خواطر حول قانون التصالح في مخالفات البناء في مصر
محمد منير مجاهد
الحوار المتمدن
-
العدد: 6684 - 2020 / 9 / 22 - 20:18
المحور:
الطبيعة, التلوث , وحماية البيئة ونشاط حركات الخضر
أثار قانون التصالح في بعض مخالفات البناء وتقنين الأوضاع رقم 17 لسنة 2019 والمعدل بالقرار رقم 1 لسنة 2020، قدرا كبيرا من الجدل خاصة وان الحكومة تزعم أن التشريع جاء ليعالج أثار وتراكمات مخالفة لأحكام قانون البناء الصادر بالقانون رقم 119 لسنة 2008، وما قبله من قوانين خاصة منظمة للبناء.
وفكرة "التصالح" في مخالفات للقانون مهما كانت ضآلتها هي فكرة غير مقبولة بالنسبة لي، لأنها تحول ما هو غير قانوني وغير مقبول إلى قانوني ومقبول نظير جُعْلٍ (رشوة – إتاوة – فِردة - .... الخ.) وترسخ فكرة عدم احترام القانون وتثبت أن الهدف ليس منع البناء العشوائي ولكن الجباية لملء خزينة الدولة الخاوية بسبب انخفاض دخولها من الموارد الريعية (قناة السويس – السياحة – تحويلات العاملين في الخارج - ...الخ.) وارتفاع قيمة فوائد القروض التي أفرطت فيها الحكومة لعمل مشاريع غير إنتاجية ودون دراسات كافية، إضافة إلى عدم رغبة الحكومة في تحميل الأثرياء بأي ضرائب تتناسب مع ثرواتهم مثل الضرائب التصاعدية، إضافة إلى هذا فإن فكرة تطبيق القانون بأثر رجعي فكرة غير عادلة وغير دستورية، وفي نفس الوقت دون التعرف على الأسباب الموضوعية للعشوائية والتهام الأراضي الزراعية الخصبة في وادي النيل والدلتا فلن تنتهي المشكلة
إذا أخذنا مدينة القاهرة الكبرى كمثال فلا يحضرني عبر تاريخها الذي تجاوز الألف عام إلا اسمين حرصا على عدم المساس بالأراضي الزراعية وهما مؤسسها جوهر الصقلي الذي اختار مكانها في أحضان جبل المقطم بعيدا عن النيل، والبارون إمبان الذي أنشأ ضاحية مصر الجديد في صحرائها الشرقية ويمكن أن نضيف على استحياء الخديوي عباس الأول الذي أنشأ حي العباسية في صحراء الريدانية الشهيرة التي شهدت هزيمة جيش المماليك بقيادة طومان باي واحتلال مصر من قبل العثمانيين.
منذ عصر الوالي محمد علي باشا أخذت القاهرة تتوسع على حساب الأراضي الزراعية المحيطة بها، حيث أدخل التنظيم والتطوير من خلال تركيز الصناعات والحرف في منطقة السبتية، كما عمل علي تشييد القصور الملكية الفخمة التي كان في مقدمتها، قصره بحي شبرا، وقصر الجوهرة في قلعة صلاح الدين الأيوبي، وقصر النيل، وقصر القبة. إلا أن عهد إسماعيل باشا تميز بانفجار معماري علي المستويات كافة لإنشاء ما يعرف حاليا بالقاهرة الخديوية
أذكر أثناء إنشاء الخط الأول لمترو الأنفاق أن منظر الطمي النقي المستخرج من مسار المترو في شارع رمسيس كان مدهشا بالنسبة لي وعرفت وقتها أن الفجالة كانت غيطان يزرع فيها الفجل ويباع وكان هناك العديد من البرك حول القاهرة كبركة الأزبكية وبركة الرطلي وبركة الفيل، وهناك بحي السيدة زينب وهو من أقدم أحياء القاهرة وأكثرها اكتظاظا بالسكان آثار لجنائن قديمة مثل "جنينة ناميش" و"جنينة لاظ"، والمتأمل لأسماء أحياء كاملة في القاهرة يمكنه أن يتعرف على ماضيها ويمكنه أن يتصور كيف كانت مثل: المرج وحدائق القبة والزيتون والبساتين. وقد شهد جيلي والجيل السابق له كيف تحولت الأراضي الزراعية - بقيادة الدولة غالبا - على جانبي شارع الهرم والدقي وميت عقبة إلى مناطق سكنية بعضها راقي وبعضها الآخر متوسط ولكن سرعان ما تحولت فيلات الدقي والمهندسين والأوقاف إلى أبراج سكنية شاهقة بسبب الرغبة في تعظيم الربح ثم سرعان ما أحاطت بها توسعات عشوائية في المعتمدية وناهيا وبولاق الدكرور وأبو قتادة .. الخ
توجهت الدولة لإنشاء حي مخطط جديد على تخوم مصر الجديدة هو حي مدينة نصر ولكن ضعف قبضة الدولة حول هذا الحي الجميل إلى حي عشوائي تُستَخرج فيه رخصة البناء بثلاثة أو أربعة أدوار فتبني خمسة عشر دورا أما السكان فلهم الله في مشاكل المياه والصرف الصحي والكهرباء وفي تحول الشوارع إلى جراجات، فمثلا كانت هناك بقعة مخصصة كحديقة عامة فوجئ السكان حولها بتحويلها إلى جامع وجمعية أهلية باسم دار ابن الأرقم.
تزايد الاتجاه للسكن على شاطئ النيل مع الاحتلال البريطاني لمصر وربما دل على هذا إطلاق اسما انجليزيا هو "جاردن سيتي" على "الميدان الناصري" الذي أنشأه السلطان الناصر محمد بن قلاوون بعد أن ردم موضعا قديمًا كان مغمورا بمياه النيل وغرس فيه الأشجار وافتتحه عام 1318 م . وقد كان هذا الحي مقرا مفضلا للضباط البريطانيين وللطبقة الأرستقراطية المصرية المرتبطة بهم الذين أقاموا قصورهم على النيل في جاردن سيتي والناحية المقابلة في الجيزة إلا أنه مع انتهاء الحرب مع إسرائيل وبروز طبقة متعطشة للمكسب السريع بدأت هذه الفيلات والقصور التي كان لبعضها قيمة تاريخية أو تراثية تتحول إلى أبراج شاهقة للأثرياء الجدد تحجب النيل وبدأت الدولة تتغاضى عن مخالفات أجهزتها السيادية التي سارعت تنهش في لحم شاطئ النيل مقيمة نوادي الشرطة والجيش والقضاة وتبعها غيرها من النقابات تبني عليها مباني خرسانية قبيحة محاطة بأسوار عالية حولت أجزاء كبيرة من الكورنيش إلى أماكن لا يُرى فيها النيل.
هل هناك أسباب موضوعية للبناء على الأرض الزراعية؟
نعم. وذلك لأن المصريين منذ استقروا في وادي النيل بعد انتهاء العصر المطير يقيمون ويمارسون حياتهم في هذا الوادي الضيق في الجنوب ودلتاه في الشمال ولم يخرجوا منهما إلا عند حفر قناة السويس وإنشاء مدن القناة الثلاثة ومع تزايد السكان الذي شهدت شخصيا تزايده من 21 مليون نسمة عام 1950 إلى أكثر قليلا من 101 مليون نسمة عام 2020 ومع عدم وجود ظهير صحراوي للمدن المكتظة بالسكان في الدلتا مثل طنطا والمنصورة وكفر الشيخ ودمياط وشبين الكوم على سبيل المثال، وعدم وجود خطط للدولة لاستيعاب الزيادة السكانية لهذه المدن أي مناطق يمكن أن يعملوا فيها في أنشطة صناعية وتجارية وخدمية ويسكنوها أيضا. ومن ثم لم يكن أمام سكان هذه المدن الذين تضاعف عددهم خمسة مرات في غضون الفترة المذكورة إلا التوسع على حساب الأراضي الزراعية المتاخمة لها بموافقة الدولة بتوسيع حدود كردون المباني بدون تخطيط في معظم الأحيان أو بتخطيط ودون تطبيق للقانون في أحيان أخرى، أو عن طريق تعلية المباني القائمة بمخالفة شروط الترخيص تارة أو بهدم المباني القائمة وإقامة أبراج عالية بالمخالفة لشروط الترخيص والتصالح بدفع غرامات يقوم المقاول الشاطر بتجميلها مقدما على ثمن بيع العقار المخالف ويلاحظ أيضا أن الدولة لعبت دورا رائدا في البناء على الأرض الزراعية.
أدت العشوائية في تعامل الدولة مع ملف تخطيط المدن ومتابعة نموها إلى انتشار العشوائية وعدم احترام قوانين البناء وتحولت القاهرة التي فازت بجائزة أجمل مدن العالم عام 1925 إلى مدينة يلطخها القبح والعشوائية، وهو ما يمكن أن نعممه على عواصم محافظات وادي النيل والدلتا بما فيها الإسكندرية.
يمكن أن نقول نفس الشيء على قرى الدلتا والصعيد أنه نتيجة لأزمة السكن في المدن والانفجار السكاني تحولت كثير من المناطق الريفية إلى مناطق حضرية عشوائية على غرار القرى المحيطة بالقاهرة الكبرى وما صاحبها من تبوير لأراض زراعية وتحويلها إلى مناطق بناء عشوائية من حيث التخطيط كالارتفاعات والشوارع والمرافق والتناسق المعماري ...الخ. ورغم أن التعداد لا زال يدرج هذه المناطق باعتبارها مناطق ريفية إلا أنها في واقع الأمر مناطق حضرية ويجب أن يتم التعامل معها كذلك فقد أصبح أغلب سكانها من غير العاملين بالزراعة.
ما هو الحل؟
• يجب إجراء دراسة شاملة بواسطة فريق متعدد التخصصات للتوصل لأسلوب قابل للتطبيق بعيد عن الحلول السهلة بهدم منازل الفقراء على رؤوسهم، وفي حالة وجود مثل هذه الدراسة في الأدراج فيجب إخراجها فورا والبدء في وضع توصياتها موضع التنفيذ ويمكن أن أساهم بالمقترحات التالية:
o إنشاء مدن جديدة في الصحراء حسب توزيع مصادر الطاقة (بترول – غاز طبيعي – محطات طاقة شمسية – محطات رياح ...الخ.) وتنشأ بها الصناعات المناسبة ويتم تدريب أو إعادة تدريب الشباب غير العاملين بالزراعة في "القرى" ونقلهم إلى المدن الجديدة في أعماق الصحراء المزودة بالخدمات والوظائف التي تكفل لهم الاستقرار.
o يتم إعادة تنظيم القرى على شكل شركات مساهمة وحدتها السهم (7.29 متر مربع) تتولى تنظيم الإنتاج في القرية (زراعة – صناعات زراعية – تربية مواشي ... الخ.) وإعادة تخطيط المنطقة المسكونة من القرية بحيث تكون قرية حديثة بها مساكن ريفية مستقلة تتخللها شوارع مزروعة بأشجار مثمرة ومزودة بوحدة لمعالجة مياه الصرف الصحي وإنتاج سماد عضوي و/أو غاز عضوي ومياه للري
o حظر البناء على الأراضي الزراعية. وفي حالة المخالفة يزال العقار ويتم إعادتها لحالتها الزراعية على نفقة المخالف وتصادر الأرض بعد ذلك
o في حالة اقتران المخالفات بفساد في الجهات الحكومية سواء في الماضي أو الحاضر أو المستقبل يتم مطاردة هؤلاء الفاسدين و/أو ورثتهم حتى مستوى الجنين في بطن أمه لاسترداد الأموال التي حصلوا عليها نتيجة للفساد مع حرمانهم من نقل جيناتهم الوراثية إلى المجتمع
• بالنسبة لمخالفات البناء في المدن اعتبارا من صدور القانون فيكون الإجراء الوحيد للمخالفة مهما كانت بسيطة هو إزالة العقار حتى ما دون الأساسات على نفقة الملاك والمقاول ويتخذ في حق الفاسدين الحكوميين نفس الإجراءات المقترحة أعلاه.
• بالنسبة للمخالفات التي حدثت قبل صدور القانون حتى لو كان قد سبق التصالح بشأنها يبقى الحال على ما هو عليه، مع وضع لافتات نحاسية أو رخامية على المباني المخالفة على نفقة الملاك وتحت حمايتهم وفي حالة إزالة هذه اللافتات تعتبر مخالفة جديدة تحت ظل القانون الجديد تستوجب إزالة العقار حتى ما دون الأساسات على نفقة الملاك والمقاول.
• يحظر التعامل على العقارات المخالفة (تسجيل – بيع – شراء -...الخ.) وفي حالة الاحتياج العام لقطعة الأرض المقام عليها العقار المخالف يتم هدم العقار على نفقة الدولة وتصادر الأرض لإقامة المشروع (مدرسة – حديقة – جراج – مستشفى - ...الخ.)
• يجب البدء بمخالفات أجهزة الدولة فمثلا يتم إزالة كل الأندية المقامة على شاطئ النيل التابعة لأجهزة الدولة (القوات المسلحة – الشرطة – المخابرات العامة) والنقابات المهنية والكازينوهات وإعادة تخطيط الشاطئ بواسطة استشاريين أجانب متخصصين
هذه بعض الخواطر التي أطرحها للمناقشة والتصويب بالحذف والإضافة لبلورة موقف سليم للقضاء على العشوائية والقبح