مرة اخرى، حول موقف منصور حكمت من تعدد الاقطاب العالمية!

لقد قررتُ العودة الى هذا الموضوع لان له راهنية ونشهد تطورات مثيرة في هذا المسار. لم يعد اليوم، وخاصة مع صعود الصين و منظمة "بريكس" والتقارب الروسي-الصيني من الصعب ملاحظة مسار بروز عالم متعدد الاقطاب، ولكن منصور حكمت تحدث عن عدم رسوخ عالم احادي القطب وحتمية بروز عالم متعدد الاقطاب في وقت كان القطب الغربي بقيادة امريكا يبدو مطلق القوة، وفي وقت اعلنت البرجوازية الغربية ومفكريها نهاية التاريخ بسيادة الرأسمالية على العالم ونهاية الصراع الطبقي وتفوق الليبرالية الغربية على نماذج الحكم البرجوازية الاخرى، بعد انهيار القطب الشرقي بقيادة الاتحاد السوفيتي. اعتقد منصور حكمت بأن عالم احادي القطب الذي سمي ب"النظام العالمي الجديد، او النظام الدولي القائم على القواعد" لم ولن يترسخ وان حرب الخليج ضد العراق، والحروب والتدخلات التي تلت، لم تكن الا محاولة من قبل الغرب لحماية وحدته ومحاولة من قبل امريكا للإبقاء على قيادتها لهذا القطب، بعد زوال اسباب بقاء هذا القطب موحد. قلة من اتفق مع منصور حكمت عندما عبر عن آرائه حول حتمية بروز عالم متعدد الاقطاب وتفاهة الادعاءات حول الديمقراطية ولكن أثبتت الاحداث هذه الايام بسرعة مذهلة وبشكل لا لبس فيه عبقرية رؤية منصور حكمت بصدد مسارات النظام الرأسمالي وتهافت الادعاءات حول " الديمقراطية" البرجوازية.

ان مسألة عدم قبول هيمنة عالم القطب الواحد لم تكن مع القطب المنهار، اي القطب الشرقي بقيادة الاتحاد السوفيتي، قطب رأسمالية الدول، بل مع اقطاب جديدة على شكل دول او تكتلات او تحالفات دولية تشهد نموا اقتصاديا وتكنلوجيا يفوق الغرب مما يعزز مكانتها عالميا. فالقطب الشرقي كان لابد له ان يتماهى وحتى الاندماج مع القطب المنتصر، كما ان مع زوال عالم ثنائي الاقطاب قد أزال السبب لبقاء القطب الغربي موحدا. لقد تمكنت امريكا من منع تفكك القطب الغربي لمدة تزيد من ثلاثة عقود، ولكن تبقى وحدة هذا القطب هشة للغاية ولاتزال اوروبا او على الاقل بعض الدول الاوربية تبحث عن مكانة لها في المعادلات الجديدة.
ان دقة منصور حكمت واستعداده للإدلاء بهذه الآراء عكس التيار وفي وجه كل الماكنة الدعائية للبرجوازية العالمية تأتي من نظرته المادية والدياليكتيكية للتاريخ وحركة المجتمع الانساني. ان التصريحات والافكار التي يطلقها مفكرو ومناصرو الطبقة الحاكمة نابعة من مواقف ايدلوجية و سياسية وعاطفية اكثر من كونها نابعة من تحليل علمي للأحداث وحركة المجتمع.
لقد وضح كارل ماركس بان احدى مشاكل النظام الاقتصادي الرأسمالي هي النمو غير المتكافئ. وقد بين كل تاريخ الرأسمالية بانها لا تنمو بشكل متكافئ. اذ بدأت الرأسمالية في بريطانيا وانتقلت منها الى قارة اوروبا ومن ثم الى المستعمرات مثل امريكا الشمالية واستراليا والى دول اخرى مثل اليابان وبعدها الى كل زاوية من زوايا العالم. وقد كانت
بريطانيا هي المركز والامبراطورية البرجوازية وبعدها برزت مراكز رأسمالية مهمة مثل المانيا واليابان ودول اوربية اخرى ولكن بعد الحرب العالمية الثانية اصبحت امريكا اهم مركز رأسمالي مع مراكز رأسمالية اصغر في حين ان بريطانيا اليوم لا تتعدى جزيرة رطبة صغيرة تشهد تراجع مكانتها بشكل مستمر. ان النمو الرأسمالي غير المتكافئ يحدث داخل البلدان وبين البلدان المختلفة. ففي امريكا مناطق مثل ماساتشوستس المعروفة بصناعات النسيج، وبنسلفانيا المعروفة بصناعة الفولاذ والزجاج، وديترويت المعروفة بصناعة السيارات وغيرها تهجرها الصناعة الرأسمالية وتحولها الى مناطق مهجورة لتنتقل الى مناطق اخرى داخل امريكا وخارجها. فالنمو غير المتكافئ يحدث بين الدول ايضا ولذلك على مر تاريخ الرأسمالية نشهد صعود مراكز وامبراطوريات جديدة وافول اخرى. اليوم نشهد صعود مراكز جديدة مثل كوريا الجنوبية، والصين والبرازيل وروسيا وغيرها. ان روسيا الصاعدة اليوم هي ليست ممثلة للقطب الشرقي رغم انها تستمر في بعض سياسات الاتحاد السوفيتي الخارجية مثل الوقوف ضد التدخلات الغربية في الدول الاخرى ودعم استقلال الدول الضعيفة الخ. من جهة اخرى بين لينين بان احدى مزايا الامبريالية كأعلى مراحل نمو الرأسمالية هو تصدير الرأسمال وتقسيم او اعادة تقسيم العالم الى مراكز نفود للقوى العظمى. ان صعود الصين اقتصاديا يتطلب ان يكون لها مناطق يمكن لها ان تستثمر رساميلها فيها.
ان نقطة التحول الاساسية في عالم اليوم هو صعود الصين كقطب اقتصادي وبالتالي سياسي وعسكري والتقارب الصيني الروسي. ان الصين بالذات تضع بديل امام الكثير من الدول مقابل القطب الغربي، لعدة اسباب اهما ان اغلب الدول لها مصالح اقتصادية مع الصين كدولة كبيرة من الناحية السكانية وتشهد نمو اقتصادي قوي اكثر مما لها مع الغرب، ويعتبر تبني النموذج الاقتصادي للصين اكثر جاذبية لتلك الدول وهو نموذج يضمن نمو اقتصادي كبير وغياب الحريات السياسية الموجودة في الغرب. فرأسمالية هذا العصر تحتاج الى ايدي عاملة مقموعة ورخيصة. كما ان الصين التي وجدت بان سياسات التنمر، والتهديد والاخضاع وخلق التوتر والخلافات وعدم الاستقرار التي يمارسها الغرب بقيادة امريكا ضد الدول الفقيرة والضعيفة مثل منطقة الشرق الاوسط، لم تجلب لها الا الكراهية والحاجة الى انفاق عسكري هائل، تلجأ الى سياسة مختلفة تروج لعدم التدخل في شؤون الدول الاخرى، عدم السعي لإبقاء الدول الاخرى متأخرة، التركيز على المصالح الاقتصادية المشتركة، والاستثمارات التي تخدم المصالح المتبادلة. وتسعى الصين حتى الى عدم احلال عملتها، اليوان مكان الدولار بل تشجيع استعمال العملات الوطنية في تسوية التعاملات.
من جهة اخرى، تشعر كل من الصين وروسيا بان الغرب هو خطر وجودي لهما. فالغرب يصرح بشكل علني عن نيته تمزيق روسيا والصين الى دويلات صغيرة يمكن التحكم بها. لذا فان التقارب والتعاون بين الصين وروسيا لم يعد خيار بل هو امر حياتي، لذا وصلت العلاقات بينهما الى ما يصفه الطرفان " بأكثر من تحالف استراتيجي". ان السبب الاساسي لفشل الحملة الغربية ضد روسيا وخاصة الحصار الاقتصادي الذي شمل اربعة عشر حزمة من الاجراءات والعقوبات هو وقوف الصين بجانبها، والى درجة اقل دول اخرى مثل الهند الى جانب روسيا. فبدلا من انهيار الاقتصاد الروسي، يشهد نموا كبيرا وبدلا من تحول العملة الروسية، الروبل الى خراب كما وعد الرئيس الامريكي جو بايدن، هي مستقرة بدرجة كبيرة. وقد تمكنت الصين والى حد اقل دول اخرى من التعويض عن البضائع الغربية التي كانت تصدر الى روسيا، لذا لم يحدث تضخم كبير في اسعارها. ان دفاع الصين عن روسيا هو دفاع عن نفسها. يسعى الطرفان الى تمتين وتقوية التحالفات الاقتصادية والسياسية بينهما. لقد رافق بوتين في الزيارة الاخيرة التي قام بها الى بكين اواسط شهر ايار 2024 تقريبا كل الحكومة الروسية بما فيا وزير الدفاع ووزير المالية ومديرة البنك المركزي، اضافة إلى قادة اهم الصناعات في روسيا. لقد كان الهدف اقامة علاقة عميقة بين الطبقتين الحاكمة في البلدين على كل المستويات وفي كل الميادين تستمر حتى عندما لايبقى بوتين وشي في الحكم. لقد وصلت العلاقة بين الصين وروسيا مرحلة يجعل محاولات الغرب الفصل بين الدوليتين عقيمة.
كما هو متوقع، يصارع القطب الغربي ضد خسارته للمكانة التي تمتع بها في اخر عقدين، في حين ان القطب الصاعد وخاصة الصين يروج بان بإمكان الجميع التعاون والتنافس بشكل سلمي دون اللجوء الى العنف. تعد هذه المرحلة مرحلة خطرة جدا. اذ هناك خطر جدي، ان يتسبب الغرب في حروب تكون لها عواقب وخيمة على البشرية. كما ان هذه الفترة هي مثيرة اذ تشهد تغيرات كبيرة ومتسارعة، فالركود السياسي ليس سمة من سماتها. كما تفتح الابواب امام تغيرات ثورية كبيرة في المجتمع البشري. تعتبر هذ الفترة رغم خطورتها، فترة إيجابية من وجهة نظر القوى التقدمية، اذا ان الخلافات داخل صفوف البرجوازية العالمية تفتح افاق جديدة امام الحركات الشيوعية والاشتراكية لدخول الميدان. يجب على الشيوعيين في العراق النظر الى هذه الفترة من هذا الفهم.