الهارموني الكوني
أمجد سيجري
الحوار المتمدن
-
العدد: 6067 - 2018 / 11 / 28 - 23:32
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
الهارموني HARMONY هو مصطلح فلسفي يعني التناغم والتآلف و الإنسجام بين المكونات المختلفة .
إشترط الفلاسفة وجود الهارموني كمتطلب أساسي لمزج المكونات المتشابهة أو المتباينة أو كلاهما معاً للحصول على الجمال.
فيمكن تعريف المركب الجميل هو كل مركب تكون أجزاءه في مزيج متآلف متناغم.
فيكون كل مكون جميل يقتضي وجود صانع مبدع يتصف بالجمال كونه أبدع في خلق الإنسجام في مكونات هذا المكون الجميل على مبدأ المثل الشهير " كل إناءٍ ينضح بما فيه " لكن هذا الإبداع نراه بنسب متفاوتة وعلى درجات مختلفة وهذا لانه كل ما إبتعدت عن المركز والمنشأ شابته مكونات أخرى أضعفت التناغم المطلق الموجود في المركز فكانت نسب الهارموني بين المكونات المختلفة هي من تحدد نسب الإبداع والجمالية في هذا فإذا وجد التناغم حافظت هذه المكونات على جماليتها وإن فقدنا هذا التناغم كانت الفوضى التي تُفني كل ماهو جميل لذلك نجد أن هذا الكون هو خليط بين التصميم الذكي والفوضى.
إذا هذا الكون يتكون من درجات متتالية من الخير وهذه التدرجات تبدأ من أدنى درجات الخير وهي المادة إلى أعلى درجات الخير وهي الروح والتي تعتبر ممثلاً للموناد الإله الأوحد فينا و الذي يعتبر مثالاً عن التناغم المطلق بالتالي هو الخير والجمال المطلق .
بالتالي إننا نجد ان الإنسان بالفطرة يحاول إتباع أعلى درجات الخير المتمثلة بالروح وهي المكون الإلهي المطلق لكن هذا الإتباع يتم بدرجات متفاوتة نتيجة تلوث هذه الفطرة الخيرة بالنقيض وهو الشر المكون الأقل إنسجاماً و الذي يُخلق من ادنى درجات المادة المحدودة ضمن العالم المادي النسبي .
على سبيل المثال يعتبر الفيلسوف الإسماعيلي ابن سينا أن النفس قد هبطت إلى العالم وسكنت الجسد لذلك ينبغي علينا أن نخلع عن هذه الأنفس سلطة البدن كي تصعد إلى العالم الأعلى وتعرج إلى المكان الأرفع حيث يعتبر الجسد هو شر لأنه مادي كثيف والنفس خير لأنها خفيف لطيف فينبغي تجريد وتحرير الإنسان من الشهوات الدونية لتحرير النفس من الأسر الذي وضعت فيه.
فلسفة الموسيقى :
من المحتمل جداً أن نقول أن الفلاسفة اليونانين قد إكتسبوا معرفتهم بالجوانب الفلسفية والعلاجية للموسيقى من تعاملهم مع حضارات سوريا والعراق ومصر على سبيل المثال نحن نعرف جيداً حكاية الرحلة التي قام بها فيثاغورث بين العراق وسوريا ومصر ونقل خلالها السلالم الموسيقي البابلية الشهيرة بالإضافة إلى التعاليم الكثيرة التي بنى عليها مدرسته الفلسفية وكما نعلم أن الموسيقا في سوريا وبلاد الرافدين كانت تدون وتعزف منذ أكثر من 4000 سنة وجميعنا نتذكر أقدم عمل موسيقي بالعالم وهو ترنيمة لنيكال والتي سبق أن تحدثت عنها في مقال سابق ووجدناها مزيلة بالتدوين الموسيقي البابلي للنوتة الموسيقية.
بالإضافة لما نقله من حكمة هيرمس " تحوت " الذي يعتبر حسب التقاليد المصرية مؤسس هذا الفن " الموسيقى " وفقا لأحد الأساطير قام هيرمس هذا الإله الحكيم ببناء أول قيثارة بتمديد الأوتار عبر تقعر لقشرة السلحفاة.
كما أرجع أفلاطون هذه الفنون إلى المصريين وبين أن الأغاني والأشعار كانت موجودة في مصر على حد قوله منذ ما لا يقل عن عشرة آلاف سنة وإعتبر أن هذه الإبداعات المذهلة والملهمة التي لا يمكن إلا أن تكون إلا من تأليف الألهة أو أشباه الألهة.
كان فيثاغورث يحذر تلاميذه من تشويه أذانهم بأصوات المزامير والصنج حيث إعتبر أن الروح يمكن تنقيتها من خلال الأناشيد المهيبة المصاحبة للقيثارة حصراً .
ومكن أن نلاحظ هذه الفكرة من خلال إستخدام الطبول كموسيقا مرافقة للدماء والعنف في المعارك والحروب كونها تحفز إفراز الإدريانين الذي يعطي الجسم قوة رهيبة وذلك إستجابة ﻹشارة الإنفعال الناتج عن مصادر التهديد المختلفة فيكون الإنسان بأعلى درجات الإستعداد للكر والفر .
لكن لماذا هذا التقديس للقيثارة التي تعتبر حتى اليوم مسجلة بإسم السومرين ؟
في الأسرار كان يُنظر إلى القيثارة كرمز سري يمثل الوجود البشري فجسم القيثارة هي التي تمثل الشكل البشري المادي والأوتار هي الجهاز العصبي " الأعصاب " والموسيقا هي الروح.
وبالتالي إن تحرير الروح كان يتم من خلال الانسجام بين الجسم المادي والمحيط عبر ما تزوده الحواس الخمسة وتنقله الأعصاب فإذا كان الإنسجام بين الإنسان والوسط المحيط في أرقى أشكاله تجرد الإنسان من الشهوات والرذائل المادية فهنا يرتقي الإنسان في درجات الإنسجام ويقترب من الإنسجام الروحي المطلق ويسامى الإنسان عن المادة بالتالي يحرر روحه من سلطة الجسد يكون على إستعداد لتلقي النور الإلهي من الموناد مباشرة و يولد حينها الخير والجمال.
كانت الموسيقى مرافقة لجميع الإحتفالات الدينية القديمة في مصر و سوريا والعراق كما نجد في الأسرار القديمة وخصوصاً في المدرسة الغنوصية السورية المصرية قد إستخدموا الموسيقى في احتفالاتهم الدينية ونجد هذا التقليد مازال مستمراً حتى اليوم لدى ورثة هذه المدرسة اي الطرق الصوفية وجلسات الذكر والحب الإلهي الخاصة بهم و التي تترافق مع الموسيقى الصوفية التي تخلق حالة من النشوة والإرتقاء الروحي وتحرر هذه الروح من الجسد وكل ماذكرته سابقاً يمكن إختصاره في رمزية رقصة الدراويش والتي تعتبر رمزية للكوسمولوجي الكوني المادي وفكرة خلق "Macrocosm " الكون الأكبر من الدائرة التي تدور حول قطرها وتكون الكرة هذا المجسم المثالي الذي يعبر عن الكون والتي تشكل معها العناصر الأربعة والإتجاهات الأربعة كما تمثل حركة الكواكب حول الشمس و حركة الارض حول الشمس الممثل القديم للروح وتشكل الفصول الاربعة و منها تتشكل الحياة.
كما تعتبر رمزية لتحرر "Microcosm" الكون الاصغر من المادة عن طريق الحركة الدورانية أيضاً و مناجاة الخالق حيث يتم رفع اليد اليمنى بإتجاه الأعلى ليلتقط بها النور الإلهي ويخفض اليد اليسرى في حركة تمثل الإستعفاف عن المكونات المادية الدونية المحركة للغرائز والشهوات بالتالي تتم عملية تنزيه النفس عن الشهوانية تمهيداً للولادة حسب المفهوم الغنوصي المتمثل بالموت وتحرير النفس من الجسد المادي للعودة للمنشأ الاول الذي إنبثقت عنه والإرتقاء نحو الأعلى بالحركة الدورانية والتي تعتبر ممثلا للروح كما أسلفت لذلك يمكن إعتبار لباس الدرويش بمجمله دلالة على الولادة الغنوصية المتمثلة بالموت فالأبيض أكثر الألبسة إستخداماً يدل على الكفن والطربوش البني الطويل في دلالة على شاهدة القبر والحركة الدورانية هي صعود الروح الى باريها.