور القديمة وظل هذا المفهوم ضمن شكله واطاره العام ثابتاً في الخيال الإنساني.
إعتبر الأقدمون ان العين الشريرة او الحاسدة تطلق لعنة تنتقل عبر وهج ضار يصيب الهدف بسوء وهذا ما تشهد الأدبيات القديمة حول الموضوع بدءا من هسيود ، أفﻼطون ، ديودوروس سيكولوس، بلوتارخ ، هيليودورس الحمصي ، و بليني اﻷكبر ، على سبيل المثال اقترح الفيلسوف اليوناني بلوتارخ في القرن الأول ميلادي تفسيراً للعين الشريرة واعتبر أن العين البشرية لديها القدرة على إطلاق أشعة غير مرئية من الطاقة كانت في بعض الحالات قوية بما يكفي لقتل الأطفال أو الحيوانات الصغيرة.
كما تخبرنا كتاباته أيضاً أنه كان يعتقد أن مجموعات معينة من الناس كانت أفضل من غيرهم في لعن الناس بعيوهم . كما ذكر أن الأشخاص الذين لديهم عيون زرقاء أفضل في لعن الناس من غيرهم .
طبعاً هذا يعود لندرة العيون الزرقاء حول البحر المتوسط في ذلك الوقت ، بدا أن العيون الزرقاء غير طبيعية لدرجة أنه كان يتعين على صاحبها أن يكون ساحراً .
كما قام هليودوروس الحمصي في القرن الثالث ميلادي بتجسيد هذا المفهوم ووصفه بشكل جيد في روايته " إيثيوبيكا " حيث كتب: "عندما ينظر أي شخص إلى ما هو ممتاز بعين الحسد فإنه يملأ الأجواء المحيطة بذلك الشيء بالخباثه ، وينقل زفيره المسموم إلى كل ما هو قريب إليه ".
ونتيجة تعلغل هذا المفهوم للعين الشريرة وبالرغم من أنه وثني استمر بنفس الدلالات ووجد له مكاناً في النصوص الدينية ، بما في ذلك الكتاب المقدس والقرآن.
ففي سورة القلم 51 مثلاً :
"وان يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لمّا سمعوا الذكر ويقولون أنه لمجنون"
وفي سورة الفلق5 :
"ومن شر حاسد إذا حسد "
وفي الكتاب المقدس نجد :
في سفر اﻷمثال 23 : 6
"ﻻ تأكل خبز ذي عين شريرة، وﻻ تشته أطايبه،"
سفر اﻷمثال 28 : 22 ايضاً
"ذو العين الشريرة يعجل إلى الغنى، وﻻ يعلم أن الفقر يأتيه ."
وفي سفر يشوع بن سيراخ 14 : 10
"العين الشريرة تحسد على الخبز، وعلى مائدتها تكون في عوز "
وفي سفر يشوع بن سيراخ 31 : 14 أيضاً
"اذكر أن العين الشريرة سوء عظيم"
وفي العهد الجديد في إنجيل متى 6 : 23
"وإن كانت عينك شريرة فجسدك كله يكون مظلما، فإن كان النور الذي فيك ظﻼما فالظﻼم كم يكون !"
وفي إنجيل متى 20 : 15 أيضاّ
"أو ما يحل لي أن أفعل ما أريد بما لي؟ أم عينك شريرة ﻷني أنا صالح؟"
إنجيل مرقس 7 : 22
"سرقة، طمع، خبث، مكر، عهارة، عين شريرة، تجديف، كبرياء، جهل ."
وفي إنجيل لوقا 11 : 34
"سراج الجسد هو العين، فمتى كانت عينك بسيطة فجسدك كله يكون نيرا، ومتى كانت شريرة فجسدك يكون مظلما ."
لفهم هذا الإعتقاد ليس بالأمر الصعب فأحد التفاسير الأولية ينبع من الإعتقاد بأن الشخص الذي يحقق نجاحًا كبيراً أو اعترافًا كبيراً سيجذب نظر الناس إليه بالتالي سيجذب نظر الحاسدين إليه من المحيطين به ويتمنون فشله .
لكن الإعتقاد الأقوى ينبع من التفسير الأولي للرؤية الذي تمت صياغته في اليونان القديمة على شكل نظرية علمية حينها والتي ظلت مستخدمة حتى القرون الوسطى المعروفة اليوم "بنظرية الإنبعاث " والتي تقول بأن العين ترى بسبب الضوء المنبعث منها والذي يسقط على الأجسام ويعود إلى العين لتتم الرؤية .
طبعاً هذه الفرضية من الطبيعي ان تكون مرتكزة على افكار سابقة تعود لآلاف السنين وتمت صياغتها في اليونان القديمة فعندما نبحث عن سبب هذه النظرية مثلاً عند أول من قال بها وهو إيمبيدوكليس في القرن الخامس قبل الميﻼد، فسنجد التفسير للمعلومة الأولية هو مثيولوجي حيث افترض الوجود يتألف من أربعة عناصر هي النار والهواء واﻷرض والماء وقال أيضا ان الألهة أفروديت صنعت العين البشرية من العناصر اﻷربعة، وأنها تركت النار في العين لتخرج من العين النور الذي يجعل الرؤية ممكنة ولتبرير عدم الرؤية ليلا افترض وجود علاقة بين ضوء العين وضوء الشمس ، ظلت هذه النظرية حتى جاء العالم ابن الهيثم في القرن العاشر ميلادي وبين بطلان هذه النظرية اي ان العين هي مستقبل تستقبل الاشعة الضوئية المنعكسة من جسم ما وليس العكس .
عموماً بشكل عام يمكن تفسير هذه النظرية الأولية للروئية تبعاً للملاحظة البسيطة للإنسان القديم من خلال مراقبته الحيوانات كالقطط مثلاً والتي تظهر عيونها وتلمع في الظلام طبعاً العلم الحديث فسر هذه الظاهرة وأرجعها لوجود طبقة تسمى البِساط الشَّفَّاف tapeta lucida ، هو طبقة من اﻷنسجة في عيون العديد من الفَقَاريَّات والتي يفتقر لها الإنسان كونه نهاري العيش تتوضع هذه الطبقة خلف الشبكية مباشرة وتعكس الضَّوء المَرئيّ ليُعيده للخارج عبر الشبكية ، لتحصل على مزيد من الضوء بالتالي الناظر يرى ان العيون تلمع وتصدر ضوءاً .
لكن هناك ملاحظة مهمة قد تعطينا تفسيراً آخر فنجد في احد النصوص السومرية الذي يرجع إلى الألفية الثالثة - الرابعة قبل الميلاد ذكر للعين الشريرة التي أسماها السومريون " igi-hulu " تذكر النصوص ان هذه العين الشريرة هي عبارة عن مرض يؤدي إلى احمرار العين وتبدو حينها كعين الشر في الحقيقة هذا المرض هو التهاب الملتحمة الناتج عن الالتهابات الفيروسية والبكتيرية ، والتي تتفاقم بسبب سطوع شمس الصحراء لهذه المناطق. بالتالي كان ازدياد الإصابة سوءاً ، فقد يتسبب ذلك في تلف دائم للعين أو العمى.
لذا وجد السومريون علاجاً طبياً والمعروف لنا باسم" الكحل" وذلك لتحديد عيونهم وحمايتها من العين الشريرة صُنع مزيج الكحل هذا من راتنجات اللبان المتفحمة التي لها خصائص مضادة للبكتيريا.
فكانت الفائدة مزدوجة فلم تقتصر الحماية من البكتيريا فقط انما ساعدت الخطوط المظلمة أيضًا في تشتيت سطوع الشمس المزعج لذلك نجد أن هذه العادة حتى اليوم موجودة عند البدو في المناطق الصحراوية .
ثانياً : تميمة العين الجيدة أو الخرزة الزرقاء أو نظر :
مع الاعتقاد الشديد و الواسع الانتشار بأن العين الشريرة كان لها القدرة على إحداث مصيبة كارثية ، فليس من المستغرب أن يبحث سكان هذه الحضارات القديمة عن وسيلة لجمح تأثيرها ، فكان ابتكار التمائم المناظرة لتلك العيون على مبدأ الرد بالمثل فكانت تلك التمائم عبارة عن عيون تختلف ألوانها لكن اللون الأكثر استخداماً كان اللون الأزرق كون اللون الازرق النادر ارتبط بالعيون الشريرة كما بينا من قبل فيكون فعلا العين الشريرة والتميمة متعاكسان مباشرة وبذلك يحمي الإنسان نفسه من تأثير تلك العيون .
بشكل عام أقدم نسخة من تمائم العين تعود إلى سنة 3300 قبل الميلاد حيث تم العثور على العشرات من التماثيل التي تحتوي عيوناً في " معبد العيون " في منطقة تل براك في سورية والتي تعتبر من أقدم التجمعات الحضرية في العالم ، فقد تم العثور في معبد " تل براك " على مئات من التماثيل وآﻻف من الكسر الحجرية والرخامية تمثل لم يعرض منها إﻻ الكتفان والرقبة والعينان البارزتان جداً مما دفع اغلب الباحثين لإعتبار هذه التماثيل مستخدمه لصد سحر اﻹصابة بالعين، وأنها طقوس دينية لها دﻻﻻت للحماية من الشر والعدو ، وهي واحد من المعتقدات وطرق التقرب من اﻻلة في هذه المنطقة من سوريا .
لكن نجد هذه العيون لها شكل الرحم مما يدفعنا الإفتراض بأن هذا المعبد مخصصاً لعبادة الربة عشتار / انانا وكما نعلم كانت عشتار أله الخصوبة والحب والجمال و التي تعدد شكلها الأيقوني وتمثيلاتها بالتالي قد تكون العين أحد تمثيلاتها كون للعين والرحم ذات الشكل المغزلي .
يبدو من هذا منطقياً وخصوصاً أن تمائم عشتار وتماثيلها تم استخدامها كوظيفة وقائية في أوقات لاحقة ، وبنفس القصد ذاته ، حيث تم استحضارها تحت أسماء متنوعة في الصلاة ضد عين الشر المتصفة بالغيرة والحسد .
بالتالي يمكن أن نعتبر أنه كما كانت وظيفة يدها الحامية التي تستخدم حتى اليوم بإسم " خمسة " أو " يد مريم " أو " يد فاطمة" كانت عينها .
والمثير أيضاً في شمال افريقيا كانت لربات الخصب ذات الوظيفة المرتبط بثقافة الألهة الأم والحماية على سبيل المثال تأنيت القرطاجية الممثول المكافئ لعشتروت أو الألهة المصرية العذراء الام نيت Neith .
على الرغم من أن الأصناف المرمرية لـتل براك تبدو واحدة من أقدم تمائم العين التي تم اكتشافها ، إلا أنها بعيدة عن التصميم الذي نعرفه اليوم والذي وجدت أقدم أشكاله في مصر القديمة حيث تم العثور خلال التنقيبات الاثرية على العديد من قلائد عين حورس الزرقاء العين الحارسة الحامية في الحقيقة اللون الأزرق هو أحد الألوان الخاصة بالطاقة الإيجابية كما اعتقد السومريون القدماء أن العيون الزرقاء كانت علامة على الآلهة كان النبلاء السومريون ذو عيون زرقاء كما تظهر معظم تماثيل السومرين .
لكن صناعة الزجاج الذي بدأ في مرحلة مبكرة مع الفينيقين في عام 1500 قبل الميلاد فقد تم انتاج الزجاج الأزرق بالإستفادة من الطين المزجج المصري ، والذي يحتوي على نسبة عالية من الأكاسيد مثل اوكسيد النحاس وواكسيد الكوبالت يعطي اللون الأزرق عندما يخبز .
وهذا الزجاجي تم استخدامه من قبل الفينيقين لتصنيع أقدم أشكال العين الزرقاء الزجاجية المعروفة لنا اليوم بخرزة العين الزرقاء" او تختصر أحيانا ب " الخرزة الزرقاء " أو " العين الزرقاء " وتسمى ايضاً " نَظَر nazar " والتس يمكن تعريفها بأنها عبارة عن تميمة شرقية تمثل عين مصنوعة في الغالب من الزجاج اليدوي الصنع الملون وهذه الألوان تكون دوائر متباينة اللون تتراوح بين الازرق الغامق والأزرق الفاتح والأبيض ومركزها لون غامق جداً اما يكون الكحلي او الأسود وتوضع احياناً ضمن عيون ذهبية لتكون العين الحارسة عين حورس/ رع التي على ما يبدوا استعار فكرتها الفينيقيون وطوروها بصناعتهم الزجاجية من المصريين و انتشرت معهم تلك التميمة خلال ورحلاتهم التجارية في أراضي الأناضول القديمة وبحر إيجة ، جنوبًا عبر بلاد الشام ، إلى شمال إفريقيا بدأت حبات العين الزرقاء تجد طريقها إلى جميع أنحاء العالم . تعرف اليوم في العالم بالأسم نازار nazar" وهو الأسم الذي تعرف به في التركية وحتى الهندية والفارسية وفي لغة اردو حتى على مستوى اوروبة وبقية انحاء العالم اصبحت تعرف بهذا الإسم والأسم نَظَر nazar انتقل لتلك اللغات من العربية من كلمة " نظر " والذي يعني البصر و المراقبة والإهتمام .
تعد تركيا اليوم من أشهر الدول التي تصنع هذه التميمة ويستخدم اﻷتراك بشكل خاص، الخرزة الزرقاء، في كل تفاصيل حياتهم، حيث يعتقد اﻷتراك حتى يومنا هذا، أنها ترد العين والحسد والنحس، ويتفنون في صناعتها، شكﻼ ولونًا، ويهتم بها كافة فئات المجتمع .
و في العام 2014 ، تمكنت تركيا من إدراج بعض من القيم الثقافية والتراثية إلى قائمة اليونسكو، فتمت اضافة " الخرزة الزرقاء أو نظر "كهوية ثقافية تراثية لها.
في النهاية :
لا تزال عيون الحماية او الخرزة الزرقاء لها تأثير قوي في الحياة الحديثة ، والثقافة الشعبية ، وحتى المجوهرات وفروع التصميم المختلفة .
كما انها ما ماتزال حتى اليوم في تقاليدنا بشكل أو بأخر بذات المعنى وذات الايمان وذات الاسلوب بالتعاطي مع هذه التميمة فمازال البعض يرسمون العين الزرقاء على جوانب طائراتهم بالطريقة نفسها التي رسم بها المصريون العين الحامية ( حورس /رع ) على سفنهم لضمان المرور الآمن، لا يزال تقليدا شراء الخرزة الزرقاء لحماية الحامل و المولود الجديد من العين الشريرة قائماً كعين للربة الخصب لترعى الأم وطفلها .