رأسمالية السوق الحر تسلك نفس مسار رأسمالية الدولة!.
توما حميد
الحوار المتمدن
-
العدد: 7942 - 2024 / 4 / 9 - 17:27
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
في الوهلة الاولى قد تبدو الحادثة التي وقعت في 26 اذار 2024، عندما اصطدمت سفينة حاويات تسمى "دالي" بأحد ركائز جسر " فرانسيس سكوت كي" في مدينة بالتيمور بولاية ماريلاند الامريكية وتسببت في انهيار الجسر حادثة عادية. ولكن في الحقيقة هذه الحادثة هي احدى تجليات تناقضات ومشاكل معقدة ومركبة ودرجة عالية من الفساد وعدم الكفاءة في كل النظام الرأسمالي الليبرالي. وتشبه هذه المشاكل والتناقضات الى حد كبير المشاكل والتناقضات التي واجهت نظام رأسمالية الدولة في القطب الشرقي في السنوات الاخيرة من عمره.
منذ بداية الشحن البحري كوسيلة للتجارة ونقل البضائع اي خلال سبعة عقود، ازداد حجم التجارة العالمية بشكل كبير جدا وخاصة منذ تبني العولمة الرأسمالية وازداد عدد سفن الشحن بشكل كبير وكمعدل ازدادت سعة شحن السفن بمقدار 2900%، حيث تلعب السفن الضخمة دورا حاسما في التجارة العالمية. في حين ان الكثير من مرافق البنية التحتية لم تشهد تعديلات وتحسينات تجعلها مجهزة للتعامل مع السفن الضخمة التي تستخدم اليوم. فجسر بالتيمور الذي لبى معايير التصميم والسلامة التنظيمية عندما شيد في 1977 لم يكن له اي امل للصمود امام سفينة "دالي" في وقت ان احتمال مثل هذه الحوادث هو ليس قليل اذ تم نقل حوالي 52.3 مليون طن من الحمولة عبر ميناء بالتيمور في 2023 والتي تعني عبورها من تحت هذا الجسر.
كل الجسور التي شيدت منذ التسعينات لها مواصفات تهيئها بان تصمد بشكل افضل امام الحوادث مثل حادثة سفينة "دالي". وبعد حادثة مماثلة في الثمانينيات من القرن الماضي كان من المقرر ان تزود كل الجسورالقديمة في امريكا بدعامات تحميها من السفن ولكن هذا لم يحدث لجسر" فرانسيس كي سكوت" والالاف الجسور الاخرى.
نفس الشي ينطبق على كثير من مرافق البنية التحتية. فماء عشرات المدن الامريكية ملوث بما فيها بمعادن ثقيلة مثل الرصاص الذي له تأثيرات قاتلة على الانسان مثل جاكسن مسيسيبي، فلنت -مشيغن، نيوارك-نيوجيرزي، بيتسبيرغ -بينسيلفانيا، لاس فيغاس-نيفادة، بالتيمور- ماريلاند والكثير غيرها. وهذا ينطبق على الكثير من مرافق البنية التحتية الاخرى التي اغلبها شيدت في عهد الرئيس فرانكلن روزفيلت الذي حكم بين 1933 -1945 ولم يتم صيانتها بشكل جيد. فشبكات الطاقة وشبكة الميترو وشبكات الصرف الصحي، والمرافق الصحية وحتى الطرق السريعة وغيرها من البنية التحتية لا يتم صيانتها بشكل جيد.
ان عمر 42% من جسور امريكا التي يبلغ عددها حوالي 617 الف جسر، خمسون سنة او اكثر وحوالي 46154 جسر اي 7.5% من الجسور الامريكية تعاني من قصور هيكلية في وقت تمر 178 مليون رحلة يوميا عبر هذه الجسور المعيبة. يحتاج اصلاح الجسور التي تعاني من عيوب هيكلية حوالي 125 مليار دولار. يتم صرف 14.4 مليار دولار على صيانة كل الجسور في امريكا سنويا في حين ان صيانتها بحاجة الى اضعاف هذا المبلغ. رغم المخاطر التي تنم عن استخدام هذه الجسور، ليس هناك اي دليل بان تقوم السلطات بتخصيص المبالغ اللازمة لإصلاحها في وقت تنفق مئات المليارات على حرب اوكرانيا وفي وقت الذي يتم صرف 900 مليار الى ترليون دولار سنويا على الانفاق العسكري ومئات القواعد العسكرية حول العالم.
لا تنفق السلطات الامريكية الاموال اللازمة على البنية التحتية لعدم توفر الأموال. فمن جهة لا يمكن للطبقة السياسية من زيادة الضرائب على الطبقة العاملة لان ليس بوسع الطبقة العاملة تحمل المزيد من الاعباء وخاصة ان الطبقة العاملة هي من تمثل اغلبية الناخبين، من جهة اخرى ليس بإمكان السياسيين زيادة الضرائب على الرأسماليين لان هؤلاء هم من يملك كل النظام السياسي ويمول الحملات الانتخابية. ولهذا اما أن تقوم الحكومة بتمويل اعمالها عن طريق الدين او اهمال ما يمكن اهماله والذي ليس له عواقب انية.
من جهة اخرى كشف فحص روتيني على سفينة " دالي" في حزيران من العام الماضي في دولة تشيلي عن وجود مشكلة في " انظمة الدفع واجزة قياس الحرارة والآلات المساعدة" للسفينة من الخطورة تكفي لإخراج السفينة من الخدمة. كما عانت السفينة قبل ايام من الحادثة من مشكلة كهربائية خطيرة اثناء رسوها في ميناء بالتيمور ويعتقد بانها هي نفس المشكلة التي تسببت في الحادثة اذ فقدت السفينة الطاقة والقدرة على الدفع مما تسبب في ارتطامها بالجسر.
كما تبين بان شركة الشحن الدنماركية، "ميرسك" التي استأجرت " دالي" تمنع العمال من اخبار السلطات والحرس البحري عن مخاوفهم المتعلقة بالسلامة قبل اخبار سلطات ميرسك نفسها. اذا قبل 8 اشهر عقبت ميرسك على طرد عامل اخبر السطات عن تسربات في السفينة التي كان يعمل على متنها، و ظروف عمل خطرة، وتعاطي الكحول بشكل غير قانوني، و كون قوارب الطوارئ او النجاة غير صالحة للعمل و عطلات في معدات اطفاء الحريق وغيرها. وقد امرت الشركة على اعادة هذا العامل الى عمله ودفع تعويض له. ان عدم صرف شركات الشحن البحري على صيانة السفن، توظيف اقل عدد من الطاقم لإدارة السفن، توظيف طواقم من دول مثل الهند والفلبين وبنكلادش وغيرها دون تدريب كافي ليس مقتصر على ميرسك بل معظم شركات الشحن البحري التي يحركها دافع الربح وتتمكن من التحايل على القوانين المنظمة لهذه الصناعة بسبب الفساد المستشري.
ان الفساد يمتد الى صناعة المواد الغذائية، فمعدلات السمنة في امريكا هي الاعلى في الدول المتقدمة، والى القطاع الصحي، اذ تعتبر المصاريف الصحية اكبر سبب لتعرض الامريكيين الى الافلاس، والى محاربة الجريمة والعنف الخ.
ان نوعية ومقدار البروبغاندا وغسيل الدماغ التي يتعرض لها المواطن الامريكي تشبه بشكل كبير البروبغندا في الاتحاد السوفيتي وغيره من الدول. ان مقدار الكذب ضد الدول التي تعتبرها امريكا معادية مثل الصين وروسيا وكوبا وحتى كوريا الشمالية ولتبرير السياسات الخارجية الأمريكية والحروب والتدخلات العسكرية هو خرافي. اذ يقوم هذا الاعلام بدون خجل مثلا بتبرير او التستر على الابادة الجماعية في غزة واسقاط عشرات الالاف من القنابل من خلال برامج الطائرات بدون طيار في عشرات الدول والتي تستهدف المدنيين في 90% من الحالات. يجب الاشارة ان ستة شركات عملاقة تتحكم بالإعلام في امريكا وهي كلها تعمل بتنسيق يشبه طريقة عمل اعلام الاتحاد السوفيتي.
وهناك حملة شعواء لقمع الاصوات المعارضة من خلق أر تي وبقية وسائل الاعلام الممولة من روسيا، الى محاولات منع التيك توك، الى زج جوليان اسانج وتشلسي مانينغ في السجن، الى قتل غنزالو ليرا وهو مواطن امريكي في سجون اوكرانيا الى حرمان مئات ان لم يكن الالاف من النشطاء من التعبير عن آرائهم في الاعلام الرسمي وحرمانهم من منصات وسائل التواصل الاجتماعي.
ان انسلاخ الطبقة الحاكمة واعلامها عن الواقع وعن الظروف التي تمر بها الطبقة العاملة يفوق ما حدث في الاتحاد السوفيتي حتى عندما كان هذا النظام يلفظ انفاسه. اذ يتحدثون مثلا بأن الاقتصاد الامريكي في وضع ممتاز وان البطالة هي في اوطأ مستوياتها وان التضخم تحت السيطرة في حين ان 80% من العمال بالكاد تكفي اجورهم لتلبية ابسط مقومات الحياة حتى موعد استلام الاجر المقبل والكثير من العمال يعملون في وظيفتين او ثلاثة. كما ان نسبة البطالة اذا حسبنا الذين توقفوا عن البحث عن العمل او الذين يريدون المزيد من الساعات ولا يمكنهم الحصول عليها قد تصل نسبة البطالة الى 20%، كما ان نسبة التضخم التي تمس حياة الطبقة العاملة هي اكثر بكثير من الارقام المعلنة.
مثلها مثل الاتحاد السوفيتي لقد اصبح النظام عائق امام ادخال الكثير من الاختراعات التي تخدم الانسان في الانتاج، والاكثر من هذا ورغم كل الصخب الذي يثيره الاعلام وشخصيات مثل دونالد ترامب، يتم نقل الرساميل و التكنلوجيا الى دول تدر ارباح اكبر نتيجة رخص الطبقة العاملة وفي مقدمتها الصين بوتيرة متزايدة.
ان التشابه بين الغرب اليوم وبين الاتحاد السوفيتي كبير وهذا ربما يسمح بالوصول الى استنتاجات معينة. ان النظام بمجمله هش ومنقسم ولكن ما يجعله يبدو قويا هو ضعف القوى التقدمية والشيوعية والاشتراكية والتي حولت النضال ضد كل النظام الرأسمالي الاقتصادي والاجتماعي والسياسي الى نضال ضد السياسات الخارجية للدول الغربية، والى الوقوف مع هذا او ذاك من الاقطاب العالمية الصاعدة والى نضال من اجل قضية واحدة والى نضال من اجل قضايا اجتماعية هامشية. يجب جعل النضال، نضالا شاملا ضد كل هذا النظام وكل اقطابه.