معضلة المخدرات في العراق-الجزء الثاني والثالث
توما حميد
الحوار المتمدن
-
العدد: 7753 - 2023 / 10 / 3 - 16:42
المحور:
الصحة والسلامة الجسدية والنفسية
أسباب تزايد الإدمان في وقتنا المعاصر.
يقف وراء أزمة الإدمان العالمية عاملان، وهما انتشار هذه المواد من جهة؛ وتوافر العوامل الاجتماعية-البيئية التي تدفع الفرد الى استخدام هذه المواد. إن انتشار المواد المدمنة مرتبط بالنظام الاقتصادي والاجتماعي والسياسي الرأسمالي، اذ يعتبر دافع الربح لإنتاج وتوزيع المواد المدمنة السبب الرئيسي لتوفر وانتشار المخدرات. فالمخدرات هي سلعة مثل أي سلعة أخرى.
تشير الأبحاث بأن حجم تجارة المخدرات في جميع انحاء العالم تبلغ بين 300-500 مليار دولار امريكي سنويا يتم غسل هذه الاموال من قبل أكبر البنوك العالمية وخاصة الامريكية دون ان يتم محاسبة أي مصرفي في هذه البنوك. ويشير تقرير للأمم المتحدة ان سوق الهرويين العالمي لوحده بلغ 55 مليار دولار في 2020 واغلب هذه الاموال تمول جماعات قمعية وارهابية مثل طالبان والجماعات الإسلامية الأخرى وجماعات الكونترا وغيرها. وأيا كان مصدر المخدرات فان التاجر المحلي يحقق الكثير من الأرباح من هذه السلع القاتلة مثلها مثل أي سلعة اخرى.
من جهة أخرى، لقد ثبت بأن السي آي أي ومخابرات الكثير من الدول تلعب دور كبير في تجارة المخدرات من أجل تمويل مشاريعها الإرهابية في انحاء العالم.
وهناك حالات تمت فيها غرق مجتمعات معينة بالمخدرات غير المشروعة، لأسباب سياسية كما حدث مع الصين خلال القرن المعروف ب"قرن الذل". وليس من المستبعد، ان قوى الإسلام السياسي في العراق وإيران تقوم بنشر المخدرات بشكل متعمد من اجل تدمير الشباب وخنق اي روح ثورية في المجتمع، مما يجعل نهب ثروات المجتمع التي تأتي من النفط أسهل. ان تحكم المليشيات المسلحة للقوى الإسلامية الحاكمة بتجارة المخدرات لم يعد بحاجة إلى أدلة وبراهين.
إن موقع العراق في النظام الرأسمالي العالمي حاليا يجعل مهمته تزويد الاقتصاد العالمي ببضاعة معينة وهي النفط. أي ان اهم مصدر لأرباح فئة من البرجوازية العراقية، ليس من الاستثمار في الصناعة او الزراعة او السياحة الخ بل التحكم بمردودات النفط، لذا فان وجود شريحة الشباب صحية ليس مهما، هذا ان لم يكن عائقا امام تحقيق الأرباح. ان قيام نفس هذه المجاميع بمنع الكحول ونشر المخدرات في المجتمع ليس نابعا من الالتزام بالعقائد الإسلامية بل نابع من منطق الربح ومنطق التحكم بالمجتمع.
ومثل أي سلعة أخرى، يؤدي زيادة العرض من المخدرات لأي سبب، سواءً بسبب زيادة الإنتاجية او سهولة نقل البضاعة الى انخفاض أسعار المخدرات. فاليوم أصبح بالإمكان شراء المخدرات والمؤثرات العقلية بأسعار منخفضة في العراق، اذ تشير التقارير بان الغرام الواحد من مادة الميثافيتامين الكريستالي يباع مقابل 20 ألف دينار عراقي وهو رخيص جدا بالمقارنة مع الكثير من الدول. ان انخفاض أسعار المخدرات يؤدي الى زيادة الاستعمال. ان أحد اهم أسباب انخفاض سعر مادة الميثافيتامين الكريستالي بالذات هو رخص نقلها من مكان الإنتاج الى المستهلك نتيجة صغر حجم المادة-الجرعة. ان قلة العوائق التي تضعها السلطات امام نقل المخدرات يؤدي الى انخفاض مصاريف النقل وانخفاض الأسعار. يتم الحديث عن ضعف الأجهزة الأمنية نتيجة قلة الكادر وقلة الخبرات والتمويل وضعف المعلومات الاستخباراتية المتعلقة بتجارة المخدرات وتهرب التجار من المحاسبة القانونية نتيجة فساد الأجهزة الأمنية كسبب لانتشار المخدرات، ولكن في الحقيقة ان هذه الادعاءات هي تضليلية لان نفس قوى الإسلام السياسي وميليشياتها التي هي طرف في السلطة تتحكم بهذه التجارة. فمن المهم الإشارة الى هذه الحقيقة، لان تحكم القوى الحاكمة بانتشار المخدرات يعني ان السيطرة على المخدرات يتطلب إزالة هذه القوى من السلطة في حين اذا كان توفرها بسبب ضعف الأجهزة الأمنية والفساد في هذه الاجهزة فعندها، يجب زيادة الخبرات والتمويل وعدد العاملين في هذا الميدان والنضال ضد الفساد. هذا لا يعني ان بعض منتسبي الشرطة وقوات الحدود ليست متورطة في عمليات فساد تتمثل بتسهيل تجارة المخدرات مقابل رشى، ولكن هذه ليست القضية الأساسية. المعضلة الأساسية هو تحكم القوى السياسية الحاكمة التي لها مليشيات مسلحة بهذه التجارة.
رغم ان توفر المخدرات هو شرط لتفاقم مشكلة الادمان، ولكن توفرها هو ليس العامل الأساسي في الادمان، اذ ان المخدرات كانت موجودة منذ وقت طويل، فالكثير من المواد المدمنة تأتي من النباتات وكانت معروفة للبشر منذ الاف السنين، ولكن لم يكن الإدمان مشكلة. من جهة أخرى، الإدمان ينتشر في المجتمعات المتأزمة، عندما يتعرض الانسان الى صدمات قوية ويفقد الامل بمستقبل أفضل ويزداد مع زيادة الفقر والأمية وفي المجتمع الواحد يزداد مع الازمات ويقل في وقت الرفاهية.
هناك مجتمعات معينة بالذات تساعدنا على فهم هذا المرض الاجتماعي بشكل خاص، عندما ننظر الى الشعوب الاصلية في دول مثل كندا وامريكا وأستراليا، فهذه الشعوب كانت لقرون قبل الاستعمار الأوربي على علم بمواد مخدرة مثل التبغ والكحول والمخدرات النباتية الأخرى واستعملوها في مراسيم احتفالية دون ان يكون عندهم مشكلة الادمان. الان تعاني هذه الشعوب من معدلات خرافية من الإدمان لأنهم تعرضوا الى صدمات عنيفة على طول فترات طويلة بما فيه التعرض الى خطر الإبادة الجماعية. ان الأسباب الأساسية لتفاقم الإدمان كمرض الاجتماعي هي العوامل الاجتماعية-البيئية واهمها التعرض الى الصدمات في مرحلة الطفولة...
العوامل البيئية- الاجتماعية للإدمان.
تؤكد الدراسات بأن العامل الحاسم في حدوث الإدمان هي العوامل البيئة – الاجتماعية، أي وجود الظروف الموضوعية التي تدفع الإنسان الى الإدمان. لا النظرة المجتمعية التي تصور الإدمان بانه مشكلة فردية نتيجة اختيار شخصي او نتيجة ضعف الشخصية الخ ولا نظرة الطب المعاصر الى الإدمان كونه مرض دماغي نتيجة أسباب وراثية، تفسر أسباب انتشار الإدمان في مجتمعات معينة وتحت ظروف معينة وعدم كون الادمان مشكلة في المجتمعات الإنسانية القديمة رغم توفر المواد المدمنة. مثل أي مشكلة اجتماعية او مرض اجتماعي، هناك سعي الى جعل الادمان مسالة فردية، لان ذلك يبرء بشكل واعي او غير واعي النظام الذي يحكم المجتمع من المسؤولية ويوفر مهرب من تقديم حلول جذرية للمعضلة، لأنها لا تخدم النظام ومصلحة الطبقة الحاكمة.
لا أحد يولد بشخصية إدمانيه، أي يؤرث الإدمان كمرض وراثي. فالإدمان ليس مشكلة تحددها البيولوجيا. بالتأكيد، هناك بعض الجينات التي قد تجعل الانسان مهيئ للإدمان، أي هناك ميل وراثي للإدمان عند بعض الناس، لكن الاستعداد ليس هو نفسه التحديد المسبق، والاستعداد الجيني او وجود ميل وراثي ليس كافيا للتسبب بالإدمان وفي الاغلب لا يؤدي الى الإدمان دون توفر العوامل البيئية.
والدماغ الذي هو العضو الجسدي المتأثر بالإدمان ليس محدد وراثيا، بل هو الى حد كبير نتاج البيئة. تعتمد كيفية نمو الدماغ والدوائر الدماغية ووظائفه الى حد كبير على بيئة التربية.
في العقود الأخيرة، لقد تعرفنا على علم جديد هو الايبيجينتك (ما فوق الجينات) الذي يبين بان تأثير العوامل البيئية قد تؤدي الى تشغيل الجينات او ايقافها عن العمل. لذا فان الكثير من الامراض والصفات الشخصية التي تبدو وراثية قد تكون بسبب تأثير البيئة على عمل الجينات.
ولهذا في المحصلة النهائية، رغم وجود تفاعل ديالكتيكي بين البيئة والجينات تدفع او تقي الانسان من الإدمان، هناك أدلة دامغة بان العوامل الاجتماعية هي العامل الرئيسي والحاسم في حدوث الإدمان والعوامل الوراثية هي ليست المسؤولة بالدرجة الأساسية عن هذه المشكلة. وهناك علاقة قوية جدا بين الامراض العقلية مثل القلق والكأبة واضطراب ما بعد الصدمة وغيرها وبين الادمان وهذه الامراض هي في القسم الاعظم نتيجة عوامل بيئية.
تشير الدلائل الى ان معظم حالات الإدمان هي في الحقيقة محاولة لتهدئة الم داخلي بسبب مشاعر سلبية او غياب المشاعر الإيجابية التي يحتاجها الانسان.
يؤكد غابور ماتي، وهو خبير في هذا المجال، بشكل خاص على دور الصدمة في مرحلة الطفولة في حدوث الادمان.
ويضيف غابور ماتي، الإدمان هو محاولة للهروب من معاناة، او الم بشكل موقت التي هي نتيجة صدمة يتعرض لها الانسان في مرحلة الطفولة مثل سوء المعاملة الجسدية، والعاطفية والجنسية او الإهمال او الجوع الخ.
ويقول ماتي، كل الإدمان له جذوره في نوع من الصدمات، ولكن ليست كل الصدمات تؤدي إلى الإدمان. ويؤكد بان الصدمة ليست ما يحدث لنا، ولكن ما يحدث في داخلنا من الناحية الفسيولوجية تجاه التجربة السلبية. اي ان الصدمة هي ليست الحدث الصادم نفسه أي ليست التجربة السلبية، بل هو التأثير الذي يتركه هذا الحدث على الفرد، اي التفاعل تجاه الحدث. اذ ان تأثير نفس الحدث يكون مختلف من شخص لأخر.
ويضيف "عندما تحدث أشياء سيئة، أو ببساطة عندما لا تحدث الأشياء الجيدة التي كانت يجب أن تحدث (عندما لا يحصل الأطفال على احتياجاتهم ويتم إهمالهم)، يمكن أن يؤدي ذلك إلى الإدمان في المستقبل".
وتؤكد الدراسات السريرية بشكل لا لبس فيه بان هناك علاقة عميقة بين التعرض للصدمات في فترة الطفولة أي التعرض الى تجارب الطفولة السلبية (أهمها الاعتداء العاطفي والجسدي والجنسي؛ العنف المنزلي؛ تعاطي المخدرات داخل الاسرة؛ المرض العقلي في الأسرة؛ انفصال الوالدين أو الطلاق؛ عضو داخل الاسرة له تاريخ اجرامي؛ الإهمال العاطفي أو الجسدي) و بين الإدمان بأشكاله، حيث تستخدم المواد المخدرة كوسيلة للتغلب على المشاعر السلبية والمؤلمة الناتجة من الصدمة. اذ يقوم العديد من المدمنين بالتداوي الذاتي لتهدئة آلام نفسية.
رغم ان ماتي يؤكد على دور الصدمة في مرحلة الطفولة، الا اننا نعرف جيدا ان الصدمات مثل تلك التي تؤدي الى اضطراب ما بعد الصدمة تؤدي الى الإدمان حتى عند البالغين. لذلك يكون معدل الإدمان عالي جدا في المجتمعات التي تمر بالحروب او التي تتعرض لظواهر طبيعية كبيرة. ليس هناك أي جدال بان معدل الإدمان بين المحاربين القدامى في مجتمعات مثل أمريكا وأستراليا وبريطانيا الذين شاركوا في حروب فيتنام والعراق وأفغانستان وغيرها هو عالي جدا.
ان فترات طويلة من الحرمان، الاغتراب، التعاسة، الم مزمن، فقدان المعنى في الحياة، العيش مع عار تعمل كصدمات للإنسان حتى البالغ وتؤثر على عمل الدماغ وتؤدي الى مشاعر سلبية وألآم داخلية وعدم القدرة على التعامل مع الضغوطات والاجهاد النفسي، لذلك يلجأ الانسان الى مواد مثل الكحول والمخدرات وسلوكيات إدمانيه أخرى لتخفيف التوتر والتخلص من المشاعر السلبية او تحقيق مشاعر إيجابية.