انتخابات أيلول 2019: تحديات التفريغ السياسي والتجريف الفكري!
عصام مخول
الحوار المتمدن
-
العدد: 6343 - 2019 / 9 / 6 - 13:46
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
تعقيدات معركة الانتخابات البرلمانية الثانية في اسرائيل للعام 2019، بعد أن فشلت انتخابات نيسان من العام نفسه في إخراج السياسة الاسرائيلية من أزمتها المعمقة، تنعكس على ساحة السياسة العربية وساحة القوى التقدمية في اسرائيل في أشبه ما يبدو مشروعا لضخ "الفوضى الخلاقة" وخلط الاوراق، بما لا يعيب مشاريع وزيرة الخارجية الامريكية في إدارة الرئيس بوش الابن كونداليسا رايس تجاه الشرق الاوسط، ولا يعيب أحلام وزيرة الخارجية الامريكية في إدارة الرئيس أوباما هيلاري كلينتون وآمالها التي علقتها على ما أطلقنا عليه خطأ "الربيع العربي"، وما رافقه من عمليات التفكيك و"التجريف الحضاري" والفكري والسياسي، إذا ما استعرنا مصطلح د. سليم نزال في كتابه "حصاد مر" الذي شرّفني بكتابة مقدمته.
والحقيقة أن تعقيدات المعركة الانتخابية ليست نابعة بالأساس عن عمق الانزلاق اليميني المتطرف في إسرائيل في ظل التحالف الفاشي بين المستوطنين ورأس المال الكبير، ولا عن عمق التحالف الموبوء بين رئيس الوزراء المأزوم وبين أيتام كهانا وغولدشتاين، ولا عن تشريع وسائل الحكم الديكتاتورية والعنصرية السافرة المعادية للعرب وتشريع قوانين الابرتهايد والمصادرة وهدم البيوت فقط، فالمواجهة مع مثل هذه التحديات تاريخيا وبقيادة واعية وحكيمة ومسؤولة، هي التي صقلت الجماهير العربية والقوى التقدمية المتحالفة معها في إسرائيل وبلورت وعيها، وصقلت أشكال مشاركتها السياسية كأقلية قومية، ونجحت في تثويرها، وربطت معركتها على الخدمات بمعركتها على الكرامة الوطنية والانسانية، وزاوجت بين معركتها على المساواة في الحقوق المدنية والمعركة على المساوة في الحقوق القومية، وبين معركتها على الديمقراطية ومعركتها على السلام وانهاء الاحتلال وإحقاق الحقوق القومية المشروعة للشعب الفلسطيني، لتنتقل هذه الجماهير بقيادة الشيوعيين وحلفائهم من ثقافة الاستسلام للوضع القائم وغير المتكافئ، الى ثقافة المشاركة السياسية وإلقاء ثقلها في التغيير التقدمي، ومن الغوص في تغليب الانتماءات الضيقة والتناقضات الرجعية المفتعلة، الى الوحدة الكفاحية الوطنية والديمقرطية.
لقد حدث هذا كله ليس من خلال التخلي عن المعارك الوطنية، ولا بالانكفاء عن المشاركة السياسية وانما بالإصرار على هذه المشاركة لتكون الاقلية القومية العربية في اسرائيل، فاعلا سياسيا مرفوع الرأس لا مفعولا به منصوباً عليه. وعلى هذا تدور المعركة الانتخابية الحالية في ظل عمليات التفريغ السياسي الممنهجة والترويج للانكفاء عن المشاركة الشعبية.
السياسة لمن؟!
من المعني بانكفاء المضْطَهَدين عن المشاركة السياسية!
لم يكن حق المشاركة السياسية في الدولة البرجوازية، حقا مضمونا لجميع المواطنين عبر تاريخ المجتمع الرأسمالي الذي تطورت في أحضانه الديمقراطية البرلمانية البرجوازية والنظام البرلماني كما نعرفه اليوم، فالسياسة تاريخيا كانت امتيازا "للسياسيين" الى أن حررتها الشعوب المقهورة والطبقة العاملة والشرائح الشعبية المظلومة وانتزعتها لتجعل منها حقا. في وقت انحصرت شريحة السياسيين في أولئك الذين لهم مصلحة في الحفاظ على النظام القائم، والمعنيين بالحفاظ على شكل تقاسم القوة القائم، وعلى مواقع المجموعات المهيمنة في المجتمع، الطبقية والقومية، وانعكاسه السياسي في الدولة، وكان الشرط المقرر في الحق بالمشاركة السياسية، ناخِبا أو مُنتَخَباً، هو حجم ملكيتك الخاصة التي تخولك او تمنع عنك حق المشاركة في السياسة!
وعلينا أن نسجل، أن انتزاع الحق في المشاركة السياسية العامة والمتساوية بناء على المواطنة وليس بناء على الانتماء الطبقي أو القومي او الجنسي، تمّ عبر صراع تاريخي مرير خاضته الفئات الشعبية والطبقة العاملة، والنساء، والشرائح المحرومة، والشعوب المضطهدة والمنتفضة ضد الاستعمار، على مدار عقود طويلة من النضال في شتى انحاء العالم، لتحرر السياسة من أيدي سياسيي النظام القائم، وتضعها ولو كحق، في أيدي الجماهير الواسعة المعنية بنظام يحمي مصالحها ويعبر عن طموحاتها هي، ووصل هذه العملية ذروتها في الاعلان العالمي لحقوق الانسان في العام 1948.
أصبح الحق في المشاركة السياسية هو في جوهره تعبير عن الحق في تغيير النظام القائم، والحق في المساهمة في خوض الصراع ضد القوى المهيمنة داخل المجتمع الذي نعيش ونناضل على ساحته ونمارس حقنا في القاء ثقلنا كأفراد وكمجموعة لتعميق تناقضات النظام وأزماته.
إن مصلحة النظام الحاكم حين يشتد مأزقه، هي إقناع ضحايا سياسته بوسائله المحكمة وبأدواته المتوفرة بالانكفاء عن هذه المشاركة السياسية، من خلال نشر الإحباط بينها حينا، وتسخيف جدوى المشاركة السياسية والتفريغ السياسي أحيانا. إنه التناقض بين أولئك الذين لهم مصلحة في الحفاظ على النظام القائم، وأولئك الذين لهم مصلحة وجودية في تغيير النظام القائم تغييرا ثوريا وتقدميا، فأين نقف من هذه المعادلة؟ وماذا يعني الترويج للانكفاء عن المشاركة في السياسة وفي خدمة من؟
عندمايجري هجوم على النهج الكفاحي
فأية ثقافة سياسية ستملأ الفراغ!
إن الترويج لانسحاب الجماهير الشعبية من السياسة أو تشويه مشاركتها لا يعني بالضرورة الاكتفاء بعدم التصويت فقط، ففي حالتنا يمكن ان يأخذ هذا الانسحاب شكل تشويه الثقافة السياسية الكفاحية المتراكمة في الصراع مع النظام الحاكم في اسرائيل واستبدال المواجهة مع المؤسسة الصهيونية المتجبرة طبقيا وقوميا، بلوم الضحية وتحميلها المسؤولية عن كونها ضحية النظام، وتحميلها المسؤولية عن تعثر حدوث التغيير في الحكم، ومطالبتها هي وليس مطالبة المؤسسة الحاكمة، ولا المعارضة المرشحة للحكم، بأن تثبت "ولاءها" وجاهزيتها لأن تكون جزءا من الحكم، حتى من دون أن تعرض عليها ذلك أية جهة ذات صلة بما فيها المعارضة الطامحة الى الحكم.
ويترافق ذلك مع تصوير النقاش الدائر على ساحة السياسة العربية اليوم وكأنه بين من يطمح الى التأثير على الساحة الاسرائيلية وبين من يتمنّع عن التأثير عليها، واعتبار التخلي عن الثقافة السياسية الكفاحية والقبول المسبق بدخول حكومات الاجماع القومي الصهيوني شرطاً لتأهيل السياسة العربية للتأثير على ساحة المجتمع الاسرائيلي.
لقد كنت وما زلت فخورا بمساهماتي البارزة على مدار العقود الماضية في الدفاع عن النهج الأممي وعن النضال المشترك العربي اليهودي الديمقراطي والتقدمي في اسرائيل والتنظير لأهميته، وكنت قد صغت منذ عشرين عاما مقولة: "إن الجماهير العربية وحدها غير قادرة على إحداث التغيير التقدمي والثوري في إسرائيل، لكن أحداً لا يستطيع إحداث التغيير من دونها".. وهي المقولة ذاتها التي يجري تحريفها وتشويهها واستعمالها في غير سياقها الصحيح اليوم، ليصبح مضمونها السياسي: أن الجماهير العربية لن تكون قادرة على المساهمة في إحداث التغيير، إلا من داخل الائتلاف السلطوي الحاكم. ومن المفارقات، أن هذه المقولات التي روّج لها تاريخيا حزب المباي وحركة العمل بالتعاون مع "عرب صالحين"، وأفشلتها جماهيرنا حين كان حزب العمل على ظهور الخيل، تبرز اليوم بالذات كفكرة لمّاعة لها من يروّج لها، حين بات حزب العمل يواجه الاضمحلال والاندثار يصارع من أجل تجاوز نسبة الحسم.
إن ثقافتنا السياسية الكفاحية تتعرض في هذه الانتخابات ويتعرض الوعي الشعبي المتراكم الذي بُني لبنة لبنة وفي قلب النضال الشعبي منذ سبعة عقود، الى غزوة فكرية وسياسية تقودها بعض منظمات المجتمع المدني (الأنجزةNGOs ) الممولة أمريكيا وصهيونيا عادة، هدفها التفريغ السياسي والتجريف الفكري، وحرف الوعي الشعبي عن ثقافتنا السياسية الكفاحية المتراكمة.. حتى أن أحد اعلام هذه الأنجزة البارزين حاول أن يحوّر النقاش حول مفهوم المشاركة وشروط التأثير السياسي من نقاش على مناهج سياسية ومواقف فكرية، الى مجرد مهاجمة "أعضاء الكنيست السابقين" (رزمة واحدة)، لاعتراض بعضهم على الثقافة السياسية الجديدة المستوردة. وافتعل تناقضات ليست قائمة الا في مخيلته بين نواب حاليين ونواب سابقين لإخفاء التناقض الحقيقي القائم بين سياستين، واحدة كفاحية وأخرى استسلامية يمثل هو والمؤسسة التي يديرها إحداها فقط.
ووصل الامر بأحد الأكاديميين الشباب، أن ظهر مؤخرا على شاشة تلفزيونية عربية محلية متخصصة في الترويج للإحباط ومهاجمة القائمة المشتركة، شارحاً أن خطاب الحقوق والعمل الحزبي والصراع مع السياسة الرسمية الظالمة هو جزء من ثقافة سياسية بائدة، وأن عصر العولمة يتطلب مفاهيم الاندماج والتفاعل في الوضع القائم وليس النضال من أجل تغييره.
إن الامر المقلق في المعركة الانتخابية الحالية هو أكبر من الانتخابات نفسها، فالمعركة هي على ممارسة الحق في المشاركة السياسية الواسعة أولا، لأننا أهل هذا الوطن الذي لا وطن لنا سواه، والمعركة الحقيقية هي على مضمون السياسة التي نتمسك بها والثقافة السياسية الكفاحية التي نريد. ان الهدف المُلح الذي يجدر أن يطرح اليوم على ساحة الجماهير العربية والقوى التقدمية في اسرائيل هو زيادة قوة القائمة المشتركة، ليس لأنها الشكل النهائي والاستراتيجي المطلوب لتنظيمنا السياسي وللقدرة على التأثير، وانما لأن قائمة مشتركة قوية بعد الانتخابات بمقدورها أن تشق الطريق نحو تحالفات أوسع تتجاوز الاحزاب والقوى الفاعلة على ساحة الجماهير العربية، ليس من خلال البحث عن مكان في ائتلاف حاكم يقوم على الاجماع الصهيوني، وإنما من خلال بناء جبهة نضال واسعة، عربية يهودية، ضد الفاشية، وخلق كتلة شعبية سياسية من كل الناس الذين لهم مصلحة في تغيير النظام القائم في اسرائيل تغييرا تقدميا. ويجب أن نعي، أنه ليست السياسة هي التي تقاس بهوية السياسي الذي يتبعها، وانما السياسي يقاس بجوهر السياسة التي يتّبعها...