هوس الافتراء على الشيوعيين !
عصام مخول
الحوار المتمدن
-
العدد: 6592 - 2020 / 6 / 13 - 10:41
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
"وأما ما ينفع الناس فيمكث في الارض!"(قرآن كريم)
أتجنّب الانجرار كلما دق الكوز بالجرة وراء افتراءات واستفزازات ممجوجة تأتي خارج اي سياق تاريخي حقيقي، لتشويه صورة الشيوعيين وتاريخهم وتراثهم النضالي الوطني الذي راكموه في أدق الظروف، وتخوينهم كلما أحرجت مواقفهم التقدمية ومشاريعهم السياسية الصدامية بعض القوى الرجعية.
والحقيقة أنني منذ أكثر من أربعة عقود لم أسمع افتراء جديدا واحدا سوى ما يجتره المفترون على مدار السنين بشكل دوري رتيب، منذ كنا نخوض نقاشاتنا في إطار الحركة الطلابية العربية والتقدمية ونحن نؤسس لها في الجامعات الاسرائيلية منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي.
نحن لا ننكر على أحد حقه في أن يقرأ التاريخ بشكل مغاير لقراءتنا، وفي أن يناقشنا ويناقش تراثنا الفكري والسياسي، وأن يعترض علينا أو أن يوافق مع تحليلنا وقراءتنا للتاريخ، يناقش مواقفنا ونناقش مواقفه، يناقش منطلقاتنا ونناقش منطلقاته، فنحن حركة واثقة من تراثها تغتني من النقاش ومن الجدل ومقارعة الحجة بالحجة، ومن خوض الصراع في هذه البلاد على مدار أكثر من مئة عام، في مواجهة لا تعرف الكلل مع الامبريالية والصهيونية والرجعية العربية، راكمنا خلالها كمّا هائلا من التجربة الكفاحية الثورية المعقدة والخيارات المركبة، لم تراكمها حركة سياسية أخرى في البلاد، وقلما راكمت مثلها حركات شيوعية وتحررية في أماكن أخرى.
ان اللجوء الى مثل هذه الافتراءات يهدف بالأساس الى ابعاد الانظار عن الصراع الفكري والسياسي والاجتماعي الحقيقي، الأطول والأعمق والأشد صدامية وصرامة في تاريخ هذه البلاد والذي يعجز الآخرون عنه، بين الحركة الشيوعية بكل تجلياتها من جهة، وبين الاستعمار البريطاني والامبريالية الامريكية، وبين الحركة الشيوعية في البلاد والمشروع الصهيوني بكل تجلياته من الجهة الأخرى. وذلك باعتبار أن الصهيونية تشكّل جزءا بنيويا من المشروع الامبريالي في فلسطين وفي المنطقة، في الماضي وفي الحاضر سواء بسواء، ويبدو ان طبيعة هذا الصراع وتورط الرجعية العربية في التواطؤ معه هي التي تحرج المفترين وتستفزهم.
ومن المثير للاستهجان أن حملات الافتراء الممضوغة على مدار السنين، تتجدد بين مرحلة وأخرى لتشويه القيادات والقامات التاريخية المؤسِّسة للحركة الشيوعية، وتعمل عبثا على تشويه دورها الوطني بشكل منهجي، ومتزامن ومنسّق، يتعمق ويزداد شراسةً بمدى عمق المآزق التي تحيق بالمشاريع الامبريالية والصهيونية والرجعية العربية وغير العربية المتناوبة على المنطقة..
توفيق محمد واستهداف الشيوعيين
الاستاذ توفيق محمد أعرفه بصفته رئيس موقع" فلسطينيو ال- 48"، وأكن له الاحترام لما أعتبرته دائما دماثة خلق وقدرة على الاجتهاد في مناقشة القضايا السياسية والفكرية الخلافية الشائكة. وعلى الرغم من معرفتي بالبون الشاسع بيني وبينه في القضايا الفكرية أولا والسياسية ثانيا، الا أن ذلك لم يمنعني يوما من خوض معارك ميدانية مشتركة معا ومع كوكبة من الأصدقاء في قيادة الحركة الاسلامية، ولم يمنعني هذا الاختلاف من الاحتفاظ بالمساحة الضرورية للتمايز بين مواقفنا من جهة، والاحتفاظ بالمقابل بمساحة كافية لعمل كفاحي مشترك حين يقتضي الامر ذلك وتتوفر له الظروف. والحقيقة أنني فوجئت الاسبوع الماضي بانضمام الاستاذ توفيق محمد الى جوقة المروجين لافتراءات ممجوجة على الحزب الشيوعي وتاريخه وتراثه الكفاحي الوطني والتقدمي، وذلك في مقال تحت عنوان: “لا ينظّر لنا من يتلفع بالوطن ويهرول الى الأسرلة”.. ثم ينتقل ليتحدث عن.. "إنهم أبناء آبائهم ممن أحضروا صفقة السلاح التشيكي في العام 1948... " ويواصل حتى آخر الاسطوانة المشروخة... والحقيقة أن السيد توفيق محمد كان بمقدوره أن يعرف الحقائق التاريخية حول صفقة السلاح التشيكي وحول طبيعة الوضع في تشيكوسلوفاكيا في الفترة المعنية دون عناء كبير، فقط لو أنه أجتهد أكثر واطلع على الدراسة التي كتبها الباحث الجامعي غسان فوزي ابن مدينة ام الفحم ومؤسس حركة أبناء البلد، والأسير السابق الذي اتهم بتشكيل اول خلية فدائية داخل اسرائيل بعد عدوان حزيران 1967. وهو يعد في هذه الايام أطروحته لدرجة الدكتوراة في جامعة كولومبيا في نيو يورك، وكنا نشرنا دراسته مؤخرا على صفحة معهد إميل توما على الفيسبوك، وقبلها في جريدة الاتحاد.
وكان بمقدور السيد توفيق محمد أن يتعرف أكثر على طبيعة القوى التي كانت سائدة في تشيكوسلوفاكيا ابان صفقة السلاح، ولكان عرف أن "فارس" هذه الصفقة في الحكومة التشيكية – التي كانت مناوئة للشيوعيين في الفترة ذاتها - هو وزير الخارجية جان مساريك، الذي عرف بعدائه للشيوعيين وعلاقاته المشبوهة مع الحركة الصهيونية، حتى انها أطلقت اسمه على كيبوتس كفار مساريك قرب حيفا، وهو الذي ما لبث أن تم الإعلان خلال فترة قصيرة، أنه لقي حتفه منتحرا بالقفز من بناية وزارة الخارجية في براغ، وقد وجهت وسائل المخابرات والاعلام الغربي التهم الى الشيوعيين والسوفييت بتلفيق انتحاره.
ولو أن الباحث توفيق محمد تمهّل قليلا وبحث بعمق أكثر في الحقائق التاريخية لكان نجح في الوصول الى تعليق نشر في ملحق هآرتس "غاليريا" بتاريخ 7.6.2018 تحت عنوان : “البعثة التي لم تكن " ( او الوفد الذي لم يرسل)، نشره باروخ تيروش، الملقب باسم بطرس في الباليام، وهو أحد الشخصيات الأكثر ارتباطا بصفقة السلاح التشيكي، والذي أشرف من قبل بن غوريون على نقل الاسلحة الى البلاد وترتيب وصولها الى مطارات أعدت خصيصا لاستقبالها. ويقول تيروش هذا : "إن التصحيح الوحيد الذي لا بد من إدخاله الى تقرير ملحق غاليري، هو بشأن ما يروى عن بعثة من الحزب الشيوعي، تم الادعاء انها أرسلت الى تشيكوسلوفاكيا في العام 1948 لترتيب صفقة الاسلحة الى اسرائيل. وعلى ذلك، فإنني أؤكد أن مثل هذه البعثة لم تكن في يوم من الايام، وأن شيئا من هذا القبيل لم يحدث على الاطلاق”.
ويضيف تيروش: "إن شموئيل ميكونيس هو الذي اختلق هذه القصة، في محاولة منه لتسهيل عودة سفارة الاتحاد السوفييتي الى اسرائيل، بعد ان قطع الاتحاد السوفييتي علاقاته معها في خمسينيات القرن الماضي". وأضاف: “على الرغم من النفي المتكرر والقاطع من جميع المطلعين على الصفقة لوجود أي دور للشيوعيين في الموضوع، الا أن هذه الكذبة جرى الترويج لها وتناقلها في وسائل الاعلام”.
ولفت تيروش الى أن تفاصيل صفقة السلاح التشيكي الحقيقية جرى عرضها بدقة في برنامج "حياة كهذه" (חיים שכאלה) الذي يقدمه شايكي دان على القنال الاول في التلفزيون الاسرائيلي.
ولو أن الباحث توفيق محمد تروّى قليلا لفحص معلوماته لكان تعرف على معلومات لا يعرفها عن الصفقة وما كان له أن يرمى الشيوعيين بها، ولكان امتنع عن الانضمام الى جوقة المفترين عليهم وعلى تراثهم. فتيروش يضيف معلومة تكررها كل المصادر التاريخية المتوفرة لمن يريد ان يجتهد قليلا للكشف عن الحقيقة، فيقول: "الآن لم يعد سرا أن الصفقة جرى ترتيبها والاعداد لتنفيذها على أنها صفقة متوجهة الى إثيوبيا وكتبت على أوراق رسمية إثيوبية. وبقي تزوير هوية الطرف الذي أبرمت الصفقة معه سيد الموقف حتى الانتهاء من تنفيذها." وأضاف تيروش العالم ببواطن الأمور: "لقد عرف الروس بالأمر في وقت متأخر بعد أشهر عديدة. وقاموا باعتقال المسؤولين عن تنفيذ الصفقة بما فيهم عدد من اليهود ومنهم من احتلوا (لاحقًا) مواقع في جهاز الدولة وفي صفوف الحزب الشيوعي التشيكوسلوفاكي وتمت محاكمتهم وإعدامهم".
بقدر ما رغب العجل ان يَرْضَع
كانت البقرة ترغب أن تُرْضِع !
يشير تسفي بن تسور وهو أحد الضالعين الرئيسيين في صفقة السلاح التشيكي في دراسة في موقع The Palyam &Aliya Bet الى مسألة غاية في الاهمية كان يجدر بمن يريد الحديث عن "السلاح التشيكي" أن يلتفت اليها، ولو من باب التعرف على السياق التاريخي قبل أن ينفلت على الشيوعيين. ويلفت بن تسور الى أنه خلال الاحتلال النازي لتشيكوسلوفاكيا وضع هيرمان غويرينغ، وهو نائب هتلر يده على شركة سكودا للسيارات في تشيكوسلوفاكيا. وحوّل هذه المصانع الى مصانع لانتاج السلاح، وأتبعها بمجمع هيرمان غورينغ الذي وضعه في خدمة المجهود الحربي الالماني.
ومع نهاية الحرب ودخول الجيش الاحمر السوفييتي الى تشيكوسلوفاكيا وتحريرها من النازيين فإن كميات هائلة وفائضة من الاسلحة ومن مصانع السلاح كانت متوفرة بكثافة تفوق حاجات البلاد بكثير، بينما تئن البلاد من نقص حاد في المنتوجات المدنية واليومية وتبحث عن وسائل للتخلص من الاسلحة واستيرد الاحتياجات المدنية. كما يلفت الرجل الى ان القانون التشيكوسلوفاكي كان يمنع عقد صفقات اسلحة مع غير الدول. ومن هنا جرى تزوير الصفقة وعقدها بشكل سري على أوراق الدولة الاثيوبية.
ولكي ننهي مرة واحدة والى الابد هذا الملف والافتراء البائس على الشيوعيين والافتراء علي تاريخهم، دعونا نتابع ما يسجله بن تسور حول الشخصيات التي كانت ضالعة في صفقة السلاح التشيكي. يقول: "إن الاتصالات حول شراء أسلحة من تشيكوسلوفاكيا بدأت في تموز 1947، عندما قام موشيه سنيه رئيس الدائرة السياسية في الوكالة اليهودية في أوروبا في حينه (وعضو قيادة مبام حتى العام 1956)، بطرح الموضوع أمام نائب وزير الخارجية فلاديمير كليمنتيس، وحصل على موافقته المبدئية". ويضيف بن تسور: "في أوائل نوفمبر 1947 أوفد بن غوريون الى براغ د. أوتو فيليكس، وهو محام مولود في المدينة وله كثير من الاصدقاء في صفوف الجهاز الحكومي لفحص امكانيات شراء الاسلحة هناك.. ونحو نهاية ديسمبر كانون اول 1947 تكللت جهوده بالنجاح عندما أنهى إيهود أفريئيل وأوتو فيليكس صفقة اولى، بمساعدة تاجر السلاح الروماني اليهودي روبرت أدام أبراموفيتش تم توقيعها رسميا في أواسط كانون الثاني 1948 بمساعدة لافتة من جان مساريك وزير خارجية تشيكوسلوفاكيا".. ويواصل بن تسور كيف واصل المبعوثان فيليكس وأفريئيل مساعيهما بمساعدة تاجر ومعهما تاجر السلاح الروماني عقد صفقات سلاح إضافية أكبر منها.
إن مشكلة "المفترين المناوبين" اليوم وتعثر مشروعهم في معاداة الشيوعيين، نابعة عن أن تاريخ الشيوعيين وتاريخ عصبة التحرر الوطني بشكل خاص، موثق بكثافة وفي كم هائل من الوثائق المحفوظة المتوفرة، التي لا يكلفون انفسهم حتى عناء البحث عنها والاطلاع عليها، وخصوصا في الفترة الممتدة بين ربيع العام 1943 وحتى العام 1949. ولكن طامتهم الاكبر نابعة عن أن تراث الشيوعيين موثّق وراسخ بقوة أكبر، ليس في الوثائق الورقية والأرشيفات فقط، وانما في قلوب الناس وذاكرتهم الجماعية والفردية، ومعاركهم الشعبية وأهازيجهم، وفي ضمير الشعب الفلسطيني وفي اجتراح معركة البقاء، وفي الرواية المحكية والوعي العام المنتشر داخل بيوت الناس وأماكن عملهم، بين عائلات العمال والفلاحين والمثقفين الثوريين وصغار التجار ووسط الطلاب والشباب والرجال والنساء، وكل قطاعات شعبنا الوطنية والتقدمية.
لقد أثبتت تجارب الشعوب المكافحة من أجل حرياتها في كل مكان، أن كل محاولة لخلق التنافر ودق أسافين التباعد والاغتراب بين الجماهير الشعبية المنخرطة في النضال الوطني والتحرر الاجتماعي وبين الشيوعيين وافتعال التناقض بينها وبينهم، كانت تصب دائما في خدمة المتآمرين على الشعوب للإيقاع بالجماهير وترويضها وتطويعها بعيدا عن زخم وحدة الصف الكفاحية المعادية للإمبريالية وأتباعها الرجعيين.