راهنية أفكار ماركس.. الرأسمالية تحمل بذور أزماتها
فهمي الكتوت
الحوار المتمدن
-
العدد: 6557 - 2020 / 5 / 7 - 02:22
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
تأتي الذكرى السنوية لميلاد الفيلسوف والمفكر الثوري كارل ماركس في الخامس من آيار؛ مع دخول المراكز الرأسمالية باخطر أزمة بتاريخها، فإذا كانت أزمة ثلاثينات القرن الماضي توصف بالكساد الكبير، فإن الأزمة الحالية 2020 وصفت بالكساد الأعظم من قبل "نورييل روبيني" أحد أهم الاقتصاديين البرجوازيين الذي تنبأ منذ عام 2006 بوقوع الأزمة المالية والإقتصادية التي انفجرت في ايلول 2008، مؤكدا أن "الركود الأعظم حتى لو تعاف على شكل حرف "U" (بالارتداد للصعود بعد دوام الهبوط لفترة وجيزة) هذا العام، فسيتبعه مع الأسف كساد أعظم على شكل حرف "L" (كساد حاد وممتد) في وقت لاحق من العقد الحالي" .
لقد اكد ماركس في مؤلفه الشهير (رأس المال) ان الرأسمالية تتعرض لازمات دورية ومتعاقبة مشبها أزمتها الدورية بالأجرام السماوية التي ما ان تأخذ حركة التوسع والتقلص التناوبية حتى تتجدد بشكل متواصل. وان النتائج تصبح بدورها أسبابا، ومراحل العملية المتعاقبة هذه تجدد باستمرار شروطها الخاصة وتأخذ شكلا دوريا، موضحا ان مراحل الأزمة (الركود، الانتعاش، النهوض)، وما الأزمة المالية والرأسمالية لسنة 2008 والأزمة الحالية إلا دليل ساطع على راهنية افكار ماركس، فقد كشفت بوضوح صحة هذا التحليل الذي حافظ على جوهره، فلم يشهد العالم مفكرًا عاصر ماركس وما زال يحظى باهتمام كالذي يحظى به ماركس في أيامنا.
لقد استفادت الرأسمالية من انهيار التجربة السوفيتية، واعتبرتها انتصار للرأسمالية، وبدأت الابواق المحافظة تنشر تقاريرها المتفائلة بإنتهاء مرحلة الإنكماش الإقتصادي، مؤكدة أن نظرية ماركس قد عفا عليها الزمن. لقد صدعوا رؤوسنا بأفكارهم؛ حول دولة الرفاه الاجتماعي، قبل العودة الى السياسات النيوليبرالية وتعميمها على الدول النامية وفي عدادها الأردن، في حين صُدم العالم بعجز هذه السياسات في مواجهة جائحة كورونا، والموقف الفاضح في اعطاء الأولوية لمصالح الإحتكارات الرأسمالية على حساب البعد الإنساني، محاولة من الدول الرأسمالية تجنب الدخول في الأزمة الإقتصادية، ومع ذلك دخل الإقتصاد العالمي في أزمة عميقة سيدفع ثمنها عشرات الملايين من العمال والفقراء عامة، فالمعلومات الأولية تشير ان الولايات المتحدة وحدها ستفقد اكثر من 20 مليون وظيفة. لقد كشفت الأزمات الجديدة زيف إدعاءت الرأسمالية.
صحيح ان الرأسمالية نجحت بالتكيف خلال القرن الماضي، إلا ان ذلك لا يعني بحال من الأحوال ان الرأسمالية انتصرت، او هي نهاية التاريخ . فالرأسمالية تحمل في طياتها أسباب ازماتها، لقد قدم ماركس نظريته حول نقد الرأسمالية في أواسط القرن التاسع عشر في مرحلة تاريخية معينة من تطورها، والظواهر التي درسها ماركس في حياته هي في تحول مستمر، بفضل الانجازات التي حققتها البشرية في مجال العلوم والتكنولوجيا والتي كشفت عن مظاهر جديدة للنظام الرأسمالي، والتي اعتبرت في مرحلة سابقة بمثابة انقلاب على المفاهيم الكلاسيكية ، لكن ذلك لم يغير في جوهرها القائم على الإستغلال، وكان أبرزها مواجهة الأزمات الاقتصادية التي شهدها النظام الرأسمالي في بداية القرن العشرين خلال أعوام 1929_1933 والتي كادت تعصف في معظم الدول الصناعية، ما حدا بمفكري البرجوازية في التدخل لإنقاذ النظام الرأسمالي من الانهيار. حيث برزت الفلســفة الإقتصادية الكنزية كبديل للفكر الكلاسيكي ومحاولة لإنقاذ الرأسمالية، بتدخل الدولة في مختلف الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية، متخلية عن محرمات الفكر الرأسمالي الكلاسيكي ومن ابرز خطواتها إنشاء اقتصاد مختلط من القطاعين العام والخاص وتأميم قطاعات اقتصادية رئيسية، وزيادة الإنفاق الحكومي لتخفيض معدلات البطالة، وإنشاء منظومة من التشريعات والمؤسسات في مجــال التأمينات الإجتماعية والصحية للعمال. قبل ان تنتصر السياسات النيوليبرالية في ثمانينات القرن الماضي التي أوصلت الإقتصاد العالمي الى الأزمة المالية والاقتصادية التي انفجرت في ايلول 2008 بعد انهيار أحد اكبر البنوك العالمية "ليمان برذرز" الذي قدرت قيمته بحوالي 209 مليار دولار. وتعرض شركات عملاقة في الولايات المتحدة الأمريكية لازمات حادة وصل بعضها الى حد الإفلاس، فقد شهدت أميركا إفلاس عشرات الشركات المالية الضخمة، وانتشار الأزمة المالية لتضرب اسواق المال في المراكز الرأسمالية كافة بعد ان سادت حالة من الذعر والفوضى في البورصات العالمية، التي هوت بسرعة مذهلة، وانتقال الأزمة الي صلب الاقتصادات الرأسمالية .
قد لفشلت برامج الإنقاذ الاستثنائية التي اتبعتها المراكز الرأسمالية لإخراج اقتصاداتها من الازمة. خاصة بعد ظهور أزمة العجوزات المالية في موازنات البلدان الرأسمالية، فإذا كانت سياسة ضخ الأموال أسهمت في إنقاذ بعض الشركات العملاقة من الانهيار لكنها لم تفلح في شفاء اقتصاد مسكون في الأزمة. وفشلت المحاولات المتكررة في الخروج من حالة الركود الاقتصادي، بعد تحميل الطبقة العاملة وشعوب البلدان النامية، اعباء الأزمة، فقد تعرضت الطبقة العاملة والفقراء المهمشين لإجراءات تقشفية واسعة، تمثلت بزيادة الضرائب وتخفيض الرواتب والهجوم على المكاسب الصحية والاجتماعية، والتي أدت إلى زيادة معدلات التضخم وتفاقم مشكلة البطالة، واتساع دائرة الفقر، ان ظاهرة الركود التضخمي التي رافقت الأزمات الرأسمالية الاخيرة دفعت بالنظام الرأسمالي من أزمة الى أزمة، فان معظم الدول الرأسمالية دخلت الأزمة الجديدة قبل ان تشف من الأزمة الإقتصادية التي انفجرت في عام 2008، بل اكثر من ذلك أن الإجراءات التي اتخذت لمواجهة الأزمة أصبحت اسبابا لوقوع الأزمة الجديدة.
ان الأزمة المالية والاقتصادية خلقت وقائع جديدة على الأرض، أهمها تراجع دور الولايات المتحدة الأمريكية وفقدانها لدورها الأوحد في العالم وفرض شروطها على شعوب الارض، فقد حان الوقت لطرح ملفات جديدة على طاولة المفاوضات، بإعادة صياغة السياسات النقدية وطرح سياسات جديدة تنهي الدور المتميز للدولار الأمريكي ، والملف السياسي بإعادة تكوين مجلس الأمن وإدخال دول جديدة للعضوية الدائمة وإنهاء هيمنة أميركا على الأمم المتحدة والمنظمات المنبثقة عنها . وإجراء تعديلات على دور وعمل المؤسسات الدولية من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية، بما يخدم تحقيق تنمية اقتصادية شاملة في البلدان النامية ، وإعادة النظر بالديون على البلدان الفقيرة التي ورثتها من السياسة الليبرالية التي فرضتها أميركا .
أنّ التطورات العالمية التي شهدها القرن الحادي والعشرين، من ثورة تكنولوجيا المعلومات، وانفتاح عالمي غير مسبوق، وتطورات اقتصادية لافتة في البلدان النامية وفي مقدمتها الصين والهند، وتمكن هذه الدول من اختراق الجدار الرأسمالي الذي كان يشكل سدًا منيعًا في وجه الدول النامية، في ظل التقسيم الدولي للعمل الذي كان سائدًا، بالإبقاء على هذه الدول في القارات الثلاث آسيا وافريقيا وأمريكا اللاتينية دول مستهلكة. ليس هذا وحسب بل تشكلت مراكز اقتصادية هامة مثل مجموعة دول بركس ومجموعة دول شنغهاي وافتتاح مشروع طريق الحرير الذي يعرف باسم "الحزام والطريق"، بهدف ربط الصين بالقارة الأوروبية، ليكون أكبر مشروع بنية تحتية في تاريخ البشرية، ويشمل ذلك بناء مرافئ وطرقات وسككا حديدية ومناطق صناعية. وتشارك فيه 123 دولة، تريد الصين من خلاله تسريع وصول منتجاتها إلى الأسواق العالمية، بما في ذلك آسيا وأوروبا وأفريقيا وأميركا الجنوبية والوسطى.
ان هذه المعطيات فتحت الباب على مصراعيه أمام الصين وحلفائها بمنافسة المراكز الرأسمالية، مستفيدة من إزالة الحواجز الجمركية لتسهيل انسياب السلع بين دول العالم كافة، التي شرعتها منظمة التجارة العالمية لصالح المراكز الرأسمالية وأصبحت عبئا عليها، الأمر الذي شكل ضربة قاصمة للاقتصاد الأميركي واضطره العودة الى السياسة الحمائية والدخول في الحروب التجارية، التي اسهمت بتعميق الأزمة الرأسمالية. وقد جاء قرار الصين الأخير باعتبار اليوان عملة دولية ضمن سلة العملات الرئيسية، واصدار عملة رقمية لليوان لاغراض التجارة الدولية والتخلي عن الدولار في التبادل التجاري، ليشكل ضربة جديدة للأقتصاد الأميركي ويحد من تأثير الدولار على الإقتصاد العالمي.