نحن والطاقة النووية - 5
محمد منير مجاهد
الحوار المتمدن
-
العدد: 5751 - 2018 / 1 / 8 - 16:45
المحور:
الطبيعة, التلوث , وحماية البيئة ونشاط حركات الخضر
تعد مشكلة التخلص الآمن من النفايات النووية من أكثر العوائق وضوحا أمام مستقبل الطاقة النووية، وهناك إجماع دولي حول وجوب التخلص من النفايات بشكل آمن لا يتعارض مع صحة الإنسان ونظافة البيئة، وليس هناك شك في أن الادعاء بان النفايات تمثل مشكلة دون حل قد أثار مخاوف الجماهير وهو ما يلعب عليه أعداء الطاقة النووية في مصر والعالم، وقبل أن نتناول هذا الأمر، علينا أن نحدد أولا ما المقصود بالنفايات.
النفايات هي مواد لا يمكن الاستفادة منها تنتج عن استخدام منتج ما، واستخدام المحطات النووية في توليد الكهرباء ينتج عنه نفايات شأنها في ذلك شأن أنواع المحطات الحرارية التقليدية لتوليد الكهرباء والتي تستخدم الفحم أو البترول أو الغاز الطبيعي، وأن كانت تختلف عنها في نوعية وطبيعة النفايات. فاستخدام الفحم في محطات توليد الكهرباء بقدرات في حدود ألف ميجاوات كهربي ينتج عنه سنويا نفايات تطلق في الجو تزيد على مائة ألف طن من المواد الضارة والسامة بالإضافة إلى حوالي مليون طن نفايات في صورة رماد.
وتتميز المحطات النووية عن محطات الفحم بأنها تتيح إنتاج نفس الطاقة الكهربية من كمية وقود أقل بكثير من محطات الفحم، حيث أن طن واحد من الوقود النووي في المحطات النووية الحالية يتيح إنتاج طاقة كهربية تعادل حرق حوالي مائة ألف طن من الفحم. ، ويُستَخرَج من قلب مفاعل قدرته 1000 ميجاوات (مثل المزمع بناءه في الضبعة) نحو 27 طن في العام من الوقود المستهلَك، والذي يمكن اعتباره كله كمخلفات نووية، أو يمكن إعادة معالجته بهدف استخلاص المواد النافعة منه، مثل اليورانيوم الذي لم يُستهلَك والبلوتونيوم الذي تولد، لإعادة استخدامهما كوقود بالمفاعلات النووية، وفي هذه الحالة تنخفض كمية المخلفات النووية إلى 700 كجم في السنة، ونتيجة لذلك فان حجم ووزن نفايات المحطات النووية أقل بكثير من نفايات محطات الفحم ذات نفس القدرة. غير أن نفايات المحطات النووية لتوليد الكهرباء لها خاصية الإشعاعية ومن ثم توضع المعايير والقواعد الصارمة التي تنظم التعامل معها بحيث لا تعرض الإنسان أو البيئة لأي أخطار ناجمة عنها. وجدير بالذك، أن نفايات محطات الفحم تحتوى أيضا على مواد مشعة وان كان بصورة أقل من المحطات النووية.
وتشمل النفايات النووية المكونات التالية
• نفايات مناجم اليورانيوم: وهى النفايات الناتجة عن عمليات استخراج اليورانيوم وتنقيته. وتحتوى هذه النفايات على نسبة ضئيلة جدا من اليورانيوم غير المستخلص ومواد أخرى ناتجة عن التحليل الإشعاعي البطيء لليورانيوم عبر ملايين السنين. وهذه النفايات جميعها موجودة أصلا في خام اليورانيوم الموجود في الطبيعة، ولا تشكل عمليات استخراج اليورانيوم أو تنقيته أية زيادة فيها.
• نواتج الانشطار الإشعاعي النووي في وقود المفاعلات النووية: وتحتوى على العديد من العناصر المشعة.
• مواد مشععة: مثل مكونات المفاعل النووي التي تكتسب خاصية الإشعاعية بتعرضها للنيوترونات المنطلقة أثناء عمليات الانشطار النووي.
ومن أهم خصائص النفايات النووية هي التحلل الإشعاعي والإشعاعات النووية التي تنطلق منها، وخاصية الانبعاث الحراري المصاحب لها. وتصنف النفايات المشعة عادة من حيث مستوياتها الإشعاعية إلى ثلاثة مستويات هي:
1- النفايات منخفضة المستوى الإشعاعي: وتشمل عادة نفايات الاستخدامات الطبية والصناعية للمواد المشعة وبعض النفايات النووية، وهى عادة تحتوى على مواد مشعة ذات فترات نصف عمر إشعاعي قصيرة، وتحتوى على كميات ضئيلة جدا من المواد المشعة ذات فترات نصف العمر الإشعاعي الطويلة. ويتم التخلص عادة من هذه النفايات المنخفضة المستوى الإشعاعي إما بإطلاقها في الجو بعد ترشيحها وتنقيتها وتخفيفها وفى حدود القواعد والتشريعات الصارمة المعمول بها، بحيث لأتشكل أدنى تأثير على الإنسان أو البيئة، أويتم التخلص منها بتركيزها وتعبئتها ثم تخزينها في أماكن تخزين خاصة.
2- النفايات متوسطة المستوى الإشعاعي: وتشمل بعض نواتج الانشطار النووي وبعض المواد المشعة وأحيانا بعض المواد الاكتينيدية (وهي مواد غير موجودة في الطبيعة وتنتج عن امتصاص وقود اليورانيوم بالمفاعل للنيوترونات دون أن تؤدي إلى انشطار نووي، وبالتالي تتحول إلى مواد أخرى أثقل من اليورانيوم) ذات فترات نصف العمر الإشعاعي الطويلة، ويتولد عنها عادة انبعاث حراري بسيط.
3- النفايات عالية المستوى الإشعاعي: وتشمل معظم نواتج الانشطار النووي والمواد الاكتينيدية وتتميز بمعدلات عالية من الانبعاث الحراري الإشعاعي ويندرج الوقود المستنفذ تحت هذا المستوى من النفايات.
وتنتج النفايات النووية أثناء المراحل المختلفة التي تمر بها دورة الوقود النووي (غالبا اليورانيوم) بدءً من مرحلة استخراجه وتنقيته ومرورا بتصنيعه واستخدامه بالمفاعل النووي وانتهاء بالتعامل مع الوقود النووي المستنفذ وذلك بتخزينه أو معالجته لاستخلاص المواد النافعة منه.
استخراج اليورانيوم وتنقيته
عمليات استخراج اليورانيوم وتنقيته لا ينتج عنها نفايات نووية جديدة، والذي يتم في هذه العملية هو استخراج اليورانيوم وتكسيره وتفتيته ومعالجته كيماويا للحصول على خام اليورانيوم بصورة أكثر تركيزا (يطلق عليه ركاز اليورانيوم أو العجينة الصفراء)، وأثناء هذه العملية لا تتولد نفايات نووية إضافية، وكل ما ينتج عنها هو ما يسمى " ببقايا المنجم " وهى المواد المشعة التي كانت موجودة أصلا مع خام اليورانيوم والتي نتجت أثناء سلسلة تحولاته الإشعاعية المستمرة، وهذه يكفي تغطيتها بالطفلة والصخور في منطقة المنجم أو ضغطها تحت الماء ومنع انتشارها وتعرض الإنسان لها بإقامة التجهيزات والحواجز الهندسية المناسبة.
تشغيل المفاعل النووي
نفايات المفاعل النووي منخفضة ومتوسطة المستوى الإشعاعي: تنتج هذه النفايات أثناء تشغيل وصيانة المحطات النووية وتكون على صور المادة الثلاث وهى الغازية والسائلة والصلبة. والمحطة النووية مجهزة بالنظم والأجهزة اللازمة للتعامل معها والتخلص من هذه النفايات، ولم يسجل لهذه النوعية من المفايات أي تأثيرات ضارة على الإنسان أو البيئة. ومن الأدلة على ذلك أن الإنسان المقيم بجوار سور المحطة النووية يتعرض لإشعاعات لا تزيد على نصف ما يتعرض له من الكشف مرة واحدة بالأشعة السينية على الصدر أو الأسنان.
نفايات المفاعل النووي عالية المستوى الإشعاعي: تظل حزم الوقود النووي داخل المفاعل لفترة تصل عادة إلى أكثر من عام يتم خلالها استنفاذ نسبة كبيرة من نظير اليورانيوم – 235 القابل للانشطار، ويتكون أثناء ذلك داخل أعمدة الوقود النووي نواتج الانشطار النووي والمواد الاكتينيدية وهما المكونان الرئيسيان للنفايات عالية المستوى الإشعاعي. ويتم بعد ذلك استبدال حزم الوقود النووي المستنفذ بحزم وقود نووي أخر جديد. وتحتفظ حزم الوقود المستنفذ الخارج من المفاعل النووي بشكلها العام الأولى غير أن الوقود يكون عند مستويات إشعاعية عالية جدا تضمحل تدريجيا وذلك نتيجة للتحلل الإشعاعي لمعظم نواتج الانشطار (وقليل من المواد الاكتينيدية) ذات فترات نصف العمر الإشعاعي القصيرة والتي تتراوح بين بضع ثواني وشهور قليلة. غير أنه نتيجة لوجود مواد مشعة أخرى ذات فترات نصف عمر إشعاعي طويلة تصل إلى آلاف السنين (ومعظمها من المواد الاكتينيدية) فان الوقود المستنفد يظل مصدرا للإشعاعات والحرارة لسنوات طويلة وان قلت مستوياتهما مع مرور الوقت.
ونستعرض هنا العمليات الرئيسية لمراحل واختبارات التعامل مع الوقود المستنفذ بعد سحبه من المفاعل النووي وهى :
1. التخزين المرحلي للوقود المستنفذ:
الهدف من التخزين المرحلي للوقود المستنفذ بعد سحبه من المفاعل هو إتاحة الوقت الكافي له حتى تنخفض نسب إشعاعيته وحرارته. وفيها يتم حفظ الوقود مرحليا بموقع المحطة النووية في أحواض عميقة ويغمر في الماء بحيث يرتفع الماء فوقه بحوالي 4-6 أمتار. ويستخدم الماء لغرضين أساسيين: أولهما قدرته على امتصاص الإشعاعات الصادرة من الوقود المستنفذ وبذلك يوفر عنصر الوقاية الإشعاعية للعاملين بالمحطة النووية، وثانيهما التبريد المستمر واللازم للوقود المستنفذ وذلك بسحب الحرارة المنبعثة منه بصفة مستمرة نتيجة التحلل الإشعاعي للمواد المشعة الموجودة به. هذا بالإضافة إلى أن الماء يوفر وسيلة عملية للمشاهدة البصرية المستمرة للوقود ومتابعة أمان حفظه وتجهيز أحواض التخزين بوسائل التنقية المستمرة وأجهزة الرقابة الإشعاعية وقد استخدمت هذه الطريقة للتخزين المرحلي للوقود بأمان كامل منذ أكثر من ثلاثين عاما ودون وقوع أي حوادث تضر بالإنسان أو البيئة. بعد عام واحد من التخزين المرحلي للوقود المرحلي للوقود المستنفذ ينخفض مستوى إشعاعيته إلى حوالي 12 % من المستوى الأصلي لإشعاعيته عند إخراجه من المفاعل. وبعد خمسة أعوام تنخفض الإشعاعية إلى 3% من المستوى الأصلي. وتستمر الإشعاعية في الانخفاض بعد ذلك مع وقت التخزين.
2. التخزين المؤقت للوقود المستنفذ:
تهدف هذه المرحلة إلى تخزين الوقود المستنفذ لفترة طويلة نسبيا ( تصل إلى عشرات السنين ) مقارنة بفترة التخزين المرحلي للوقود المستنفذ، وذلك تمهيدا للتعامل معه بإحدى الإستراتيجيتين:
أ- إعادة معالجة الوقود المستهلك بهدف استخلاص المواد النافعة منه مثل اليورانيوم الذي لم يستهلك والبلوتونيوم الذي تولد لإعادة استخدامهما كوقود بالمفاعلات النووية.
ب- حفظ الوقود المستهلك وإعداد الترتيبات الفنية اللازمة لتجهيزه وتعبئته ونقله فى حاويات مخصصة إلى مستودعات التصريف النهائي، وهو النهج الذي تتبعه معظم دول العالم التي لا تتبنى عمليات إعادة المعالجة.
ويتم التخزين المؤقت للوقود المستنفذ في تجهيزات هندسية تعد وفقا لمعايير أمان صارمة بغرض حماية الإنسان والبيئة، ويتوافر في هذه التجهيزات وسيلة تبريد للوقود أثناء تخزينه. ويوجد في العالم حاليا طريقتان رئيسيتان للتخزين المؤقت للوقود المستنفذ:
- طريقة التخزين المائي: وفيها يحفظ الوقود مغمورا في الماء داخل أحواض مجهزة بدوائر تبريد وتنقية للماء.
- طريقة التخزين الجاف: وفيها يحفظ الوقود في تجهيزات هندسية خاصة (داخل أوعية خاصة للتخزين الجاف أو داخل نفس أوعية نقل الوقود) ويبرد الهواء الذي يمر من خلال مرشحات عالية الكفاءة لتنقيته من أي مواد مشعة قبل إطلاقه إلى البيئة الخارجية. ويتم اختيار مواقع التخزين المؤقت للوقود المستنفذ إما بجوار موقع المحطة النووية (وهو ما ستتضمنه محطة الضبعة النووي)، أو بمنطقة مركزية بعيدا عن موقع المحطة النووية. ويخضع هذا الاختيار لاعتبارات اقتصادية وتكنولوجية وجيولوجية.
3. التخزين النهائي للنفايات عالية الإشعاع :
تهدف عملية التخزين النهائي للنفايات عالية الإشعاع إلى منع تسربها أو تسرب الإشعاعات الصادرة منها إلى الإنسان أو إلى طعامه وشرابه، وذلك لفترات زمنية طويلة، وقد وجد أن أكثر الطرق فاعلية من النواحي الاقتصادية والتكنولوجية والبيئية لتحقيق ذلك هو حفظ النفايات في صورة مركبات عديمة الذوبان في الماء داخل أوعية شديدة المقاومة للتآكل ثم دفنها في الأعماق الجيولوجية المستقرة. التي تضمن عدم تسرب أية إشعاعات أو مواد مشعة منها ووصولها إلى الإنسان سواء بطرق مباشرة أو غير مباشرة ونظرا لان هذه التكوينات الجيولوجية تكون عادة على أعماق سحيقة تحت الأرض فان جميع الإشعاعات الصادرة من النفايات المشعة المختزنة بها لا يمكنها الوصول إلى السطح، وخاصة لذا علمنا أن إشعاعات جاما – التي تعتبر أقوى أنواع الأشعات النووية قدرة على النفاذ – تمتص كاملة في حدود بضعة أمتار في هذه التكوينات الجيولوجية التي تتميز أيضا بانعزالها التام عن مصادر المياه الجوفية وذلك لضمان عدم وصول هذه المياه الجوفية إلى مواقع تخزين النفايات وإحداثها تآكلات بأوعية التخزين، يتبعها إذابة وامتصاص جزء من المواد المشعة بهذه النفايات لتجد طريقها إلى الإنسان.
ويعتمد أمان تخزين النفايات عالية الإشعاع على مبدأ تعدد الحواجز الإشعاعية والتي تمنع وصول الإشعاع أو المواد المشعة إلى الإنسان، وأهم هذه الحواجز هي:
أ - الحاجز الإشعاعي الأول :
باحتواء النفايات في صورة مركبات صلبة عديمة الذوبان في الماء تشكل حاجزًا يمنع تسرب المواد المشعة المحتجزة بها. بالاضافة إلى أن مادة الغلاف المعدني لأعمدة الوقود النووي، والتي تكون عادة من معدن الزركونيوم، تتميز بمقاومتها العالية للتآكل وتشكل حاجزًا إضافيًّا يمنع تسرب المواد المشعة خارجه.
ب- الحاجز الإشعاعي الثاني:
أوعيه حفظ النفايات. تُحفظ النفايات عالية الإشعاع داخل أوعيه خاصة من الصلب غير القابل للصدأ، وذات سُمك مناسب لتحمل الضغوط العالية مثل تلك الضغوط على الغواصات، وفي بعض تصميمات أوعيه حفظ النفايات عالية المستوى الإشعاعي، تُخلط هذه النفايات داخل الأوعية بمصهور من الرصاص أو القصدير يتيح تدريع إضافي لهذه الأوعية.
ج- الحاجز الإشعاعي الثالث:
مواد الحشو حول أوعيه حفظ النفايات. تحاط أوعيه حفظ النفايات في موقع التخزين داخل التكوينات الجيولوجية بطبقات مضغوطة من مواد الحشو والعزل، والتي تمثل حاجزًا إضافيًّا لمنع وصول المياه الجوفية للأوعية.
د- الحاجز الإشعاعي الرابع: ا
لتكوينات الجيولوجية. التي تشكل حاجزًا إشعاعيًّا مهمًا يمنع وصول الإشعاعات والمواد المشعة إلى الإنسان، سواء بالطرق المباشرة أو غير المباشرة. ولذلك تُختار هذه التكوينات الجيولوجية طبقًا لمعايير أمان دقيقة بعد دراسات جيولوجية وزلزالية مستفيضة للتأكد من نوعية وخواص واستقرار هذه التكوينات الجيولوجية ومواءمتها لحفظ النفايات.
وجدير بالذكر أنه منذ 1700 مليون سنة نشأ مفاعل نووي طبيعي في ترسيبات من اليورانيوم قرب موقع (OKLO) بدولة الجابون بغرب أفريقيا. واستمر نشاط هذا المفاعل حوالي مائه ألف عام ونتج عنه، كأي مفاعل نووي، تولد كميات من البلوتونيوم. وأظهرت الدراسات والبحوث أن هذا البلوتونيوم لم يتسرب على الإطلاق من موقع تكوينه، بل استمر في تحلله الإشعاعي البطيء جدًا وتحول إلى مواد غير مشعة في نفس موقع تكونه. وهذه الحقيقة المستوحاة من صفحات التاريخ الجيولوجي للأرض كفيله بتبديد أي وساوس عن كفاءة وفعالية تخزين النفايات عالية الإشعاع في التكوينات الجيولوجية المناسبة.
إن التخلص النهائي من النفايات النووية ليس بالمشكلة عصية الحل، وتتحرك دول العالم لحلها، وسوف نطبق في مصر ما تفعله بقية الدول. وفي كل الأحوال لن نحتاج إلى تطبيق هذه الحلول قبل 100 سنة من الآن.