معالم الفاشية في إسرائيل: التوجهات العالمية والأزمة البنيوية المستعصية

عصام مخول
الحوار المتمدن - العدد: 8156 - 2024 / 11 / 9 - 08:43
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     



في افتتاح دورة الكنيست الشتوية هذا الأسبوع أعلن نتنياهو في الكنيست: "نحن نريد أن نحقق انتصارا مطلقا على أعدائنا من أجل البشرية كلها".. وردا على هذه البذاءة الدموية، أريد أن أثبّت، أن الموقف من حرب الإبادة على غزة ومن الجرائم ضد البشرية التي تمارسها إسرائيل في شمال قطاع غزة، تشكل خط توزيع المياه السياسي والأخلاقي والإنساني والقانوني والحضاري الذي تستمد المواقف منها شرعيتها في عالمنا. تماما كما كان الموقف من حرب الفيتنام هو خط توزيع المياه السياسي والأخلاقي في سبعينيات القرن الماضي، وكما كان الموقف من الابارتهايد وجنوب افريقيا في ثمانينيات القرن الماضي، وكما كان موقف الشعوب من ثورة الجزائر في الستينيات منه، والموقف من الحرب الأهلية الى جانب الجبهة الشعبية في اسبانيا ضد فاشية فرانكو في ثلاثينيات القرن العشرين. هكذا فإن الموقف من تحرر الشعب الفلسطيني من الاحتلال المتوحش الإسرائيلي وحرب الإبادة على غزة، أصبح هو "المجس الأخلاقي والحضاري" لعصرنا.

إن "النصر المطلق" في "حرب الإبادة المطلقة" التي يبشر بها نتنياهو في غزة، ومحرقة العصر التي ينفذها بحق المدنيين الفلسطينيين في إطار خطة الجنرالات، المعروفة بخطة غيورا آيلاند، لتجويع شمال قطاع غزة وتهجيره، وإحراق مراكز الايواء بمن أوى اليها من الأطفال والنساء والعجز، وقصف المستشفيات وخيام العائلات التي تلتهمها النار، إن هذا "النصر المطلق" الموعود الذي يتبجح به نتنياهو، ليس نصرا من أجل البشرية، وانما جرائم ضد البشرية وتحدٍّ لوجودها وعلاقاتها يجب أن تعاقب الفاشية الإسرائيلية عليها.

لقد كان كارل ماركس قد كتب في رسالة الى انجلس في ديسمبر 1856 حول انتفاضة بولندا ضد روسيا: "يمكننا قياس قوة ومدى قابلية أي ثورة (في أوروبا) للحياة.. بمدى موقفها الداعم لانتفاضة بولندا".. "فبولندا هي المجس الخارجي لهذه الثورات"... وعلى هذا المنوال علينا أن نحدد لعصرنا، في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين، أن "المجس الخارجي" للموقف الأخلاقي، والإنساني والمتحضر لشعوب العالم قاطبة، هو في الموقف من القضية الفلسطينية، ليصبح الأمر المقرر عالميا هو، في أي جانب من المجس الأخلاقي والحضاري تقف، الى جانب الحق الفلسطيني وتحرره، أو الى جانب مجرمي الحرب وأعداء البشرية!



/"التفكير الاستراتيجي في زمن الوحوش العملاقة وحروبها: "مكانة الحق وآفاق التحرر"



إن الورقة المفهومية التي ننطلق منها في مؤتمر مواطن التاسع والعشرين المنعقد في جامعة بير زيت، تساهم في تحديد السياق التاريخي الحقيقي الذي يستدعي "إعادة صوغ المشروع الوطني الفلسطيني، بشكل يعزز مكوّنه التحرري، بشكل ينهي وهم إمكانية تحقيق الحرية بالتحالف والتنسيق مع أعدائها". وتنطلق هذه الورقة من أن "واقع المشروع الوطني يشترك مع واقع النظام العالمي بأنهما يمران في المرحلة التي أطلق عليها غرامشي اسم "زمن الوحوش العملاقة"، وهو زمن يتسم بكون القديم يحتضر، والجديد يصارع لكي يولد. والوحوش هنا هي قوى النظام القديم التي باتت متوحشة في الحفاظ على هيمنتها المهددة.. والقديم المحتضر يسعى الى الحفاظ على على الوضع الراهن والحفاظ على حياة قوى النظام القديم وهي تتضعضع مكانتها وتحتضر، فالقديم المحتضر يصارع من أجل البقاء بأي ثمن وشكل، بدون قيود، لا تلك التي تمليها القيم الإنسانية، ولا حتى مخاطر زوال البشرية".





/الفاشية وليدة الازمة البنيوية في إسرائيل

ومغذيتها

لم يكن الانقلاب القضائي الفاشي الذي أفرزته نتائج انتخابات الكنيست ال-25، والذي طغى على الحالة السياسية في إسرائيل، وأوصل حكومة الفاشيين والمستوطنين برئاسة بنيامين نتنياهو نهاية العام 2022 الى الحكم، هو السبب في الانتقال الفاشي في إسرائيل، وانما كان هو النتيجة الحتمية لنضوج مقدمات الازمة البنيوية المستعصية وغير القابلة للحل، واكتمال الشروط التراكمية التي دفعت الى تفجر أزمة مشروع الاحتلال والاستيطان الإسرائيلي الذي وصل الى أقصى مداه على الارض، فلم يعد قادرا على التقدم أكثر بالوسائل الاحتلالية العادية المَطلِية بالقانون ما دام الشعب الفلسطيني حاضرا بقوة فوق أرضه، وما عادت المؤسسة الحاكمة في إسرائيل مؤهلة للبحث عن مخرج من الأزمة، ما دام المجتمع الإسرائيلي غير جاهز للتخلي عن مشروع الاحتلال والاستيطان والضم والاستعلاء القومي العنصري الطاغي بشكل حاسم على المجتمع الإسرائيلي، فتفجر الوضع، على شكل ازمة سياسية واستراتيجية عميقة ومزمنة سبقت الانتخابات وتعمقت في أعقابها. وضعت الديمقراطية الإسرائيلية المبتورة أصلا، في مواجهة مباشرة مع المد الفاشي المستميت لإنقاذ مشروع الاحتلال، مصدر اللأزمة البنيوية وجوهرها.

وإزاء هذا الاستعصاء، كان الطريق قصيرا للاندفاع نحو خيار الفاشية وخطة الحسم وحرب الإبادة وتهجير الشعب الفلسطيني، ووضعه أمام نكبة جديدة أشد شراسة وسفورا على رؤوس الأشهاد، وأمام سمع العالم وبصره..





*ليس تخليص الشعب الفلسطيني من الاحتلال وإنما تخليص الاحتلال من الشعب الفلسطيني



وبدلا من الانتقال إزاء هذه الازمة المستعصية، الى فكرة تخليص الشعب الفلسطيني من الاحتلال، للخروج من الازمة البنيوية الناتجة عن تناقضات مشروع الاحتلال، صار المطروح إسرائيليا، تخليص الاحتلال من الشعب الفلسطيني، من خلال الدفع بخطة الحسم النهائي للصراع مع الشعب الفلسطيني، اعتمادا على فائض القوة الإسرائيلية في زمن الوحوش العملاقة وتواطؤ النظام الرسمي العالمي بقيادة الولايات المتحدة الامريكية وتقاعس وعجز آخرين.

ووفقا "لخطة الحسم" فإن أمام الفلسطينيين خيارات ثلاث: فإما الخضوع للاحتلال، وإما التشريد والتهجير، وإما الموت والابادة بقوة الاحتلال المنفلت على الشعب الفلسطيني..

وبذلك دخلت الصهيونية المأزومة في طور أعلى من التوحش الديكتاتوري الإرهابي السافر، تبحث عن تحسين مواقعها وتوسيع مساحة دورها الوظيفي في المنظومة الامبريالية "في زمن الوحوش العملاقة" المأزومة بدورها عالميا.



/خطة الحسم مع الشعب الفلسطيني تستدعي خطة لحسم طابع إسرائيل داخليا..

إن خطة الحسم في ظل أزمة مشروع الاحتلال والاستيطان، هي بالضرورة، خطة القوى الفاشية للحسم نحو الداخل أيضا، وهي تستدعي حسم الصراع على طابع دولة إسرائيل ذاتها، بتغليب الدولة اليهودية على الدولة الديمقراطية الليبرالية، وحكم القانون، وابتلاع دولة المستوطنين لدولة إسرائيل، وهيمنة دولة التوراة التناخية نهائيا، على الدولة العصرية، وعسكرة الدين وتديين العسكر، وتغليب جيش الرب على "جيش الشعب" وطغيان الثقافة السياسية والايديولوجية لميليشيات المستوطنين والفاشيين المسلحين على كل ما يتحرك في المجتمع. حتى أن إسرائيل باتت تتعامل علنا، في طور توحشها، مع "الديمقراطية" التي ادعت تاريخيا بأنها جوهرة تاجها وجوهر كينونتها، وميزة حصرية للدولة اليهودية في منطقة الشرق الأوسط المتصحرة حضاريا!!، باعتبار هذه الديمقراطية باتت عائقا أمام مشروعها الاستيطاني التوسعي ومخططات التهجير التي تعد لها، وأمام يهودية الدولة.

هذا هو ما دفع مؤسسات الحكم في إسرائيل الى تنفيذ انقلاب قضائي فاشي، فور انتخاب حكومة المستوطنين والفاشيين على المليان، بعد انتخابات الكنيست نهاية العام 2022، ال-25، بحيث يأخذ شكل القمع ومصادرة الحريات الديمقراطية والسياسية داخليا وحرب الإبادة العدوانية خارجيا. وبات هناك من يسأل: "وهل جرى ذكر الديمقراطية في التوراة حتى نتمسك بها في عصرنا"؟



/إسرائيل تبحث عن تعزيز مواقعها في نادي الوحوش العملاقة!



لم يكن أخطر ما رافق خطاب نتنياهو في الكونغرس الأمريكي في تموز الماضي يتمثل في خطابه الدموي الفاشي، وانما ردة الفعل الهستيرية للكونغرس الأمريكي وحالة الهذيان التي طغت على الكونغرس في التفاعل مع الخطاب، كانت هي المؤشر الأكثر خطرا. فالكونغرس الأمريكي هو عصب نادي الوحوش العملاقة على المستوى الكوني ومصدر الخطر الحقيقي على شعوب العالم والقيم التي تحتكم اليها. لقد كان واضحا أن نتنياهو، ذهب الى الكونغرس الأمريكي ليعيد للمعادلة الصهيونية التاريخية رتابتها وزخمها، وليطالب بموقع لإسرائيل في خدمة مشاريع نادي الوحوش العملاقة التي تتحداها مقاومة الشعوب وطموحاتها وتعلن جاهزيتها للتمرد عليها...

ذهب نتنياهو ليعلن في قلب وكر الوحش: "نحن في خدمة عالم الوحوش العملاقة فأعطونا القوة لأننا نخوض حربكم لا حربنا وحدنا، تماما بنفس المنطق الذي خاطب به القائد الصهيوني المؤسس ماكس نوردو في العام 1919 برلمان الامبريالية البريطانية المتنفذة في حينه قائلا: "نحن نعرف ماذا تريدون منا، أنتم تريدوننا أن نحرس لكم قناة السويس، وطرق تجارتكم الى الهند، نحن جاهزون للقيام بهذه المهمة في حماية مصالحكم، اذا وفرتم لنا القوة والسلاح وجعلتونا قادرين".

لم يكن صدفة أن يقف قادة زمن الوحوش الامبريالية العملاقة بالحجيج الى إسرائيل ودعمها وإرسال أساطيلها وقطاراتها الجوية ومساعداتها العسكرية والمالية لدعم حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة ومدنييها، وعلى الشعب الفلسطيني بعد السابع من أكتوبر، فالمنظومة الامبريالية أعلنت انها لن تتسامح مع تمرد الشعوب على المنظومة الامبريالية ومحاولة الإفلات من قبضتها الخانقة وأدواتها الصهيونية والرجعية.



/لسنا نحن من يحرر فلسطين وانما فلسطين هي التي تحررنا



لم يكن صدفة أن تخرج مظاهرات الشباب والطلاب والجماهير الواعية لتغمر عواصم المراكز الامبريالية وجامعاتها وشوارعها، ضد "زيف العالم الحر" وزيف انسانيته وأن تواجه قمعها، وأن يتم ذلك في سياق التضامن مع الشعب الفلسطيني والاحتجاج على حرب الإبادة التي يتعرض لها. ولسان حالهم يقول: لسنا نحن من يحرر فلسطين بمظاهراتنا الصاخبة واعتصاماتنا العنيدة دعما لغزة وفلسطين، وانما فلسطين هي التي تحررنا من وهم "العالم الحر".. فهل يمكن للالتحام الشعبي مع معركة الشعب الفلسطيني التحررية بمقدوره أن يطلق عملية تحررية عالمية في زمن الوحوش العملاقة..



*من المداخلة التي قدمها عصام مخول في المؤتمر التاسع والعشرين لمعهد مواطن في جامعة بير زيت في 29-30 أكتوبر 2024)