نبيل عويضة، صانع الشيوعيين الثوريين

عصام مخول
الحوار المتمدن - العدد: 8099 - 2024 / 9 / 13 - 17:58
المحور: الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية     


نبيل عويضة، وداعا يا رفيقي الحبيب.. وداعا يا صانع الشيوعيين الثوريين.. يا عصارة الموقف المبدئي الأصيل، أيها الشيوعي النقي النبيل!

أي عطاء كفاحي كفاف أجيال متتالية من المناضلين الوطنيين والشيوعيين الشباب، هذا الذي توقف عن الخفقان والتدفق في حياتنا اليوم في حيفا وخارج حيفا، فتردد صدى الرحيل الثقيل، "طوى الجزيرة حتى جاءني خبر"..؟

ومن بين مئات من عقّبوا على هذا الفقدان المميز الكبير، فإن رفيقنا المعتّق في النقب المحامي شحدة بن بري نجح في وضع الاصبع على القضية الأساس فقال:

"الرفيق الشيوعي الأصيل نبيل عويضة، قبض على مواقفه كالقابض "على الجمر". دفع أثمانا غالية دفاعا عن مبادئه داخل حزبه وخارجه. ابتعد عن السلوك النفعي وحارب كل خلل كان من الممكن أن يشوه نضاله ومسيرته أو مسيرة حزبه. عاش نبيلا.. ومات نبيلا، ووفّق بمبدئية فائقة، بين فكره وبين سلوكياته الشيوعية الأصيلة في حياته العادية.

نبيل عويضه المحرر الحر في مجلة الغد والقائد المميز، من الرفاق الذين عاشوا دون ضجيج ورحلوا بصمت، ذلك الصمت الذي وصل إلى مسمع كل أذن أصغت إلى كلمتك واحترمت صمتك من أعالي الجليل الى هضاب النقب"..

برز نبيل عويضة قائدا للشبيبة الشيوعية ومناضلا عنيدا في صفوف الحزب الشيوعي.. وعلى يديه تخرّج أفضل الشيوعيين والثوريين الشباب المعنيين بإحداث التغيير الثوري في السياسة والمجتمع، وفي النضالات الوطنية والطبقية والوعي الاممي العميق.

نبيل عويضة، لم يكن دوره في قيادة الشبيبة الشيوعية وأصدقائها الوطنيين الشباب، وداخل الحزب الشيوعي، قائما على التبشير بالثورة والوعظ لها وكأنها تعيش في مكان سحري مخفي، ولا يحتاج منا الا الوصول اليه وإزاحة الستار عنه.. بل ربّى شبيبته على أن إحداث التغيير الثوري والتقدمي في مجتمعنا، هو شيء كامن في داخل كل واحدة وواحد منهم، يمكن استنهاضه، فقط حين نتسلح بالفكر الثوري والوعي التقدمي، وبالممارسة الاجتماعية والسياسة الثورية التي تهدف الى تغيير الواقع، وبالتنظيم الشيوعي والتضحية الثورية، وتغليب المبادئ على المصالح الانانية والانتهازية الطارئة..

هذه هي عظمة نبيل عويضة المعلّم، الذي آمن بأن التغيير الثوري كامن في بناء شبيبة واعية معنية بالمشاركة السياسية والترويج للمشاركة السياسية الواعية بين جمهور الشباب والطلاب، باعتبارها أقصر الطرق وأقلها كلفة للعيش الكريم وتحقيق المهام والطموحات والوطنية والإنجازات الشخصية. وتزويدها بأدوات هذه المشاركة الفكرية والثقافية والسياسية والتنظيمية، فصنعَ أفضل الشيوعيين وخرّج أفضل المناضلين الوطنيين، الذين يعون أن الموقف الاممي الثوري هو أعمق المواقف الوطنية وأرقاها.

حتى حين اضطر نبيل الى الخروج من قيادة الشبيبة الشيوعية وترك مواقعه الحزبية، أو أنه بشكل أدق، أخرج منها، وهو في عز عطائه وزخم قيادته الواعية وإصراره على التمسك بما اعتبره موقفا مبدئيا صادقا نقيا، فإن الشبيبة الشيوعية، وإن اضطر الى الخروج منها وانهاء دوره فيها، فإنها لم تخرج منه، وبقي الحزب وفكره والنظرة النقدية البناءة الى نهجه هاجسه المقرر، يعشش بين أضلاعه، فكان طبيعيا أن يعاد له الاعتبار بعد حين، وأن يصبح عنصر ثبات وارتكاز في الحزب والجبهة ومعهد اميل توما، به تقاس مبدئية المواقف والمثابرة، واستقامة المناضلين، على نسق الحجر الذي أهمله البناؤون / أو الحجر الذي أخطأ بحقه البناؤون ..

نبيل عويضة ونحن ننظر الى رحلة عطائه الكبير، قد عبّ من الحياة والعطاء عبّا، فهو الرياضي اللامع والسباح الذي يحصد الجوائز في سباقات المسافات الطويلة واقعا ومجازا، ليكون أسرع من يقطع البحر سباحة من حيفا الى عكا، الى أن استدعته مؤسسة الاضطهاد القومي، وحققت معه، وأصدرت له أوامرها بمنعه من السباحة أبعد من مسافة قصيرة حددتها له. فللبحر أسراره وللعنصرية منطقها المريض.

وهو منظم الفرق الرياضية ومهرجاناتها في اطار الشبيبة الشيوعية، ونقطة ارتكاز في تنظيم مهرجانات الصحافة الشيوعية، وهو الصحافي والإعلامي باقي الأثر، الذي يدخل قلوب الشباب ووعيهم، وهو المحرر في مجلة الغد التاريخية، وهو من يفاخر بأنه اكتشف الفنانات والفنانين التشكيليين الشباب الأبرز، وقدمهم عبر مجلة "الغد" الى قرائها، وهو الذي يكتب الشعر ويكتب القصة القصيرة، وهو محرر جريدة السبيل في أوائل ثمانينيات القرن الماضي، ومُصدر مجلة اقتصادية، وهو الحاضر بقوة في دعم وإدارة المسرح الناهض في حيفا، وجزءا عضويا من عائلة هذا المسرح الرائد وإدارته، وهو المتطوع الفعال في قضايا التربية والتعلم، وخصوصا في الهيئة الإدارية في مدرسة مار يوحنا، وهو الباحث الدقيق والعنيد والمساهم في انتاج أفلام وثائقية تلفزيوني بالغة الأهمية منها الفيلم الوثائقي عن خليل السكاكيني، ومحمود عبد الرحيم..

ونبيل فوق هذا، صاحب أرشيف شخصي وتاريخي نادر، يغار عليه وعلى وثائقه غيرته على تاريخنا الوطني، وعلى نقاء الذاكرة، وعلى مبدئية المواقف، ويحرص عليها تماما كما كان يحرص من خلال الشبيبة على تنظيم الحراسة المحكمة على مؤتمرات الحزب، ليحفظ سلامتها وسلامة ضيوفها بشكل مطلق أمام هجمات الفاشيين لتفجيرها.

نبيل عويضة، الذي ولد في أوج الإعداد لنكبة شعبه الفلسطيني، لم يع النكبة، لكنه كان يعي لاحقا بكل جوارحه، معركة الانتقال بالجماهير العربية في وطنها، من نفسية النكبة الى نفسية المواجهة والتصدي، والرأس المرفوع، والكرامة الوطنية، والوحدة الكفاحية الوطنية والتقدمية القادرة على إحداث التغيير الثوري، التي قادها حزبه الشيوعي وحلفاؤه الوطنيون والتقدميون. فكان قائدا ميدانيا بارعا في المساهمة في الانتقال من سيطرة عقلية العداء القومي والتحريض العنصري بين اليهود والعرب، كونهم يهود وعربا، الى نشر الوعي الاممي، وتوجيه العداء الى الصهيونية والامبريالية والرجعية العربية، باعتبار ذلك هو المخرج الحقيقي، وطريق الحرية الحقيقية للشباب العرب واليهود في هذا الصراع القومي الذي يستفيد منه أعداء الشعوب.



عائلة نبيل الغالية – أم هيثم وعرين وعلا وهيثم، وشقيقته نادرة وشقيقه نسيم الأحباء، انظروا من حولكم في هذا الحشد الكبير من المشيعين، المتواجدين هنا، وغير المتواجدين هنا من محبي نبيل عويضة، فستجدون في كل منهم، بعضا من قيم نبيل وملامح شخصيته، بصمة، أو بسمة، أو طبعة طبعها ولا تزول، وهذا هو العزاء الحقيقي.

منذ الأمس، توقف قلب نبيل عن الخفقان، وبدأت رحلتنا الغنية مع ذكراه العطرة، لأننا نعي بالأساس، أن ما يبقي معنا من نبيل، هو أكبر بما لا يقاس مما غاب عنا منه. وذكراه باقية فينا نموذجا وطريقا مبدئيا وحزمة نور نستنير بها.. فمثل نبيل، وإن مات، فإنه لا يغيب، وانما يغير شكل حضوره معنا وفينا.



*كلمة في جنازة الرفيق الراحل نبيل عويضة نهاية الأسبوع الماضي.