نيل جوليان اسانج لحريته، دليل على اهمية الارادة و النضال الانساني !
توما حميد
الحوار المتمدن
-
العدد: 8027 - 2024 / 7 / 3 - 08:17
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
نال اسانج مؤسس موقع ويكيليكس الشهير حريته في 24 حزيران 2024 بعد 14 عاما من المطاردة، قضى 1901 يوم منها في سجن بلمارش شديد الحراسة البريطاني وقبلها سبع سنوات لاجئ في سفارة الإكوادور في لندن . لقد ابرمت ادارة بايدن صفقة مع جوليان اسانج يقر هو بالذنب في تهمة واحدة وهي التآمر بشكل غير قانوني للحصول على الاف الوثائق السرية الامريكية ونشرها مقابل ان يطلب المدعون العامون في وزارة العدل الحكم عليه مدة 62 شهر وهو مقدار الوقت الذي قضاه اسانج في بلمارش على شرط ان تحسب له هذه الفترة، وبذلك يطلق سراحه حالا و يسمح له بالعودة الى بلده استراليا.
لقد جاءت هذه الصفقة نتيجة عدة عوامل منها وصول قضية جوليان اسانج الى مرحلة كان لابد ان يتم ترحيله الى امريكا او اطلاق سراحه، اذ لم يعد هناك اي مرر " قانون" لإبقائه في السجن. كان المصير المفضل بالنسبة لأمريكا هو ان يموت اسانج موت طبيعي او ان ينتحر في السجن بعد ان فشلت مساعي ادارة ترامب وبوبيو في اغتياله، اختطافه او تسميميه. كان هناك احتمال ان تحكم المحكمة العليا البريطانية لصالح اسانج. من جهة اخرى، لقد سعت الادارة الامريكية تجنب ترحليه الى امريكا لان هذا الامر يشكل بربرية فاضحة، و كانت محاكمته ستشكل احراج كبير للهيئة الحاكمة في امريكا ولإدارة بايدن وخاصة امريكا مقبلة على انتخابات. لقد ارادت ادارة بايدن كسب بعض الود للشرائح التقدمية في امريكا. ولكن الامر الحاسم كان حملة عالمية ضخمة ومؤثرة ونضال الجبهة التقدمية في العالم. لقد كان الضغط على الحكومة الاسترالية الى درجة، بحيث اثار قادة استراليا بما فيهم رئيس الوزراء، انتوني البانيزي في كل اللقاءات مع الادارة الامريكية موضوع اسانج وضرورة اطلاق سراحه. في هذا الوضع كان مسالة اسقاط التهم عن اسانج محرج لذا توصلت الادارة الى هذه الصفقة بحيث يمكنهم اعلان بعض النصر.
ان قضية جوليان اسانج من تسريب الوثائق وصولا الى ملاحقته لمدة 14 عاما والى اطلاق سراحه هي واحدة من القضايا والاحداث العالمية التاريخية المهمة في هذه المرحلة ترتقي الى قضايا كبيرة مثل ازمة الرأسمالية في 2008، صعود بريكس، وباء كوفيد، حرب اوكرانيا، وحملة الابادة في غزة.
لقد نسف جوليان اسانج الهالة التي تمتع بها الغرب وخرافة سمو هذا النموذج من الحكم البرجوازي، من خلال تسريب الاف الوثائق منذ 2010 والتي كشفت مديات كبيرة من جرائم الحرب وخروقات فاضحة لحقوق الانسان وفساد هائل على مستوى الحكومات والشركات.
لقد كشفت هذه القضية اهمية النضال البشري التقدمي حتى عندما يبدو هذا النضال عقيم الى اقصى الحدود. كما اثبت ما قام به اسانج الى جانب ازمة 2008 ووباء كورونا والصراعات الاخيرة، عندما تبدو قوة عالمية مطلقة القوة، لابد ان تبدا مسيرة ضعفها وافولها، وعندما يبدو التغير مستحيل يصبح التغير شبه حتمي. ففي غضون ثلاثة عقود انتقل العالم من احادية القطب الى تعدد الاقطاب، وهبطت مكانة امريكا والغرب بدرجة كانت غير قابلة للتصديق لوقت قريب. لم يقم جوليان اسانج بفضح جرائم وفساد الغرب فحسب، بل ان قضيته بحد ذاتها فضحت الغرب وفضحت الاعلام الغربي. ان ملاحقة اسانج كانت بسبب افكاره بقدر نشره للوثائق السرية. اذ صرح اثناء حرب افغانستان بان الهدف من حروب امريكا هو ليس النصر، بل حروب مستمرة تستخدم لغسل الاموال واعادة تدويرها ونقلها من الملكية العامة الى جيوب الشركات والرأسماليين. سوف يسجل التاريخ على هذا النموذج البرجوازي للحكم بانه قام في نشوة قوته، بملاحقة ليس مرتكبي جرائم الحرب والخروقات ضد حقوق الانسان ومدبري الانقلابات بل من قام بكشف تلك الجرائم والخروقات ومن مارس حرية التعبير وحرية الصحافة وطالب بالشفافية فيما تقوم به الحكومات. والاكثر من هذا لقد تجسس عليه وعلى زواره في سفارة الاكوادور من خلال نصب كاميرات مراقبة وخرق تلفونات الزوار. ليس هناك من قوة يمكنها محو الفضائح المتمثلة بقضية جوليان اسانج والجرائم التي ارتكبت في العراق وافغانستان وليبيا وسوريا وغيرها من سجل الغرب. لقد تبين ان هشاشة النظام وضعفه لا يتحمل مخالفين مثل جوليان اسانج. لقد فضح الاعلام الغربي وكشف افلاسه وبأنه بوق بيد الطبقة الحاكمة وحكوماتها. لقد قام الاعلام بالوقوف الى جانب الحكومة الامريكية في ادعاءاتها ووصفها لاسانج كهاكر وعميل روسيا ومغتصب للنساء وفي احسن الاحوال قام بإهماله.
يجب التأكيد ايضا بان جوليان اسانج كشف عن شجاعة وتصميم منقطع النظير في خدمة البشرية. حتى في اللحظة التي كان من المقرر ان يقر بالذنب بالتآمر بشكل غير قانوني للحصول على معلومات سرية ونشرها في محكمة امريكية في جزر ماريانا الشمالية في المحيط الهادي، اصر في الدفاع عن حرية التعبير وحرية الصحافة. عندما سالته القاضية اشرح لي ماذا قمت به، في أمر يشكل جريمة. قال كصحفي قمت بتشجيع مصدر المعلومات على الحصول على وثائق التي يقال انها سرية من اجل نشرها، باعتقادي بان الدستور الامريكي يحمي هذا الحق، ولكن بالشكل المكتوب به هذا هو خرق لقانون التجسس. واضاف ان الدستور وقانون التجسس هي في تناقض. اذ لم يكن هذا اقرار بالذنب بقدر الحديث عن تناقض القوانين الامريكية واستحالة كسب القضية في هذا الوضع. رغم ان هذه القضية تسجل سابقة بان نشر وثائق سرية هو خرق لقانون التجسس لكن بهذا الشكل ان صفقة اسانج لم تسجل اي سابقة يمكن استخدامها في ملاحقة صحفيين اخرين في المستقبل.
ان حرية اسانج هي نصر كبير ونادر للبشرية. لقد أُجبرت الادارة الامريكية على عقد صفقة مع جوليان اسانج تحت ضغط البشرية المتمدنة. لقد كان الهدف تحطيم جوليان اسانج نفسيا وجسديا وتسجيل نصر ولكن هذا لم يتحقق. لقد بينت هذه القضية اهمية النضال التقدمي حتى في احلك الاوقات، وحتى في الوقت الذي يبدو فيه النضال عقيما.