الديانة الفلكية البابلية - ثيولوجي
أمجد سيجري
الحوار المتمدن
-
العدد: 6199 - 2019 / 4 / 12 - 22:49
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
- إعتاد الإنسان منذ القدم على مراقبة السماء ومتابعة النجوم والكواكب التي شكلت بالنسبه له لغزاً محيراً إرتبط معه بشكل أو بأخر من خلال إشارات ودلالات تتعلق ببنيته الفسيولوجية حين وجد نفسه الوحيد المنتصبَ بين بقية الكائنات الحية عيونه ترتفع بفخرٍ نحو السماء و النجوم بينما بقية الكائنات الحية رووسها منخفضة نحو الارض فتشكل لديه قناعات بأنَّ جسده يحتويه إعجوبةً ما تشكل إنعكاساً للسماء الواضحة شكلاً ..... و الغامضة ضمناً والتي اعتبرها مع تطور مفاهيمه في تفسير المجهول بوابةً للروح والتي ستأخذه يوماً ما إلى الأبدية و اللانهاية، نجد هذا الكلام جلياً في تعريف الفيلسوف والمؤرخ السوري اليوناني بوسيدونيوس Posidonius للإنسان حيث عرّف الإنسان بأنه : "المراقب والشارح للسماء " .
- تعتبر المراقبة و الملاحظة من أقدم أدواتِ البحث التي استخدمها الانسان في مراقبة الظواهر وتقصي الحقائق فهي لا تحتاج أدوات سوى عينيه في مراقبة وبحث الظواهر المختلفة على الأرض و السماء ومن خلال مراقبة السماء موضوعنا اليوم ولِدَ علم الفلك القديم نتيجةً لما أثارته السماء من دهشة لدى القدماء الذين رصدوا بعيونهم المجردة هذه السماء الفسيحة المترامية فحددوا حركة اجرامها و مواضع نجومها والتي كانت بالنسبه له ثابتةً ظاهرياً فمثلت الخلود الكوني فأعتبر السماء هي مكاناً و طريقاً لهذا الخلود الكوني وكانت معها العيون التي ترصد كل هذا بوابة من بوابات الابدية فهي الوسيط بين النجوم التي مثلت الألهة و العقل الإنساني .
- من خلال الملاحظة وجد الإنسان أن الشمس تسير بمسار ثابت في السماء خلال السنة ترتبط بدورة الفصول كما لاحظ مراحل القمر وتغيراته وحركته في الشهر كما لاحظ النجوم الثابتة " ظاهرياً " وحركة الكواكب التي بدت كانها تتجول بين هذه النجوم تحكمها قوانين ثابتة وفقاً لفترات زمنية ثابتة حيث إعتبر السماء مطلقاً مثالياً لا يوجد فيه أخطاء فكل شيء مبني على تصميم ذكي من صفاته الثبات والكمال مستبعداً فكرة أن تكون الصدفة والقوة العمياء هي علّة هذا الوجود فادرك أن من خلق الكون هو ذكاء الهي يحكمه من خلال نسب ثابته تشرف عليها عناية إلهية.
إذاً كان ثبات النجوم في القبة السماوية مثالاً لتجسيد الأبدية والتي أخذت فيما بعد شكلاً من أشكال الألوهية وخصوصاً عند البابلين حيث كانوا يتابعون النجوم الثابتة " نظرياً " والأجرام المتحركة والتي تتخذ مسارات ثابتة ما أن تنهي مسارها لتبدأ من جديد ذات المسار بدورات لا متناهية وهكذا تصور رجال الدين من علماء الفلك أن هذه الأجرام هي آلهة السماء وهم " أسياد الأبدية " كما في سوريا فقد حمل البعل الذي أصبح آلهة شمسية ، لقب مار-عولم الذي يمكن ترجمته "سيد الكون" وكذلك "سيد الأبدية".
ونتيجة لهذه الإرتباط الفلكي للألهة كانت الألهة تعاني من دورات منتظمة تغرق فيها وتموت لتحيا من جديد في دورات لا متناهية كالتي نراها في الدورات الزراعية التي تمثلها دورات أشهَر الاجرام السماوية " الشمس " حيث يعاني ممثل هذا الجرم من دورات الموت والقيامة بعد ميلاد في أغلب الاحيان يكون ميلاداً عذرياً .
إخترقت العبادة النجمية للبابلين و الافكار اللاهوتية النجمية الوثنية الرومانية عن طريق سوريا فأخذت الالهة الرومانية صفات الألهة السورية ومماثلاتها الفلكية فلا نجد إلهاً رومانياً يمثل التضحية والتفاني من أجل البشرية وأحياناً الموت و القيامة الزراعية إلا ونجد أنه من أصل سوري كأدونيس و أتيس وإيلجبليوس " سول انڤيكتوس " وكلهم يعدون ممثلين ذكوريون للطاقة الشمسية الضرورية للمجتمع الزراعي لنمو النباتات حيث تتصارع الشمس الممثلة للنور والخير بشكل مستمر مع قوى الشر والظلام فتنتصر الشمس في فصل الشتاء والانقلاب الشتوي فتولد وتعلن قيامتها بالإعتدال الربيع بعد أول قمر من يوم الإعتدال لتعود وتعاني سكرات الموت في الإنقلاب الصيفي لتموت يعلن موتها في يوم الإعتدال الخريفي.
إذاً شكلت الطاقة الشمسية القوة الدافعة التي تحرك كل الكائنات الحية الكونية فكانت عبادة الشمس هي نتيجة منطقية للوثنية الغارقة في المعرفة والتي أصبحت شكلاً دينياً في علم الكونيات فقبل أن يذهب الدين إلى أبعد من ذلك ليعلن أن الله يجب أن يوضع في المطلق والمثل الأعلى أي خارج العالم المادي كانت الشمس في مرتبة الإله الأعلى لكن اخراج الله من العالم المادي لم يمنع بعض الاديان كالمسيحية من استخدام فكرة الاقانيم المصرية التي سمحت لجوهر الإله من التواجد في الجسد المادي المتمثل في جسد المسيح بالتالي كان هذا الأقنوم أحد الأشكال المادية التي يتخذها الإله الأعلى للتواصل مع البشر في الأرض .
سبقت عبادة الشمس والقمر وهي الاجرام السماوية البارزة العظيمة التي تزود الارض بالضوء عبادة الكواكب الخمسة الأخرى فكانت المركزية في البداية لهذه الكواكب فمردوخ مثلاً بدأ كإله ثانوي مرتبط بإله الشمس اوتو لكنه غدا إلهاً رئيسياً بعد إنقلاله على الألهة الأم تعامة وارتبط بكوكب المشتري.
عموماً الكواكب القديمة الخمسة تحدد مع الشمس والقمر السماوات السبع ومع اكتشاف القدماء أهمية الضوء في النظام الكوني وأهمته للحياة أزدادت أهمية المصادر الضوئية المتمثلة بالشمس والقمر وارتفعت مكانة الوهيتهما كانت العبادة القمرية هي العبادة السائدة فكما نعلم كان ضوء القمر هو الضوء الذي ينير مسير القوافل ليلاً بشكل عام وفي الصحراء بشكل خاص لذلك نجده حتى اليوم مرتبطاً بالمجتمعات الرعوية التي كانت تربط بين إلهها الأعظم والقمر و قد كانت الاطوار المرئية المختلفة التي يمر بها القمر تستخدم في قياس الوقت حيث تم تحديد هذه الاطوار فيما بعد بالشهر وذلك قبل أن تعرف مدة السنة كما أن اغلب التقويمات المقدسة تنظم الاحتفالات الدينية والحياة المدنية وفقًا لمسار القمر حتى اليوم وهذا ما نجده في الدين الإسلامي المرتبط بالقمر في رمزه " الهلال" وإرتباطه بالتقويم القمري ومشاهدات القمر في تحديد مناسباته وأعياده وهذا طبيعي لنشوء الدين في المناطق الرعوية المرتبطة في حياتها بالقمر.
وفي الخسوف عندما يغيب وجه القمر في غير زمانه يغلب الخوف على البشر من غياب هذه الألوهية القوية المنيرة ومن خلال تأثيرها النفسي على البشر المرتبط بها ارتباطاً كبيراً قام الإنسان بإرجاع العديد من الخرافات والكوارث والتأثيرات الغامضة وربطها بهذا الحدث المميز بالتالي كانت ولادة التنجيم.
- لكن مع الإنتقال جزئياً من الحالة الرعوية إلى الحالة الزراعية بدأ الإنسان بالتعرف على الدور الرئيسي الذي تلعبه الشمس في العملية الزراعية وجعل منها إلهاً مولداً للطاقة الشمسية الذكورية و بدأ الإنسان برفع مكانة الشمس بالنسبة للقمر تدريجياً مع تطور علم الفلك أدرك الإنسان كيفية و ماهية الظواهر الفيزيائية التي تنشأ من علاقة الشمس بالأرض والقمر فقام بتوجيه الضربة الأخيرة للعبادة القمرية حين إكتشف الإنسان أن القمر ما هو إلا مرآة تعكس ضوء الشمس لا أكثر.
إذا يمكننا وصف العبادة الشمسية بأنها عبادة متعلمة مكتسبة نتيجة تنامي الوعي البشري وتوسع مداركه و خبرته وعلومه وفقًا للنظام الكلداني كانت الشمس تحتل المرتبة الرابعة في سلسلة الكواكب ثلاثة فوقها وهم (المريخ ،المشتري ، وزحل ) وثلاثة تحتها وهم (فينوس ، عطارد ، والقمر) بمعنى آخر تتحرك الشمس في خضم الأجواء السماوية وتحتل موقعاً مركزياً بين الدوائر السبعة للكون حسب التقسيم الكلداني يمكن القول أن العلوم الفلكية البابلية القديمة لاتزال مستخدمة حتى اليوم كتقسيمات الزمن التي تستخدم النظام الستيني والتي أسموها الكلدان الأرقام الإلهية لانهم إكتشفوها للبشرية من خلال مراقبة حركات الأجرام السماوية بالتالي تم ربط الفلك بالرياضيات وتم اعتبار بعض الأرقام لأسباب فلكية لها فعاليات و قدرات سحرية خاصة ومقدسة كالرقم سبعة وهو في الحقيقة ليس إلا الممثل العددي للكواكب السبعة حسب الاعتقاد القديم و وإثني عشر الذي يمثل الأشهر 12 التي تحددها ايضاً علامات البروج ال12 التي تعبرها الشمس ظاهرياً والنهار الليل اللذان يحددان اليوم 12 ساعة لكل منهما وثلاثمائة وستون لانها تقارب السنة الشمسية كذلك الفصول التي ترتبط بالإتجاهات الأربعة فتم تجسيدها وتأليهها جميعاً باعتبارها الأعداد الحاكمة والثابتة التي تسير هذا الكون فربطوها بتعاويز سحرية وحكايات شعبية حول فعاليات طبية في حال تكرار فعل ما لعدد من المرات وما تزال هذه الخرافات ليومنا حيث يطالب المشعوذين ترديد التعويذة لعدد من المرات يتوافق معظمه مع هذه الاعداد الفلكية.
-كما أصبحت لهذه الأعداد والمناسبات الفلكية شخصيات مجازية تم خلقها من خلال الطقوس الفلكية لتمثيل هذه التجريدات شائعة الاستخدام.
في ظل الإمبراطورية الرومانية و لم تنقرض هذه الرمزية الوثنية الفلكية بل تم تبنيها من قبل الديانة الوثنية الرومانية التي كانت تعتبر إمتداداً للديانة اليونانية القديمة والمستمدة من الديانة السورية بل تم إدخالها إلى الديانة المسيحية وحتى عصر القرون الوسطى كانت هذه الرموز للآلهة الساقطة مستنسخة بشكل لا نهائي في النحت الفسيفساء والمنمنمات فكثيراً ما نجد المسيح ضمن الصليب الشمسي الذي يقسم المستوي لأربعة أرباع تمثل الفصول الأربعة و التلاميذ 12 حول الصليب في كل ربع ثلاثة تلاميذ ممثلين أشهر السنة أو الأبراج 12 وما الصليب إلا تمثيل للنزوع الأرضي نحو السماء بتقاطع المحور الأفقي المادي بالمحور العامودي للامادي الذي يحدده ويوصل الإنسان إلى دائرة الخلود والأبدية الممثلة بالدائرة الفلكية التي تحدد حركة الشمس الظاهرية الممثلة للروح وخلاص الروح البشرية.
- إذاً ما تم ذكره يبرز الأهمية التي يوليها أتباع العبادة النجمية لفكرة الخلود الإلهي وهي أهمية تظهرها حقيقة أن البعض قد جعلها بالفعل المبدأ الأسمى لدينهم ولكن كانت هناك سمة إلهية أخرى مرتبطة بالأولى تبين النجوم ليست فقط آلهة أبدية ولكن أيضاً عالمية قوتهم غير محدودة في الفضاء فوجودهم خاضع للعدل فهم ذاتهم موجودون على مساحة الأرض بالتالي كانوا رموزاً عالمية لكل البشر في ذات الوقت بالتالي يمكن أن نصف هذه العبادة التي إنتقلت من سوريا إلى العالم اللاتيني بأنها عالمية تعطي القدرة الكلية لألهتها وتنادي بمفهوم سيادة الله المطلقة وغير المحدودة على الأرض وأخيراً نستشهد بوصف الأديب الروماني النوميدي أبوليوس من مادورا " أفولاي " للألهة السورية حين يقول " هم لكل القوميات و القوميين و كلهم أقوياء وكلهم منتجين " .
هوامش :
- ثيولوجي Theology إلهيات.