أعطني فلوس أشتري لك العالم
محمود يوسف بكير
الحوار المتمدن
-
العدد: 6905 - 2021 / 5 / 21 - 01:25
المحور:
الادارة و الاقتصاد
هكذا صاح محجوب عبد الدايم بطل رواية القاهرة 30 للعملاق نجيب محفوظ الذي أذله الفقر وجعله يدوس على كل القيم من أجل الفلوس وعندما حصل عليها لم تجلب له إلا الفضيحة والعار. الفلوس بالفعل مهمة، ولكن لا ينبغي أن ننسى أنها مجرد وسيط في كل شيء وليست هدفا نهائيا، وعلى سبيل المثال فإن المريض قد يحتاج إلى مبلغ كبير لإجراء عملية جراحية دقيقة ومكلفة ولكن مجرد إيجاد المال اللازم لها ليس ضمانا لنجاح العملية لأنها قد تنتهي بالفشل أو بمشكلة أكبر. وهذا يحدث أيضا في الاقتصاد بمعنى أن النقود ليست حلا لكل المشاكل كما سوف نوضح في هذه الإطلالة السريعة على بعض التطورات الاقتصادية العالمية.
في شبابي كان عيد العمال مناسبة سعيدة يتم فيها تكريم العمال وأصحاب المعاشات منهم ومنحهم بعض المكافآت المالية والجوائز، أما اليوم فإن شيئا من هذا لم يعد يحدث في كل دول العالم تقريبا وأصبح عيد العمال مناسبة لرفع بعض الشعارات والخطب العصماء كما لاحظت من بحثي على الإنترنت. ولكن ما وجدته في جنوب إفريقيا بلد نيلسون منديلا كان مثيرا للسخرية والحزن حيث اختار رئيسها الحالي سيريل رامافوسا هذه المناسبه بالذات كي يلغي منحة إعانة كانت تصرف شهريا لحوالي أربعة ملايين شخص من أفقر سكان البلاد منذ بداية إغلاق جنوب إفريقيا بسبب الكورونا في منتصف العام الماضي وهو تصرف يخلو من اللياقة والكياسة. وكان مبرر للحكومة في هذا هو نقص الموارد المالية لديها وهذه كذبة كبيرة كما سوف نوضح حالا. والمدهش أن الحكومة تعاملت مع الأمر بدون أدنى إحساس بالمسؤولية لأنها لم تعط هؤلاء الملايين من الفقراء أي نصيحة بما يتعين عليهم فعله بعد وقف منحة الخمسة وعشرين دولار فقط التي كانوا يتقاضونها شهريا. وعندما فكرت في الموضوع وجدت انه لم يعد أمام هؤلاء سوى خيار من ثلاثة فإما أن يحترفوا التسول أو السرقة أو الموت جوعا علما بأن جنوب افريقيا هي أغنى دولة في أفريقيا، ولكنها مبتلاه بالفساد وسوء الإدارة.
وجنوب أفريقيا عينة من أمثلة عديدة تثبت أن الرأسمالية الحالية أخذت منعطفا خطيرا في معظم بلاد العالم خلال أزمة الجائحة وأنها أصبحت مظلة للقادرين فقط وأنها لم تعد تأبه كثيرا بأحوال الفقراء. أما بالنسبة لإدعاء الحكومات بأنها لا تمتلك الأموال الكافية لدعم الملايين ممن أفقرتهم بسياساتها فإن هذه كذبة سخيفة لانه يمكنني القول من واقع خبرتي النظرية والعملية بأنه لا توجد حكومة لديها مشكلة في تدبير الاموال إذا ما أرادت خاصة الحكومات الاستبدادية في منطقتنا العربية التي تنفق ببزخ على اجهزتها الامنية والمؤيدين لها و مشاريعها الترفيهية و المنافسة المحتدمة بينها في ضرب الأرقام القياسية في طول الأبراج والمساجد الفخمة والقصور واستيراد الأسلحة التي لا تستخدم إلا في ضرب المعارضين، هذا بالإضافة إلى وجود الآلاف من الأغنياء حولها والذين يسيطرون على كل منابع الثروة. والأهم من كل هذا أن هذه الحكومات تسيطر على البنوك المركزية و وزارات المالية وهي التي تصمم وتطبق السياسات النقدية والمالية الملائمة لأهدافها. ولذلك فإنه بإمكانها خلق ما تشاء من النقود بطرق فنية عديدة يعرفها الاقتصاديون ومن أهمها سياسات التمويل بالعجز وزيادة الضرائب المباشرة وغير المباشرة…إلخ. أما في الغرب فإن الحكومات تركز هذه الأيام على دعم ما نسميه باقتصاديات جانب العرض وهي سياسات تفيد الأغنياء بالأساس، وقد تجلي هذا بشكل واضح في ارتفاع مؤشرات أسواق الأسهم والمشتقات المالية وصناديق الاستثمار والتحوط والمعادن النفيسة …الخ وهذه الأسواق لا يلعب في ساحاتها سوى الأغنياء، والفقراء لا يعرفون ولا يفهمون ما يجري فيها. وعموما فإن ما يحدث في الغرب للفقراء لا ينبغي أن يشغلنا كثيرا لأنهم هنا يحصلون على كل انواع الدعم المالي والاجتماعي والخدمات الصحية والتعليم الجيد وكرامتهم وحرياتهم محصنة دستوريا. وبدلا من هذا ينبغي أن نكتب عن الغرب في الأمور والخبرات التي يمكن أن نستفيد فيها منهم باعتبار أنهم أفضل منا في منظومات الادارة والتعليم والصحة والعلوم التطبيقية الجديدة وسياسات المجتمعات الحديثة خاصة فيما يتعلق بحقوق الإنسان والفكر والثقافة والفنون، وينبغي أن نكتب عن الغرب أيضا عندما يطبق سياسات اقتصادية معينة يكون لها انعكاسات مباشرة على اقتصادياتنا وحياتنا كما سوف نوضح.
أما عن السبب في انحياز الحكومات الواضح للأغنياء، فانه التحالف الجهنمي القديم بين السلطة والمال والدين والإعلام وهو تحالف يعمل بشكل جيد منذ ايام الفراعنة والحضارة الإسلامية، و صحيح أنه لم يكن هناك إعلام وقتها ولكن كان هناك شعراء خطباء مفوهين وبارعين في المدح والذم والتملق. وعلى ما يبدو فإن هذه المنظومة لن تفارقنا حتى نهاية الزمان.
ومرة أخرى فأن ما يحدث في الغرب ولدينا خاصة في العقدين الماضيين يكشف الوجه القبيح للرأسمالية الحالية خاصة فيما يتعلق بفجوة الدخل والثروة المتزايدة بين الأغنياء والفقراء والتي كتبنا عنها من قبل وبينا كيف أنها تمتددت لتشمل كل أوجه الحياة مثل التعليم والرعاية الصحية والإسكان والعمران وكافة الخدمات. ولا يمكن لأي إنسان عنده ضمير أن يتغاضى عن كل هذا وهو ما دعا الكثير من المسؤولين والقادة في المجتمع المدني والأكاديمي والسياسي إلى الدعوة لإصلاح جشع الرأسمالية وعلى ما يبدو فإن الرئيس الأمريكي الجديد بايدن يسعى بهمة هذه الايام لإلغاء الكثير من سياسات وتشريعات سلفه ترامب وإضفاء لمسات إنسانية إصلاحية على رأسمالية بلاده وسط انتقادات حادة لإدارته من جانب الجمهوريين والإعلام الأمريكي اليميني المتطرف وعلى راسه شبكة فوكس نيوز التي يمتلكها الملياردير اليهودي روبرت ميردوخ
ومن الإصلاحات التي قدم لها خلال الأشهر القليلة التي مضت على بداية حكمه:
١إعادته أمريكا إلى اتفاقيات الحد من الانبعاثات الحرارية من أجل المحافظة على التوازن البيئي لكوكب الأرض،
٢مطالبته بتطبيق ضريبة موحدة على الشركات على مستوى العالم وهو موضوع حيوي ويشغلنا كثيرا كاقتصاديين لأن من شأنه الحد من عمليات التحويلات المالية بهدف التهرب الضريبي والتضييق على ما يسمى بالملاذات الآمنة عبر العالم وهي أحد الأساليب الملتوية لنهب ثروات الدول الفقيرة،
٣عودة أمريكا إلى عضوية منظمة الصحة العالمية و سداد حصتها من جديد ودعمها لمنظومة الكوفاكس التي تتبناها المنظمة لتزويد الدول الفقيرة باللقاحات المضادة للكورونا لحماية مواطنيها من الأعراض القاتلة لهذا المرض.
٤دعوته للشركات الأمريكية المنتجة للقاحات للتنازل عن حقوق ملكياتها الفكرية طوال فترة الأزمة لتمكين الدول الفقيرة من إنتاج اللقاحات داخل اراضيها للإسراع بحماية مواطنيها تمهيدا لعودة الحياة طبيعية في هذه الدول التي تعاني الآن بشدة. ولكن الشركات الأمريكية ومعها الاتحاد الأوروبي للأسف يرفضون هذا الاقتراح الإنساني.
٥وعلى المستوى الاقتصادي وهو الجانب الأخطر وربما الأهم للعالم في هذه المرحلة التي ترى فيها كل الدول تقريبا أن نظرية محجوب عبد الدايم مع تحوير بسيط “أعطني فلوس أحل لك مشاكل العالم " هي المخرج الوحيد من الأزمة الاقتصادية الحالية ومن ثم فإن مطابع البنوك المركزية تعمل بلا كلل هذه الأيام. مما جعل الوضع المالي العالمي معقد للغاية، وعلى سبيل المثال فإن مجموع ما قامت به إدارة بايدن في الأشهر القليلة الماضية من محفزات مالية باشكال مختلفة للاقتصاد الأمريكي بلغت ثلاثة تريليون دولار وهو مبلغ ضخم جدا وغير مسبوق حيث تصل نسبته إلى حوالي 15 ٪ من قيمة الناتج المحلي الإجمالي لأمريكا.
وهناك خطة إضافية يتبناها الاحتياطي الفيدرالي مع الخزانة العامة لضخ 2 تريليون دولار أخرى في النظام المصرفي الأمريكي خلال العام الجاري. كما أن أسعار الفائدة ستظل قريبة من الصفر. وأود هنا أن أذكر أنه إثناء الأزمة المالية العالمية في عامي ٢٠٠٧و٢٠٠٨ كانت الإدارة الأمريكية أكثر حذرا في سياساتها التوسعية، ولكن إدارة بايدن على ما يبدو "مستبيعة" كما نقول في مصر لأن هذه السيولة الضخمة ستؤدي حتما إلى نوع من التضخم والخوف أن يتحول إلى أسوأ أنواعه وهو التضخم الجامح. ومن خلال متابعتي للإحصاءات المنتظمة التي تصدر في أمريكا فإن مؤشر ال CPI زاد من 2.6% إلى 4.2% في أبريل الماضي مقارنة بالعام المنصرم وقبلها في فبراير زادت أسعار مبيعات التجزئة بنسبة 7.4% مقارنة بالعام الماضي والسبب أن معظم المواطنين الأمريكان تلقوا في إطار برامج التحفيز شيكات بمبلغ 600 دولار لكل فرد وهو ما أدي إلى زيادة الطلب وارتفاع الأسعار. ولكنهم في ذات الوقت لم ينفقوا هذه المبالغ بالكامل بسبب القيود على الحركة والغلق الجزئي للمطاعم والبارات والسينمات.. إلخ ومن ثم فإن هناك مدخرات ضخمة لدى الأفراد تقدر بمئات الملايين من الدولارات ولا أحد يعرف المبلغ بدقة وبالنتيجة لم تحقق المحفزات المالية الأثر المرجو منها بالكامل بعد ولذلك يتم تقديم المزيد من المحفزات كما أسلفنا لتحقيق المزيد من النمو والتشغيل وزيادة التضخم ولكن هذا سيحدث بالتأكيد كما نرى مع زيادة عمليات تلقيح الناس وشعورهم بالأمان وحرية الحركة.
وما يعنينا هنا أنه خطط بايدن التوسعية سوف تغير نمط الاقتصاد العالمي بشكل كبير باعتبار أن جزءا كبيرا من هذه السيولة سيوجه للاستيراد من الخارج وهذا خاصل بالفعل الان حيث وزاد العجز في الميزان التجاري الأمريكي مع العالم ككل بنسبة 50% تقريبا مما كان عليه في عام 2019. والحقيقة الأخرى هنا ان باقي المناطق الاقتصادية الكبرى في العالم مثل منطقة اليورو والصين واليابان لا يجارون أمريكا في هذه السياسات التوسعية الضخمة حيث تتبع الصين سياسة نقدية ضيقة للغاية أدت إلى هبوط سوق الاسهم بها بمعدل 8% تقريبا منذ فبراير الماضي وهو ما يعني انه من المرجح أن ينمو الاقتصاد الأمريكي ولأول مرة بمعدلات أكبر من الصين خلال العام الجاري. ولكن هناك مخاوف حقيقية مرتبطة بهذا ومن أهمها أن يتحول هذا النمو إلى نموتضخمي خاصة إذا ما بدأ الافراد في أمريكا في إنفاق ما لديهم من مدخرات كبيرة كما أشرنا أعلاه وهذا يمثل خطرا على أمريكا والعالم كله. والحقيقة انه ليس بمقدور أحد أن يتنبأ بدقة بما سوف يؤدي إليه هذا التوسع النقدي الحاصل على مستوى أمريكا والعالم باعتبار أن هذه السياسات جديدة و لم تحدث من قبل عبر تاريخ الاقتصاد العالمي. وهنا نتساءل الم يكن من الأفضل لإدارة بايدن الرهان أكثر على مفعول سياسة تطعيم الناس في أمريكا ضد الفيروس وعودتهم إلى الحياة الطبيعية وإنفاق ما لديهم من مدخرات بما يدفع الاقتصاد إلى العودة إلى النمو بشكل طبيعي بدلا من هذا التسرع بهذه السياسات النقدية والمالية التوسعية بشكل مبالغ فيه؟ هذا بالإضافة إلى تعهد الاحتياطي الفيدرالي في الإبقاء على أسعار الفائدة قريبة من الصفر كمًا ذكرنا. كل هذه السياسات في اعتقادنا كانت كفيلة بدفع الاقتصاد إلى النمو من جديد. والأمانة تقتضي هنا أن نذكر أن معاناة العالم الغربي واليابان طول العقدين الماضيين من انخفاض معدلات تضخم ربما تكون هي السبب في اندفاع الاحتياطي الفيدرالي والخزانة الأمريكية إلى تطبيق هذه السياسات تجنبا لما يحدثه الانخفاض الشديد والمستمر في التضخم من ركود اقتصادي.
وفي آخر لقاء بين رئيس البنك الفيدرالي مع الكونجرس الأمريكي أكد أنه مستعد لمجابهة أي ارتفاع مفاجئ للتضخم من خلال رفع أسعار الفائدة، ولكن على ما يبدو فإنه نسي ان رفع سعر الفائدة على الدولار سوف يضر بكل الدول الفقيرة التي توسعت في الاستدانة من الخارج بالدولار سواء من البنوك أو المؤسسات الدولية أثناء الازمة وهي عملية لازالت مستمرة ومع زيادة أسعار الفائدة سيتعين على هذه الدول تخصيص جزء أكبر من مواردها المحدودة لسداد فوائد ديونها عندما تبدأ في الارتفاع. والخلاصة أن هذه السياسات الاقتصادية وإغراق العالم بالنقود ليس من الحكمة كما نعتقد، ولكنها في ذات الوقت ربما تكون أفضل من عمل لا شيء لأننا مؤمنين بأن الرأسمالية قابلة للإصلاح.
والنصيحة التي نؤكد عليها دائما طوال هذه الأزمة أنه على حكوماتنا وعلينا كأفراد أن نكون مستعدين للتضخم القادم من خلال تنويع أشكال مدخراتنا وتجنب تركيزها فقط في العملات الورقية باعتبار أنها تفقد الكثير من قيمتها عندما يزيد التضخم. وكذلك تجنب الاقتراض غير الضروري بسبب احتمالات زيادة أسعار الفائدة عليها بما يفوق قدرتنا على السداد وهذا ينطبق على دولنا العربية أكثر من غيرها التي تحتاج أيضا إلى ضغط حجم إنفاقها العام.
مستشار اقتصادي