سقطت حيفا في 22 نيسان 1948 وسقط معها المراهنون على الرجعية العربية والاستعمار!
عصام مخول
الحوار المتمدن
-
العدد: 6546 - 2020 / 4 / 25 - 10:30
المحور:
القضية الفلسطينية
لم يكن في متناول عصبة التحرر الوطني في فلسطين أن تدرأ النكبة عن شعبها ولا أن تمنع جرائم العصابات الصهيونية عن حيفا وقضائها، ولا أن توقف تهجير شعبها أيدي سبأ، فقد أصرّت القيادة التقليدية وجامعة الدول العربية التي نشأت في أحضان الاستعمار البريطاني على حرمان الحركة الشيوعية وعصبة التحرر الوطني بشكل منهجي وعلى طول تاريخها من أخذ دورها والاعتراف بمكان لها في معركة الشعب الفلسطيني التحررية، ويشير إميل حبيبي أحد قادة العصبة المؤسسين الى ذلك في تقديمه لكتاب سميح سمارة "العمل الشيوعي في فلسطين- الطبقة والشعب في مواجهة الكولونيالية"، حيث يقول: "الواقعة التاريخية الجذرية هي أننا مُنِعنا نحن الشيوعيين الفلسطينيين – من تحمّل أية مسؤولية في تقرير مصير القضية الفلسطينية، وفي كل مراحل هذه القضية حتى، ولا المشاركة في تحمل أي قسط من هذه المسؤولية".
والحقيقة أن حرمان عصبة التحرر الوطني من أخذ دورها جاء على الرغم، وربّما بسبب كونها تمثل زخمَ القوة الطبقية الفلسطينية البديلة الصاعدة، التي نضجت مع اكتمال تشكّل الطبقة العاملة العربية والتي شكّلت العصبة طليعتها الثورية وحامل همومها، والمعبّر عن أمانيها التحرّرية أسوة بمصالح الطبقة الفلاحيّة الواسعة في الريف الفلسطيني وأوسع القطاعات الشعبية المقهورة في فلسطين.
لكنّه في الوقت الذي تخلّت فيه القيادات التقليدية والرّجعيات العربية عن دورها وعن مسؤولياتها تجاه الشعب الفلسطيني في نكبته المبيتة، فإن عصبة التحرّر كانت هي القوة الفلسطينية الوحيدة التي انبرت لتحمل هموم شعبها المشرد "كالأيتام على مائدة اللئام"، بعد أن خانه ذوو الشأن وتخلوا عنه، وعملت العصبة على أن توفّر الأجوبة السياسية والوطنية القادرة على تجاوز المؤامرة وهاجسها الملحّ وعنوان معركتها التي تقودها وتحضّ عليها أونلاين هو: عودة المهجّرين إلى الوطن دون انتظار، تماما كما تنتهي الحروب.
وسيكون على مؤرخي البترو-دولار المنفلتين على الشيوعيين في خدمة أكثر الرجعيات العربية تواطؤًا، وفي خدمة أسيادها عبر البحار، أن يسجّلوا أمامهم الحقيقة التاريخية الساطعة، بأنّ القوة الفلسطينية الوطنية الوحيدة التي نشطت فعليًا وفي كل السّاحات والميادين في الوقت الذي كانت النكبة ما زالت في أوجها، من أجل درء النكبة وعودة المشردين الفلسطينيين ردًا على سقوط حيفا وأخواتها وتشريد أهلها، هي عصبة التحرر الوطني، حزب الشيوعيين العرب في حينه، التي خرجت إلى جموع اللاجئين في أماكن تجميعهم تحرّض الأهالي المزدحمين عنوة في ميناء حيفا وفي ميناء بيروت وفي "معسكرات التركيز" استعدادًا لحياة اللجوء، وتدعوهم إلى الانتفاض والعودة فورًا إلى مدينتهم وبيوتهم وأماكن أعمالهم وإلى النضال من داخل وطنهم ضد مؤامرات الامبريالية والصهيونية والرجعية العربية.
ويسجّل التاريخ الحقيقي والأمين لعصبة التحرّر الوطني وحلفائها التقدميين دون غيرها على الساحة الفلسطينية، أنها في أوج النكبة كانت أول من وضع أمام ضحايا النكبة مشروعًا وطنيًا كفاحيًا لمقاومة تبعات النكبة، في القلب منه معركة البقاء في الوطن (وليس كما يكتفي عادل مناع بتسميتها في بحثه عن النكبة: "عدم الطرد"). لقد رسّخت عصبة التحرر الوطن مفهوم النضال الشعبي القائم على أن معركة البقاء مثلها مثل مسيرة عشرات ألوف اللاجئين العائدين عبر رأس الناقورة، تبقى أقل كلفة من مصير اللجوء والتخلي عن الوطن، وأن إقامة الدولة العربية في فلسطين على أساس قرار الأمم المتحدة هو المشروع الحقيقي الوحيد المرشح ليكون بديلًا عن النكبة.
نداء العودة إلى حيفا
والمعركة على مسيرة العودة من بيروت
في الثّاني من أيّار 1948 أصدرت عصبة التحرر الوطني من مقرّها في حيفا نداء إلى أهالي حيفا المقتلعين يدعوهم إلى العودة إلى بيوتهم وأحيائهم السكنية وأماكن عملهم، بعد أن كانت قوات الاستعمار البريطاني قد وجّهت المهجّرين الهائمين على وجوههم هربًا من مجازر العصابات الصهيونية في الأحياء السكنية العربية إلى ميناء حيفا والشوارع المجاورة له، وسدّت كلّ الطرق المؤدية إلى مناطق المدينة الأخرى أمامهم، موهمةً المشردين أنّها ستؤمّن لهم الوصول إلى ميناء بيروت حفاظًا على أرواحهم، وباشرت القوارب البريطانية في نقل المشردين الحيفاويين إلى بيروت في أقذر ضلوع امبريالي، في تفريغ حيفا من سكانها العرب في خدمة المشروع الصهيوني المبيت وجرائم العصابات الصهيونية وإرهابها.
كانت حيفا على كف عفريت، وكان غالبية قادة عصبة التحرر في حيفا قد تشتّتوا ووجد بعضهم نفسه في بيروت رغمًا عنه، (راجعي مذكرات حنا نقارة الذي هدّده الجنود البريطانيون بإلقائه في عرض البحر إن أصر على التوجه إلى عكا).
وقام القائد التاريخي توفيق طوبي بصياغة موقف العصبة من قلب النار والدمار ورماد نكبة حيفا، فاجترح موقفها ونداءها الشجاع والحكيم: "عودوا إلى مدينتكم وبيوتكم .. فلنقف أمام الاستعمار ومؤامراته، وأعوانه ولنوجّه ضربتنا إلى صميم المستعمر البريطاني، لأجل حريّة فلسطين واستقلالها ووحدتها"، وأوكل بالشّاعر الشيوعي العريق عصام العباسي القيادي في العصبة أن يخطّ المنشور بخطّ يده المميز وطباعته على ماكنة "الستانسل" القديمة في الظروف المعقدة السائدة.
في 2 أيار 1948 تم توزيع نداء عصبة التحرر الوطني على جماهير المقتلعين المزدحمين على أرصفة ميناء حيفا، وتم نقل النداء سرًّا إلى ميناء بيروت، وقام عدد من قادة عصبة التحرر الوطني ونشطائها الذين تواجدوا في بيروت عنوةً، بتوزيع النداء على المهجّرين الّذين ما زالوا يفترشون الأرض ويلتحفون السماء وقاموا بتحريض اللّاجئين وحضّهم على العودة إلى بيوتهم وأعمالهم، وتم في أعقاب ذلك اعتقال اميل توما والزجّ به في سجن قلعة بعلبك إلى أن أفرج عنه بعد ستة أشهر في أعقاب معركة شعبية واسعة قادها الحزب الشيوعي اللبناني الشقيق.
وفي بيروت بادر الشيوعيون وأصدقاؤهم إلى ترتيب مظاهرة العودة الاولى، بمشاركة عشرات ألوف المهجّرين والنازحين الفلسطينيين، في مسيرة عودة جبارة تعبر نقطة رأس الناقورة الحدودية مهما كانت التضحيات التي سيدفعونها، لئلا يتحوّل اللّجوء إلى حالة دائمة وثابتة. ونجح المحامي حنا نقارة القيادي في عصبة التحرر، بترتيب اجتماع مع رئيس الحكومة اللبنانية في حينه رياض الصلح، لتسهيل تنظيم مسيرة العودة عبر رأس الناقورة، لكن رئيس الحكومة اللبنانية الذي استقبل الوفد استقبالا وديًّا، وعبّر عن تعاطفه مع آلام الشعب الفلسطيني، أفهمهم بصريح العبارة بأنّ: "هناك أوامر من فوق فوق بمنع أي تحرك كهذا وبأي ثمن!" (مذكرات حنا نقارة – محامي الشعب والارض).
ولأهمية موقف عصبة التحرر وندائها التاريخي، نثبّت هنا نص النداء كاملًا وصورة عنه ثقة بأجيالنا الناشئة وتقديرًا لوعيها ولحقها في الاطّلاع على الحقيقة التاريخية من رأس النبع.
وثيقة تاريخية:
نداء عصبة التحرر الوطني – 2 أيار 1948
"إن الكارثة التي حلت بكيان المجتمع العربي في حيفا وقضائها، كارثة أرادها الاستعمار وسعى إليها جادا، هي من سلسلة مآس رمى بها بلادنا منذ أن سعى إلى إلغاء ما أجمعت عليه منظمة الأمم المتحدة من إنهاء الانتداب وجلاء الجيوش الأجنبية.
وقد نبه حزبنا دائما إلى هذه المؤامرات التي يحيكها الاستعمار وإلى انجرار قادة الحركة الوطنية العربية في فلسطين وراء سياسات يمليها الاستعمار البريطاني، سياسة تقوم على تقوية الصراع القومي بين العرب واليهود باعتبارها وسيلة لمنع التقسيم، وما دروا أن الصراع القومي إنّما يثبّت التقسيم ويفرضه بشكل يؤمّن مصلحة المستعمر، ويسلب أهل البلاد ذلك الاستقلال الذي كان يمكن أن تضمنه منظمة الأمم المتحدة بتأييد القوى الديمقراطية فيها.
لقد نجح الاستعمار إلى حدٍّ كبير في مؤامراته هذه، بإذكاء نار الحرب القومية، ووصل إلى ما كان يصبو إليه من إلغاء قرار الأمم المتحدة بالاستقلال وجلاء الجيوش، وبذلك أصبح سيد الموقف، يملي الحلول والمشاريع التي يراها ملائمة للحفاظ على سلطان نفوذه.
إن موقف حكومة الاستعمار من حوادث حيفا وقضائها بمساعدتها الفعالة للقوات اليهودية أثناء عملية الاحتلال وما تبع ذلك من تصريحات للمندوب السامي وممثل بريطانيا في منظمة الامم المتحدة، كل هذا يوضح تواطؤ الاستعمار مع أعوانه من الزعماء اليهود على تنفيذ مشروعٍ للتقسيم يحصل بموجبه على قواعد استراتيجية وعلى امتيازات لاستغلال النفط في مناطق الدولة اليهودية.
إلا أنّ للعبة الاستعمار هذه شقّاً آخر. ففي الوقت الذي يتابع فيه وكلاؤه نشاطهم لإذكاء نار الحرب القومية في فلسطين يقوم أولئك بتوجيه الرأي العام العربي نحو الملك عبد الله عميل الاستعمار البريطاني "لينقذ" فلسطين وينقذ متطوعي الجامعة العربية من الورطة العسكرية التي وجدوا أنفسهم فيها، والأمور تجري في هذه الناحية كما يريدها الاستعمار، فقد اتجهت الجامعة العربية نحو الملك عبد الله ليقوم بعمل حاسم، ولهذا السبب وحده زاره رئيس الهيئة العربية العليا وأيضا وفود عديدة من فلسطين. وهذا هو عين ما يريده الاستعمار ألا وهو دخول الجيش العربي بقيادة أبي حنيك لفلسطين. إن لعبة الاستعمار ستتم بأن يحتل جيش أبي حنيك بعض المستعمرات اليهودية النائية وبعض أقسام من فلسطين تحتم الوكالة اليهودية بإدخالها في نطاق دولتها وينكل بسكانها اليهود، موهما العرب بأنه منقذهم، وأن أعماله البطولية هذه تشكل توطئة لاحتلال فلسطين بأكملها وتسليمها للسكان العرب، إلا أن جيش الملك عبد الله سيقف عند حدود معينة له وعندئذ سيجد الاستعمار البريطاني سببا لهدنة يعقدها بين عملائه. أما الملك عبد الله إذ يمثّل دور المنقذ فإنه يأمل بالحصول على ترحيب عرب فلسطين، الأمر الذي يسهّل له البقاء نهائيًا في فلسطين في الأجزاء التي يكون قد احتلها جيشه. وهكذا تتم لعبة الاستعمار البريطاني بإقامة دولة يهودية تؤمّن مصالحه وما يطمع به من مراكز استراتيجية وامتيازات بترولية، وفي الوقت نفسه بضم القسم العربي إلى شرقي الأردن حيث يرتبط مليكها بمعاهدة رقّ وعبودية.
إن مأساة حيفا وقضائها التي وقع ضحيتها عشرات الألوف من العائلات المشردة، ومئات القتلى والجرحى من نساء وأطفال، يجب أن تفتح أعين الشعب العربي ليسلك طريق النضال الصحيح ضد الاستعمار ومؤامراته، ضد سياسة أعوانه وأجرائه من زعماء سياسيين وعسكريين يجرّون الشعب العربي إلى القيد، إن هذه المأساة ليست من صنع الغلاة الصهيونيين الذين نفذوا رغائب الاستعمار فحسب، بل ويساهم فيها أيضا أولئك الزعماء بقسط وافر، إذ قادوا الشعب العربي إلى هذه المجازر التي لا تخدم إلّا الاستعمار.
إن مدى إخلاص أولئك الزعماء لأفراد الشعب ظهر جليًا حين تخلوا عنهم أوقات المحن. إن نزوح الشعب العربي عن حيفا وقضائها، عن أرض آبائه وأجداده وتخليه عن أملاكه وأرزاقه وأعماله لمما يسهّل على الاستعمار تنفيذ مؤامراته ويساعد على ابتلاع مصالح العرب في هذه البلاد. إن مصلحة عرب حيفا وعرب فلسطين تحتّم على سكان حيفا العرب الرجوع إلى مدينتهم، إلى أعمالهم ومصالحهم، إن مصلحة العمال العرب تقتضي أن يعودوا ليحتلوا المراكز التي كانوا يعملون فيها ويرتزقون منها فلا يفسحون المجال للمنظمات اليهودية المتطرفة لتنفيذ سياسة احتلال العمل والأرض.
إننا نهيب بمن نزحوا عن حيفا وقضائها من العرب الرجوع ليستمروا في نضالهم في سبيل وحدة فلسطين واستقلالها.
يجب ألا ننخدع بتصريحات أولئك المأجورين الذين يستفيدون من مآسي الشعب العربي وآلامه لتثبيت أقدامهم وأقدام المستعمرين. لن ينقذ فلسطين خدّام الاستعمار وعملاؤه، بل نضال سكانها المباشر في سبيل تحطيم قوى الاستعمار لأجل الحرية والاستقلال والجلاء.
إن ذلك الاستعمار الذي ساعد القوات اليهودية على احتلال حيفا وقضائها بمنعه عنها النجدات العربية من الطيرة والقرى المجاورة، والذي يسيطر في الوقت نفسه على تحركات الجيش الاردني وسكناته، لن يسمح لهذا الجيش – باحتلال حيفا، التي مكّن الوكالة اليهودية منها.
فلنقف أمام الاستعمار ومؤامراته، وأعوانه ولنوجه ضربتنا إلى صميم المستعمر البريطاني، لأجل حرية فلسطين واستقلالها ووحدتها.
2.5.1948
عصبة التحرر الوطني- حيفا