نظام الإدارة العامة والموارد البشرية في القطاع العام.


فهمي الكتوت
الحوار المتمدن - العدد: 8171 - 2024 / 11 / 24 - 18:51
المحور: دراسات وابحاث قانونية     

اقدمت الحكومة الأردنية على احداث تغيرات واسعة في سياساتها المتعلقة بدور ديوان الخدمة المدنية وادارة الموارد البشرية في القطاع العام، فقد شكلت هيئة جديدة بأسم "هيئة الخدمة والإدارة العامَّة" لتحل مكان ديوان الخدمة المدنية اعتباراً من مطلع العام الحالي 2024؛ لتعمل كهيئة رقابيَّة تنظيميَّة تُعنى بتطوير السِّياسات والمعايير المتعلِّقة بالموارد البشريَّة ، كما اصدرت الحكومة نظام ادارة الموارد البشرية في القطاع العام في ايار الماضي متضمنا سياسات جديدة للتوظيف وشروط العمل والاشراف على الموارد البشرية.
استهل النظام الجديد خطته بالتأكيد على الامتثال المسبق للمؤسَّسات الحكوميَّة للتَّخطيط والتَّنفيذ والتَّعيين، وترسيخ نهج التَّطوير والتَّحديث في تقديم الخدمات الحكوميَّة للمواطنين، وتعزيز كفاءة وفاعليَّة إدارة الموارد البشريَّة في القطاع العام. ويهدف النِّظام إلى ترسيخ مبادئ الحوكمة والشَّفافيَّة وتكافؤ الفرص، وضمان توفير الدَّعم الفنِّي والاستشاري المتخصِّص للدَّوائر؛ بما في ذلك الاستقطاب والاختيار والتَّعيين وفقا لما ورد في نظام الموارد البشرية في القطاع العام.
لا أحد يختلف على أهمية الاهداف الاساسية المتعلقة بمعالجة الترهل الإداري والتضخم البيروقراطي والتصدي للبطالة المقنعة وإدارة الموارد البشرية بالشفاية والحوكمة، على أن لا تكون الاهداف المعلنة غطاءً لتمرير اهداف أخرى غير مرغوبة، فمن بين التعديلات التي وردت في النظام الجديد، اخطار حقيقية لا بد من التوقف عندها ومن ابرزها ما يلى:
اولا: الغاء ديوان الخدمة المدنية، وتخلي الدولة تدريجيا عن دورها في توفير فرص العمل للخريجين.
فقد نصت المادة -17 - أ - يتم التنافس على الوظائف الشاغرة المدرجة في جدول التشكيلات . وفقاً لما يلي:-
1- (55%) من خلال الإعلان و (45) من مخزون الخدمة المدنية لدى الهيئة لسنة 2024
2- - (%70) من خلال الإعلان و (30) من مخزون الخدمة المدنية لدى الهيئة لسنة 2025.
3- ( %80) من خلال الإعلان و (20) من مخزون الخدمة المدنية لدى الهيئة لسنة 2026.
4- (%100 ) من خلال الإعلان، اعتبارا من تاريخ صدور جدول التشكيلات لسنة 2027 .
ثانيا: يحظر على الموظف، وتحت طائلة المسؤولية التأديبية، العمل خارج أوقات الدوام الرسمي.
ثالثا : إلغاء مبدأ الإجازة المفتوحة دون راتب، ومنح الموظفين خارج المملكة مدة لا تزيد على سنتين لتسوية أوضاعهم إما بالاستقالة أو العودة للعمل في وظيفتهم السابقة.
رابعا: السماح للمرجع المختص بالتعيين؛ بإنهاء خدمة الموظف الخاضع لقانون الضمان الاجتماعي بناءً على طلبه أو دون طلبه إذا استكمل شروط الحصول على التقاعد المبكر.
خامساً: منع الموظفين العامين من المشاركة في المسيرات والمظاهرات والاعتصامات ذات الطابع السياسي والاجتماعي.
اثارت هذه التعديلات الجديدة على نظام الموارد البشرية والخدمة المدنية، مخاوف العاملين في القطاع العام. وأبدى مغتربون أردنيون حاصلون على إجازات دون راتب من وظائفهم الحكومية، قلقهم من النظام الجديد للموارد البشرية الذي وضع محددات جديدة للحصول على هذه الإجازات.
وكانت الإجازة دون راتب - قبل إقرار النظام الجديد - مفتوحة لموظفي الحكومة بحيث يستطيع الموظف الحصول على إجازة لأي مدة يريدها دون وجود تحديد لها.
تأتي هذه الإجراءات في اطار توجيهات صندوق النقد والبنك الدوليين، بتخلي الدولة عن دورها في توفير فرص عمل للمواطنين، وهي تعتبر الخطوة الثانية بعد سياسة التخاصية التي فرضت على البلاد بالتخلي عن مؤسسات الدولة لصالح الاحتكارات الرأسمالية.
تشكل هذه السياسات ارتدادا عن النهج الذي كان سائدا؛ باستمالة المواطنين في الوظيفة الحكومية على حساب توسيع المؤسسة البيروقراطية. بدلا من توفير فرص عمل من خلال مشاريع تنموية . فالسياسات التي تتبعها السلطة حاليا هي محاولة للتخلص من عبء الرواتب الذي اصبح يشكل ضغطا على السياسات المالية، فإن معالجة الخطأ لا يأتي بخطأ جديد، بتطفيش الموظفين او دفعهم نحو التقاعد المبكر من خلال الضمان الاجتماعي.
إن المكارم والهبات التي استُخدمت لاستمالة الفقراء وتكريس الولاء لم تكن وسيلة ناجعة لا، لحل مشكلة البطالة وتوفير فرص عمل للفقراء، ولا لتحقيق الولاء. حيث شهدنا في السنوات الاخيرة تقاطر المتعطلين يعتصمون امام الديوان الملكي للحصول على مكرمة، بسبب الإحباط والشعور بأن حكومات الدوار الرابع غير مؤهلة لحل مشاكلهم؛ وقد أصبحوا الآن يشكلون جيشا من العاطلين عن العمل.
ان قسما غير قليلا من الكادحين في بلادنا فتحو عيونهم على الدنيا ليجدوا اسلافهم يعملون بوظائف حكومية في الجهازين المدني والعسكري، في حين لم تعد هذه الفرص متاحة لهم منذ سنوات عدة، إذ أخذت بالتراجع خلال العقد الأخير. حيث توظف الدولة نحو 38% من مجموع المواطنين المشتغلين، وهي نسبة مرتفعة جدا إذا ما قورنت بنسب تشغيل القطاع العام في الدول المتقدمة التي لا تتجاوز 10% من إجمالي المشتغلين ، وسبب ارتفاع هذه النسبة هو غياب المشاريع التنموية المولدة لفرص العمل.
إن توفير العمل للمواطنين حق كفله الدستور، وإن أي تفكير بخفض عدد موظفي الدولة من خلال تسريح الموظفين وإلقائهم في سوق البطالة مرفوض من حيث المبدأ، وإن من يتحمل تضخم الجهاز الإداري؛ السياسات الرسمية التي أوصلت البلاد إلى الأزمات المركبة، والتي اعتقدت أن التوظيف وسيلة لكسب الولاء، فهي تعاني الآن من الفشل الذريع. لتكتشف أن هذه السياسات انفجرت في وجهها. لم تُعالَج مشكلة البطالة بتضخم جهاز الدولة، بل بالتنمية الاقتصادية، فقد اصبحت فاتورة الرواتب والتقاعد في الدولة تشكل نحو 64% من النفقات الجارية، وان عدد العاطلين عن العمل اكثر من موظفي الدولة.
* اما منع الموظف، وتحت طائلة المسؤولية التأديبية، العمل خارج أوقات الدوام الرسمي.
ينطبق عليه المثل الشعبي (صحيح لا تقسم ومقسوم لا تاكل) مؤسسات الدولة لا توفر رواتب تناسب الحد الأدني من العيش الكريم للموظف، وتحرمه من العمل خارج الدوام.
تأتي هذه الاجراءات في ظل ارتفاع الأسعار المدفوع بالضرائب غير المباشرة مثل ضريبة المبيعات والضرائب الخاصة على المحروقات، وجشع كبار التجار في ظل سياسات تحرير الاسواق، علما ان من يلجأ الى العمل الأضافي هم اصحاب الرواتب المتدنية، فالهدف من هذه الإجراءات التعسفية هي محاولة لدفع بعض الموظفين مغادرة الوظيفة الحكومية للتخلص منهم.
* سؤال اخر ما معنى الغاء الاجازة بدون راتب؟ !
هل إرغام الموظفين المغتربين تقديم استقالاتهم من الوظيفة الحكومية. أم دفعهم الى ترك العمل في الخارج. خيارات صعبة امام المغتربين، تشكل ضررا فادحا للموظفين واسرهم وللاقتصاد الوطني. إن حوالات المغتربين تسهم في تخفيف حدة الفقرفي البلاد، وإنعاش النشاط الاقتصادي وسوق العقارات، فالتعديلات الجديدة؛ تؤثر سلبا على الموظفين واسرهم وعلى احتياطي البلاد من العملات الاجنبية، وعلى ميزان المدفوعات الذي يعاني من عجز مزمن، يقدر بنحو 1.250 مليار دينار.
* أما السماح للمرجع المختص بالتعيين؛ بإنهاء خدمة الموظف الخاضع لقانون الضمان الاجتماعي بناءً على طلبه أو دون طلبه إذا استكمل شروط الحصول على التقاعد المبكر اجراء غير قانوني. عدا عن الاخطار التي تلحق في صندوق الضمان الاجتماعي حسب الدراسات الإكتوارية. وقد حذر خبير التأمينات والمستشار السابق لمؤسسة الضمان الاجتماعي موسى الصبيحي من ارتفاع نسبة التقاعد المبكر وأن أكثر 170 ألف شخص يندرجون تحت مظلة التقاعد المبكر، جزءا كبيرا منهم من القطاع العام. وعدم استنزاف اموال صندوق الضمان بدفع الموظفين نحو التقاعد المبكر.
* يبقى البند الاخير المتعلق باستخدام الوظيفة الحكومية كسيف مسلط على رقاب الموظفين ومنعهم من التعبيرعن أرائهم وممارسة حقهم بالعمل السياسي والوطني والمشاركة بالمسيرات؛ ان هذا النص يحرم المواطن الأردني ابسط حقوقه في التعبير والمشاركة بالنشاط السياسي الذي كفله الدستورالأردني، ويعتبر اعتداءً صارخا على الحريات العامة.
الحضور الكريم
ان معالجة الاختلالات المالية بعيدا عن قطع ارزاق المواطنين، بطرح مشروع تنموي حقيقي وإستثمار موارد البلاد، وضبط الأسعار المنفلتة، وقطع دابر الفساد، وعدم الإستجابة لإملاءات صندوق النقد والبنك الدوليين، واعادة هيكلة رواتب كبار الموظفين، بوضع هامش بين الحد الأدنى والأعلى لا يتجاوز ثمانية اضعاف، ومساواة موظفي الهيئات المستقلة بزملائهم، وخفض النفقات الحكومية غير المبررة.
جاءت هذه السياسات بعد حرمان موظفي الدولة من تشكيل نقاباتهم، وعدم الاعتراف في النقابات المستقلة وإضعاف الحركة النقابية العمالية التي لم تعد مؤهلة للدفاع عن حق العمال، عبر سلسلة من الإجراءات الإدارية والأمنية، وفرض قيادات لا تتمتع بثقة العمال، وإضعاف الأحزاب السياسية اليسارية التي فقدت التأثير في الحركة العمالية.
ان دور الدولة ليس مجرد تنظيما مستقلا ومحايدا تجاه الفئات والطبقات الاجتماعية، بل هو تعبيرعن مصالح طبقية محددة، فالدولة توظف امكانياتها غير المحدودة لإنشاء منظومة سياسية وثقافية وقانونية خدمة لمصالح الطبقات المهيمنة داخل المجتمع. ليس من قبيل الصدفة اتساع الفجوة الطبقية في البلاد فالقوانين السائدة اتاحت الفرصة امام الاثرياء لتحقيق ثرائهم، فالعلاقة جدلية بين السياسة والاقتصاد فالسلطة السياسية تعكس مصالح الفئات العليا في المجتمع، من خلال التشريعات والانظمة التي تفرضها على العامة، كما يتولى رجال المال ايصال ممثليهم للسلطة، وقد انعكس هذا بشكل ملموس.
لقد صعدت طبقة جديدة من السماسرة ووكلاء الشركات الأجنبية من الفئات الطفيلية، الذين استغلوا مواقعهم لتحقيق أهداف غير مشروعة، محققين ثراءً فاحشاً نتيجة الدخول في صفقات الخصخصة المريبة التي عرَّضت الاقتصاد الوطني لأفدح الخسائر وأفقدته القدرة على مواجهة التحديات والضغوط الخارجية نتيجة التوسع في الانفاق الجاري، والفساد المالي والإداري الذي استفحل في غياب الشفافية والديمقراطية؛ راكمت فئات اجتماعية ثروات هائلة (لم تتعرض للمساءلة او المحاسبة) بسبب ارتباطها بمصالح الاحتكارات الاجنبية متعددة الجنسيات، فقد كشفت منظمة "أوكسفام"، عن أرقام صادمة بخصوص الفوارق الطبقية في الأردن، إن أغنى شخصين في الأردن يمتلكان ثروة تفوق ما يملكه أربعة ملايين مواطن، وإن 990 مليونير في الأردن يملكون 5 ملايين دولار أو أكثر، ضمن ثروة تقدر بـ20.3 مليار دولار". بالمقابل ارتفعت معدلات الفقر والبطالة.
فمن المعروف ان الاحتكارات الرأسمالية تقوم بالاستيلاء على السلطة من خلال ماكينة الانتخابات المبرمجة، وتشكيل الرأي العام عبر وسائل الإعلام للدفاع عن مصالحها الطبقية، كما تقوم في بلادنا تعزيز دور الكمبرادور و "رأس المال المالي" وتفريخ المنتفعين والطفيليين لتوسيع قاعدتها الاجتماعية، وما تجربة الانتخابات الاخيرة الا فضيحة مكشوفة بانشاء احزاب سياسية كمحاولة لتقليد النمط الرأسمالي، بدليل اجماع هذه الاحزاب على مرشح السلطة في رئاسة مجلس النواب، وانحسار اصوات مرشح الحركة الاسلامية في كتلته النيابية، وعدم وجود مرشح ثالث يعبر عن رأي هذه الاحزاب. يجب أن لا يغيب عن أذهانا دور الفئات النافذة في تسخير مؤسسات الدولة وأجهزتها لتعزيز مصالحها الطبقية.