المفاوضات لإنهاء الحرب في أوكرانيا: استراتيجيات أمريكية وصراع القوى العالمية
توما حميد
الحوار المتمدن
-
العدد: 8264 - 2025 / 2 / 25 - 16:47
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
في البداية، أود أن أشير إلى أن ما يميز إدارة ترامب هو إمكانية استخلاص نوايا هذه الإدارة وخططها من تصريحات الشخصيات التي تمثلها. على عكس إدارة بايدن والحزب الديمقراطي بشكل عام، وحتى حكومات الحزب الجمهوري السابقة، لا تغلف الإدارة الحالية نواياها بغلاف الدفاع عن "حقوق الإنسان" و"الديمقراطية" و"قيم الغرب" و"العالم المستند على القواعد".
السياسة الأمريكية تجاه روسيا وأوكرانيا: خلافات داخلية
تتفق الطبقة الحاكمة في أمريكا على أن الصين هي أكبر خطر واجهته الولايات المتحدة على الإطلاق، وعلى ضرورة احتوائها وإضعافها، والمحافظة على مكانة أمريكا كقوة مهيمنة عالميًا. ومع ذلك، فإن هذه الطبقة منقسمة حول ضرورة المواجهة مع روسيا وإضعافها كخطوة نحو الاستفراد بالصين وهزيمتها. بينما يرى الحزب الديمقراطي و"المحافظون الجدد" ضرورة إضعاف وهزيمة روسيا من خلال حرب بالوكالة مثل حرب أوكرانيا والحصار الاقتصادي كخطوة ضرورية لإضعاف مكانة الصين. وعلى هذا الأساس، لم تكن الحرب الأوكرانية مرتبطة بالأسباب التي روجت لها الطبقة الحاكمة والإعلام الغربي، بل كانت في الأساس مرتبطة بالصين.
لا ترى حركة "ماغا" بقيادة ترامب والإدارة الأمريكية في روسيا خطرًا جديًا، ولذلك يعتبرون استمرار حرب أوكرانيا تشتيتًا لقدرات أمريكا وإشغالًا لها عن الهدف الرئيسي، وهو احتواء الصين. بل إن حركة "ماغا" ترى ضرورة جر روسيا إلى صف الغرب وخلق شق بينها وبين الصين.
هزيمة الغرب في أوكرانيا: نقطة تحول
هزيمة الغرب في أوكرانيا التي تلوح في الأفق قد حسمت هذا الجدال لصالح حركة "ماغا" ومنظريها. ترى إدارة ترامب أن إنهاء الحرب في أوكرانيا من خلال المفاوضات هو أفضل بكثير من الانتظار حتى تنهار أوكرانيا كليًا. يجب منع هزيمة دراماتيكية. تحاول إدارة ترامب الظهور كطرف يسعى إلى الخير، متنصلة من أي مسؤولية تجاه نشوب الحرب والهزيمة التي تلوح في الأفق، من خلال إلقاء اللوم على أوكرانيا وأوروبا وحتى إدارة بايدن، وكأن إدارة بايدن ليست إدارة أمريكية.
استراتيجية كيسنجر العكسية: التقارب مع روسيا لمواجهة الصين
السياسة السائدة حاليًا في أمريكا هي إنهاء الحرب في أوكرانيا ومحاولة جر روسيا إلى صف الغرب، والتفرغ لاحتواء وإضعاف الصين. تُعرف هذه الاستراتيجية بـ"استراتيجية كيسنجر العكسية"، في إشارة إلى السياسة التي اتبعها هنري كيسنجر والرئيس ريتشارد نيكسون في السبعينيات، عندما قاموا بتطبيع العلاقات مع الصين لاستخدامها كحليف ضد الاتحاد السوفيتي. اليوم، تحاول إدارة ترامب اتباع نهج معاكس، من خلال التقارب مع روسيا لاستخدامها كحليف ضد الصين، وبالتالي إضعافها وزعزعة استقرارها. هذه الاستراتيجية تهدف إلى تقوية أمريكا من خلال إضعاف الخصوم.
التصريحات الأمريكية: الصين هي الخطر الأكبر
من بين التصريحات التي تؤكد هذه الرؤية، ما قاله ترامب خلال مقابلة مع الإعلامي اليميني تاكر كارلسون في أكتوبر 2024: "الشيء الذي لا تريد أبدًا أن يحدث هو أن تتحد روسيا والصين"، وأضاف: "سأضطر إلى تفريقهما، وأعتقد أنني أستطيع فعل ذلك أيضًا. يجب أن أفصل بينهما". كما قال ماركو روبيو، وزير الخارجية الأمريكي الحالي، مرارًا وتكرارًا على مدى سنوات طويلة: "إن التهديد الأكبر والخَصم الأكثر قوةً وخُطورةً الذي واجهته الأمة الأمريكية على الإطلاق هو الصين". وقال في جلسة استماع في الكونغرس: "الصين هي التهديد الأكبر على الإطلاق. التحدي الأكبر ليس تغير المناخ، وليس الجائحة، وليس نسخة اليسار للعدالة الاجتماعية. التهديد الذي سيحدد هذا القرن هو الصين".
وأضاف: "لم نواجه خصمًا شبه نظيرٍ يشكل خطرًا شاملًا مثل الصين اليوم". وحذر من تأثيرات جذرية إذا لم تتحرك الولايات المتحدة. وأضاف: "إذا بقينا على الطريق الذي نسير عليه الآن، ففي أقل من 10 سنوات، سيعتمد كل شيء يهمنا في حياتنا تقريبًا على ما إذا كانت الصين ستسمح لنا بالحصول عليه أم لا — كل شيء بدءًا من دواء ضغط الدم الذي نتناوله وحتى الأفلام التي نشاهدها".
وقال بعد المفاوضات مع الوفد الروسي في الرياض: "هناك فرص لا تُصدق للتعاون مع روسيا من الناحية الجيوسياسية على المسائل المشتركة، وحتى اقتصاديًا. من ميادين التعاون المقترحة هي الممر المائي الشمالي، ومعاهدة الصواريخ متوسطة المدى، وحَفض الترسانة النووية، والإرهاب".
________________________________________
الهدف ليس السلام بل الهيمنة
لذا، فرغم أن المفاوضات بين أمريكا وروسيا حول أوكرانيا وإمكانية تحقيق السلام، وأي نوع من التواصل بين أكبر قوتين نوويتين هو أمر إيجابي، إلا أن نوايا أمريكا من هذه المفاوضات ليست حميدة حسب التصريحات الحالية والسابقة لشخصيات إدارة ترامب. فالهدف ليس تحقيق السلام، بل المحافظة على مكانة أمريكا كقوة مهيمنة على العالم. فترامب يقول بشكل علني إنه ينوي توسيع مساحة أمريكا لتشمل غرينلاند وقناة بنما وغزة وحتى كندا. وكل ذلك من أجل مواجهة الصين؛ فغرينلاند تحتوي على المعادن النادرة وتضمن منع الصين من الوصول إلى القطب الشمالي، والسيطرة على قناة بنما ستحرم الصين من ممر مائي مهم، وغزة ستضمن هيمنة أمريكا في الشرق الأوسط.
إن الخطة هي إعادة ترتيب التدخل في الخارج، وتوكيل بعض المهمات إلى قوى أخرى. ففي الوقت الذي يرى وزير الدفاع الأمريكي أن الصراع في أوكرانيا كشف عن ضعف الاستثمار العسكري في إنتاج الذخيرة والتكنولوجيا الحربية، ودعا إلى إزالة البيروقراطية وتسريع الإنتاج العسكري من باتريوت وقذائف ودبابات وسفن حربية، لمح بأنه ليس لأمريكا قدرات كافية لإدامة حرب أوكرانيا وتصعيد المواجهة مع الصين.
التحديات التي تواجه الاستراتيجية الأمريكية
النظرة إلى الصين كالتهديد الأكبر لهيمنة أمريكا الاقتصادية والتكنولوجية والسياسية والدبلوماسية نابعة من وقائع تشير إلى أن الصين قوة صاعدة. يبلغ عدد سكان الصين 1.4 مليار نسمة، والاقتصاد الصيني حسب بعض المعايير قد تفوق على الاقتصاد الأمريكي. القدرات التصنيعية للصين تمثل 31% من قدرات العالم، بينما تمثل أمريكا 16%. كما تتفوق الصين على الغرب في 90% من التكنولوجيات الحساسة.
ومع ذلك، من المستبعد أن تنجح أمريكا في خلق شق بين روسيا والصين. فكيف يمكن الثقة بأمريكا، خاصة وأن سياستها قد تتغير بعد أربع سنوات؟ يكفي أن ننظر إلى كيفية تعامل أمريكا مع حليف مثل نظام أوكرانيا، أو مع أوروبا. روسيا تعرف جيدًا أن مستقبلها مع الصين وليس مع الغرب، وأن أحد أسباب فشل الحصار الغربي على روسيا والحرب بالوكالة هو وقوف الصين إلى جانب روسيا. كما أن روسيا تعلم أن الاستراتيجية الجديدة لأمريكا، التي تعترف بتعدد الأقطاب وضرورة العودة إلى مبدأ مونرو باعتبار نصف الكرة الأرضية الغربي منطقة نفوذ أمريكي، لا تعني التساوي بين الأقطاب أو التخلي عن الهيمنة.
والأهم من ذلك، ليس لدى أمريكا المزيد لتقدمه لروسيا. كل ما يمكنها تقديمه هو إنهاء الحصار الاقتصادي وبعض الضمانات الأمنية، وهو أمر مهم، لكن تأثير الحصار الاقتصادي وغياب الضمانات الأمنية لم يكن كبيرًا. في المقابل، هناك تكامل واندماج اقتصادي كبير بين الصين وروسيا، وحتى دول آسيا الأخرى مثل الهند. الصين تحتاج إلى الطاقة والمواد الروسية، ولديها التكنولوجيا ورأس المال الذي تحتاجه روسيا. كما تعرف روسيا أن أمريكا ستفشل في صراعها مع الصين، خاصة وأن الصين قد تفوقت على الغرب بشكل لا رجعة فيه. .
فالتعريفات الجمركية الأمريكية ليست العصا السحرية التي يمكنها "جعل أمريكا عظيمة مرة أخرى"، ولن تتمكن حتى من جلب الوظائف التصنيعية إلى أمريكا. تحقيق ذلك يتطلب استثمارات في مجالات قد لا تكون مربحة على المدى القصير، مثل البنية التحتية والتعليم والبحث العلمي وتدريب الأيدي العاملة، وشبكة الطاقة، والمعادن النادرة.
كما يتطلب ضمان مدخلات الإنتاج وبناء سلاسل التوريد. ومع ذلك، تقوم الإدارة الحالية بالعكس، من خلال الانخراط في لعبة معروفة لليمين الرجعي، وهي الهجوم على مكاسب الطبقة العاملة تحت حجة القضاء على "عدم الكفاءة" وهدر الأموال، والبيروقراطية في القطاع العام، وغيرها من الحجج المشروخة لليمين..