الدولة المدنية شرط لتحقيق المواطنة
محمد منير مجاهد
الحوار المتمدن
-
العدد: 3251 - 2011 / 1 / 19 - 13:49
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
تعاني مصر منذ عقود من تديين المجال العام والتمييز الديني والفرز الطائفي، وما صاحبه من تصاعد الاعتداءات الطائفية ضد غير المسلمين وخاصة المسيحيين، وفي عامين متتاليين سقط شهداء من الأقباط ضحايا للقتل على الهوية، ففي عام 2010 سقط ضحايا نجع حمادي الخارجين من قداس عيد الميلاد، وفي عام 2011 سقط ضحايا الإسكندرية إثر تفجير إرهابي يوقع عشرات الضحايا الذين فرغوا للتو من صلوات العام الجديد، ورغم ردود الأفعال الطائفية المؤيدة للجريمة سواء في شوارع مدينة الإسكندرية نفسها، أو في بعض المواقع على الإنترنت، إلا أن الشيء المبهر حقا هو رد الفعل الشعبي الواعي الذي قاده الشباب للتلاحم والتضامن مع الأقباط في محنتهم، وبدلا من أن تكون الجريمة البشعة التي تعرضت لها كنيسة القديسين في الإسكندرية مصدرا لشرارة تشعل الفتنة الطائفية بين أبناء مصر، أصبحت علامة فارقة وكاشفة لجوهر الهوية المصرية الكامن تحت الطبقة السطحية الرقيقة من الطائفية.
ينبغي ألا نفوت الفرصة التي وفرها هذا التلاحم الشعبي، وخروج الشباب المسلم والقبطي ضد الطائفية وضد الإرهاب، في إزالة جميع المعوقات التي تعترض تحقيق هدف بناء الدولة المدنية بمعناها الصحيح والشامل، أي أن تكون دولة علمانية وديمقراطية في آن واحد، وإرساء قيم المواطنة الحقة، وإزالة جميع صور التمييز بين مواطني مصر جميعا بصرف النظر عن الدين أو المعتقد أو الإقليم أو الطبقة الاجتماعية، ويدعم عمل اللجنة في هذا الوعد الذي قطعه الرئيس مبارك في ختام كلمته بتاريخ 25 ديسمبر 2010 أمام المؤتمر السابع للحزب الوطني بتحقيق "انطلاقة نحلم بها ونسعى إليها تستكمل أركان مجتمع مصري حديث ومتطور يدفع بجميع فئات شعبه إلى الأمام ويعزز الأمل والثقة بالمستقبل في قلوب أبنائه، مجتمع يرسخ دعائم الدولة المدنية لا يخلط الدين بالسياسة ويعزز قيم المواطنة والمشاركة بين مسلميه وأقباطه، مجتمع متماسك يحفظ وحدته الوطنية ويقطع الطريق على قوى الإرهاب والتطرف"، ويمكن تلخيص الخطوات التنفيذية لاستكمال مدنية الدولة فيما يلي:
أولا: تعديلات دستورية مثل: النص صراحة في المادة الأولى على أن مصر دولة "علمانية ديمقراطية"، وإلغاء المادة الثانية التي تنص على أن "مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع" أو تعديلها بحيث تعود إلى ما كانت عليه في الدساتير السابقة على دستور 1971، وإلغاء التحفظ "دون إخلال بأحكام الشريعة الإسلامية" الوارد في المادة (11) الخاصة بمساواة المرأة بالرجل، وإلغاء المادة (19) والتي تنص على أن "التربية الدينية مادة أساسية في مناهج التعليم العام"، فليس من وظائف الدولة إدخال المواطنين الجنة.
ثانيا: تعديلات تشريعية وقانونية مثل: إلغاء المادة (6) من قانون التعليم رقم 139 لسنة 1981 التي تنص على أن "التربية الدينية مادة أساسية في جميع مراحل التعليم، ويشترط للنجاح فيها الحصول علي 50% علي الأقل من الدرجة المخصصة لها علي ألا تحسب درجاتها ضمن المجموع الكلي، وتنظم وزارة التربية والتعليم مسابقات دورية لحفظة القرآن الكريم وتمنح المتفوقين منهم مكافآت وحوافز وفقاً للنظام الذي يضعه المجلس الأعلى للتعليم"، وإصدار القانون الموحد لدور العبادة، وإتاحة حرية بناء الكنائس، والتخلص من القوانين المعوقة لذلك، بدءا من القواعد العشرة للعزبي باشا الصادرة في عام 1934، وحتى القرار الجمهوري لعام ٢٠٠٥ بتفويض المحافظين في ترميم الكنائس، وإصدار قانون "تكافؤ الفرص ومنع التمييز" الذي يجرم أي تمييز على أساس الدين أو الجنس أو العرق ويعاقب عليه بجزاء قانوني، يحاسب بموجبه كل من يثبت ممارسته التمييز ضد أي مواطن أو مواطنه، وإنشاء هيئة قومية تتولى مراقبة حقوق المواطنة وتضطلع بمهمة تلقي الشكاوى الخاصة بالتمييز ضد المواطنين والبت فيها، وإصدار قانون مدني موحد للأحوال الشخصية، يطبق على جميع المصريين والمقيمين في مصر، وينظم الزواج والطلاق والميراث، وغيرها من الأمور التي تعالجها القوانين الدينية المعمول بها حاليا والتي تعد سببا رئيسيا للاحتقان الطائفي، وأخيرا إلغاء خانة الديانة من البطاقات الشخصية واستمارات التوظيف، ليس بهدف أن ينكر أي إنسان دينه، ولكن بهدف وضع علاقة الدولة بالمواطن في مكانها الصحيح كدولة محايدة تجاه معتقدات مواطنيها الدينية، وأن المواطنين جميعا أمام القانون سواء، وأن تكافؤ الفرص حق مكفول لهم جميعا.
ثالثا: إصلاح نظام التعليم من خلال: إعمال حزمة من التدخلات الإدارية الصارمة لاستئصال التخلف والتعصب الديني من مؤسسات التعليم عن طريق:
o تطبيق معايير صارمة لتقييم أداء المعلمين ومدى التزامهم بقواعد واضحة ومعلنة للتدريس والسلوكيات في الفصول المدرسية وفي تعاملهم مع الطلاب، ويتعهد المعلمون بالالتزام بها.
o التأكد من اجتياز المعلمين والمعلمات عدد من الدورات المؤهلة تربويا بما في ذلك دورات في حقوق الإنسان ومعاييرها العالمية.
o إعادة تأهيل العاملين بالوظائف التدريسية بعقد دورات تدريبية مناسبة وضمان اجتيازها بنجاح.
ودمج المعاهد الأزهرية ضمن منظومة التعليم المدني تحت إشـــــراف وزارة التربية والتعليم، وأن تعود جامعة الأزهر لتصبح جامعة دراسات دينية إسلامية يلتحق بها الراغبين بعد انتهائهم من التعليم الجامعي، مع تطوير الدراسات الدينية بحيث تعالج مشاكل وقضايا الحاضر والمستقبل بدلا من حبسها في إطار الماضي السحيق، ومراجعة كافة المواد الدراسية لتنقيتها من كل ما يعمق التقسيم والفرز الطائفي بين المواطنين المصريين، والتأكد من أن تدريس الأديان يتم فقط في المقررات الدينية وفي إطار أخلاقي مشترك، وتدريس ما يساعد على التسامح وقبول التعددية والتنوع واحترام حقوق الإنسان والحرية الدينية، الاستفادة من خبرات وتجارب البلدان المتقدمة في القضاء على كافة أنواع التمييز وخاصة التمييز الديني في المدارس والجامعات، عن طريق تطوير المناهج، ومحتوى ومضمون المقررات التعليمية، ونظم التقييم والامتحانات، وأساليب التعلم، وتعديل كافة التشريعات بما يضمن المساواة وتكافؤ الفرص ومنع كافة أشكال التمييز في المؤسسات التعليمية.
رابعا: إصلاح منظومة الإعلام من خلال: إنشاء مجلس قومي مستقل للإعلام المرئي والمسموع غير خاضع لأي سيطرة أو تدخل حكومي يتولى مراقبة احترام وسائل الإعلام المصرية لحرية التعبير، والتأكد من أنها لا تمارس الدعوة إلى الكراهية والتمييز على أساس الدين أو اللون أو العنصر أو الجنس أو على أي أساس آخر، ويعمل طبقا لمدونة مبادئ مهنية تجرم التمييز بكافة أشكاله، ويديره مجلس أمناء من الشخصيات العامة المعروفة باستقلاليتها، وإقامة مرصد مدني يتولى رصد الخطابات الطائفية وانتهاكات مبدأ المواطنة في الإعلام والثقافة والفن وغيرها من أشكال الخطاب العام، كما يتولى إجراء دراسات وأبحاث بشأن المواطنة فيما يتعلق بالوعي العام وجذور التمييز الديني والخطابات الطائفية وطبيعتها ومقولاتها الأساسية، بما يتيح وضع أسس فكرية ومنهجية عميقة لخطاب المواطنة، ومخاطبة المواطنين والسلطات العامة وفقا لنتائجها،
وأن تعمل المؤسسات الإعلامية على إصدار مدونة سلوك أو دليل تحرير يحكم العمل الإعلامي فيما يتعلق بتغطية الشئون الدينية والأحداث ذات الطابع الطائفي، وضرورة التزام وسائل الإعلام سواء المملوكة للدولة أو للقطاع الخاص والتي تتناول الشئون الدينية أو الأحداث الطائفية بالأصول المهنية في صياغة وتحرير الأخبار والتقارير وفقا للقواعد المهنية السليمة من حيث دقة وتوثيق المعلومات، ونسبة الأقوال والأفعال إلى مصادر معلومة كلما كان ذلك متاحا وممكنا، والتأكد من احترام المعتقدات الدينية وعدم الإساءة إليها أو تناولها بالتجريح، ذلك أن كل إنسان إنما يؤمن بمعتقده الديني إيماناً مطلقاً ويرفض المساس به أو تناوله بالنقد الجارح، مما يتطلب الالتزام بالقيم التي تحافظ على وحدة المجتمع المصري بكل تنوعه وتناغمه وعلى رأسها قيمة المواطنة،
وأخيرا تفعيل المبادئ الواردة في ميثاق الشرف الصحفي الذي وافق عليه المجلس الأعلى للصحافة والصادر بتاريخ 26/3/1998 وينص في المادة الثانية من باب التزامات الصحفي على "الالتزام بعدم الانحياز في كتاباته إلى الدعوات العنصرية أو المتعصبة أو المنطوية على امتهان الأديان أو الدعوة إلى كراهيتها، أو الطعن في إيمان الآخرين، أو تلك الداعية إلى التمييز أو الاحتقار لأي من طوائف المجتمع"، وأن يتأكد المجلس الأعلى للصحافة من تطبيق المادة (20) من قانون تنظيم الصحافة لسنة 1996 التي تتضمن نفس النص السابق.
خامسا: مواجهة التحرش الديني عن طريق: حظر بناء المساجد أمام الكنائس أو ملاصقة لها أسوة بما هو متبع عند بناء الكنائس، وإلى أن يصدر القانون الموحد لبناء دور العبادة، ومنع رجال الدين من مهاجمة المخالفين في الدين في خطب الجمعة بالمساجد، وفي عظات الكنائس، وحظر السجال العقيدي والتلاسن الديني في الفضائيات وغيرها من وسائل الإعلام، وإلزام جميع الناس بالنظام العام في عباداتهم، فلا مايكروفونات خارج المساجد، ولا صلوات في الطرق العامة، ولا ملصقات دينية في الأماكن العامة.
قد تكون هناك صعوبات عملية في التطبيق الفوري لكل الخطوات التنفيذية المذكورة أعلاه، وقد يستدعي الأمر التدرج في تطبيقها ولكن المهم أن نبدأ، وعلى كل القوى المناهضة للتمييز الديني والفرز الطائفي الدعوة إلى هذه الأهداف وتطويرها والترويج لها، والعمل على نشر مفاهيم الدولة المدنية والمواطنة، وحقوق الإنسان ويدعمنا في هذا أن الظرف التاريخي الحالي – بعد حادثة كنيسة القديسين - قد نضج بما يسمح للشعب بأن ينصت وأن يتعرف على مفاهيم الثقافة الحديثة، ومن بينها ضرورة فصل الدين عن الدولة وأن تكون هذه الدولة لكل مواطنيها دون تفرقة على أساس الدين أو الجنس أو العنصر أو اللون أو الأصل الجغرافي أو الموقع الطبقي والاجتماعي أو الانتماء السياسي.