نحن والطاقة النووية - 4
محمد منير مجاهد
الحوار المتمدن
-
العدد: 5737 - 2017 / 12 / 24 - 17:25
المحور:
الطبيعة, التلوث , وحماية البيئة ونشاط حركات الخضر
يزعم أعداء الطاقة النووية أنها ملوثة للبيئة، وأن دول العالم تتراجع عن استخدامها، كما يعمدون إلى إثارة المخاوف من وقوع حوادث نووية والزعم باستحالة التشغيل الآمن المحطات النووية، ومن إمكانية التخلص الآمن من النفايات النووية، ... الخ. وقبل الرد على هذه المزاعم سوف نعرض في عجالة التدابير والإجراءات والمبادئ الهندسية لضمان التشغيل الآمن للمحطات النووية.
ونبدأ بإقرار حق كل إنسان في أن يطمئن إلى أن وجود أي منشأة صناعية في الجوار لن يكون لها تأثيرات معاكسة على صحته وصحة أسرته، وألا يكون لها تأثيرات تنتقل وراثيًّا من جيل لجيل لتصيب أولاده وأحفاده. وفي العقود الأخيرة أصبحت قضية توفير مصادر الطاقة اللازمة لنمو ورفاهية المجتمعات، وحسن استخدامها، وآثارها المختلفة على البيئة – بما في ذلك الآثار الاقتصادية الاجتماعية - وعلى صحة الإنسان، من الموضوعات التي تلعب الجماهير دورًا متزايدًا في تقريرها.
وتحتل سلامة الطاقة النووية واستخداماتها المختلفة بؤرة اهتمام لعامة الناس في كافة البلدان التي تستخدم – أو في سبيلها لاستخدام - الطاقة النووية في توليد الكهرباء أو تدفئة المناطق السكنية أو تحلية مياه البحر. وتنبع المخاوف والأخطار المرتبطة باستخدامات الطاقة النووية من حقيقة أن كمية الطاقة الناتجة من انشطار ذرة وحيدة من اليورانيوم أكبر ملايين المرات من الطاقة الناتجة من حرق ذرة من الكربون (بالوقود الأحفوري)، وأنه تتولد وتتراكم كميات من نواتج الانشطار المشعة داخل قلب المفاعل، ينطلق منها سيل من الجسيمات النووية أو الأشعة ويصاحبهما طاقة، والأشعة لا يمكن إدراكها بالوسائل الحسية الخمسة للإنسان، ولكن يمكن رصدها وقياسها بسهولة باستخدام الأجهزة المناسبة، كما يمكن استخدام التدابير الهندسية للوقاية منها.
وعلى الرغم من الفوائد المعروفة لاستخدام الأشعة في التشخيص والعلاج، فإن التعرض لجرعات إشعاعية أعلى من المسموح به يكون له تأثيرات ضارة على الصحة والبيئة، وهذا الخطر المحتمل (حرارة-إشعاع) يتم التحكم فيه بصرامة من خلال المتطلبات، والمعايير، والإجراءات التي تُتخَذ في كل مرحلة من التصميم والبناء والتشغيل والصيانة للمفاعلات لضمان سلامة الإنسان ومحيطه الحيوي.
وسوف نحاول في عجالة استعراض التدابير الهندسية المستخدمة لضمان أمان المفاعلات النووية.
أولاً: اختيار مواقع المحطات النووية
وقد عالجنا هذا الموضوع في مقال سابق ( http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=583472)
ثانيًا: تصميم وبناء تشغيل وصيانة المفاعلات النووية
الهدف العام للأمان النووي هو حماية الأشخاص والمجتمع والبيئة من أي مخاطر إشعاعية قد تنجم من جراء استخدام الطاقة النووية. ويُقصد بالمخاطر الإشعاعية أي تأثيرات صحية سلبية نتيجة التعرض للإشعاع على كل من العاملين وأفراد الجمهور العادي، والتلوث الإشعاعي للأرض والهواء والمياه أو المنتجات الغذائية.
وتتلخص الأهداف الفنية للأمان بالمحطات النووية في: منع - وبدرجة عالية من اليقين - وقوع حادثة في المحطة النووية، والتأكد من أن كل الحوادث المحتملة قد تم أخذها في الاعتبار في تصميم المحطة النووية، وأخيرًا أن التأثيرات الإشعاعية، إن حدثت، سوف تكون أقل ما يمكن.
أما وظائف الأمان النووي فتتلخص في: التحكم والسيطرة على التفاعلات النووية، والتبريد المستمر للوقود بقلب المفاعل ومنشآت التخزين والحفظ للوقود المستهلك، واحتواء المواد المشعة ومنع تسربها إلى الأفراد أو البيئة المحيطة.
المبادئ الأساسية للأمان النووي
تتلخص هذه المبادئ في الخمسة مبادئ التالية: مبدأ الدفاع في العمق، ومبدأ تعدد الحواجز لمنع تسرب المواد المشعة، ومبدأ التكرار، ومبدأ التنوع، ومبدأ الفصل الفيزيائي. وفيما يلي توضيح لما تتضمنه هذه المبادئ.
1- مبدأ الدفاع في العمق
يُعد استراتيجية شاملة تستهدف التشغيل الآمن للمحطة النووية وحماية الإنسان والبيئة من أي أضرار. ويرتكز على السمات الرئيسية لتوليفة المكونات المستخدمة بالمفاعل وعلى تفعيل عدد من التدابير الهندسية لتحقيق الأمان النووي.
يتكون من عدة مستويات متعاقبة لمجابهة أي خطأ بشري أو خلل في المعدات، وحماية الإنسان والبيئة من الأضرار في حالة فشل أحد أو بعض تلك المستويات من أداء مهامها على الوجه الأكمل.
المستوى الأول: منع الحوادث النووية
من خلال تصمم المحطة النووية وفقًا لأدق وأحدث النظم الهندسية المطبقة عالميًّا، اختيار توليفة من المواد الداخلة في تكوين المفاعل وتتسم بخصائص لتحقيق الأمان الذاتي، أي معاكسة الظروف المؤدية إلى نشوء وارتقاء الحوادث بالمفاعلات، ووجود هامش للأمان يستوعب الزيادة في قيم عناصر التشغيل قبل الوصول للقيم الحرجة (الحرارة-الضغط)، وأخيرًا الالتزام الصارم بقواعد ضمان الجودة في جميع مراحل التصميم والتصنيع والتركيب والتشغيل.
المستوى الثاني: الرصد والتحكم في ظروف التشغيل غير الطبيعية
ويتم هذا عن طريق استخدام أنظمة متعددة لقياس مختلف قيم عوامل التشغيل وتحديد مصدر الأعطال، واستخدام أنظمة متنوعة للأمان لضمان التحكم في قدرة المفاعل والإيقاف الآمن له في حالات الطوارئ، واستخدام أنظمة متكررة للأمان لتبريد الوقود بقلب المفاعل تحت ظروف التشغيل المختلفة، والاعتماد على أكثر من مصدر متنوع لتوفير الكهرباء في حالات الطوارئ، والاهتمام بالعنصر البشري وتأهيله، والتدريب الدوري، والحصول على ترخيص.
المستوى الثالث: التحكم في، والسيطرة على، الحوادث النووية
وذلك باستخدام نظم الأمان بالمحطة للسيطرة على الحادثة النووية، واستخدام أنظمة التبريد وتجميع المواد المشعة المتسربة بأسفل مبنى وعاء الاحتواء، والتخلص من التركيز العالي للمواد القابلة للاشتعال (الهيدروجين)، واعتماد وتطبيق دوري لخطط الطوارئ، وتوفير مواد ومعدات وتدابير داخل وخارج المحطة النووية للتخفيف من عواقب تأثير المواد المشعة.
2- مبدأ تعدد الحواجز لمنع تسرب المواد المشعة
توفر الحواجز سلسلة من الدفاعات لسد الطريق أمام المواد المشعة بالوقود النووي ومنعها من الوصول إلى العاملين أو الجمهور أو البيئة. ومن بينها:
• الوقود النووي: يتم احتواء نواتج الانشطار بداخل أقراص الوقود الصلبة وفي شكل السيراميك.
• أغلفة الوقود: لمنع تسرب نواتج الانشطار التي تنطلق قريبًا من سطح أقراص الوقود، وغالبًا ما تكون من الزركونيوم أو الصلب غير قابل للصدأ.
• دائرة تبريد المفاعل المغلقة: لاحتواء أي نواتج انشطار قد تتسرب من أعمدة الوقود.
• وعاء المفاعل: وهو مصنوع من الصلب وبسمك يصل إلى 25 سم.
• مبنى احتواء المفاعل وملحقاته: حائط من الخرسانة المسلحة بسمك يزيد عن 1 متر ومبطن من الداخل بطبقة من الصلب غير القابل للصدأ.
3- مبدأ التكرار
يعتمد تحقيق الأمان بالمحطات النووية على استخدام نظامين أو مكونين أو أكثر لأداء نفس الوظيفة بحيث أن خسارة أحدهم لا تؤثر على تحقيق الأمان، مثلاً: استخدام أكثر من خزان مياه لتبريد المفاعل في حالات الطوارئ، وكل خط لضخ المياه به مضختان على التوازى، استخدام أكثر من مصدر للكهرباء للاستخدام في حالات الطوارئ.
4- مبدأ التنوع
يعتمد على استخدام نظامين أو مكونين أو أكثر لأداء نفس الوظيفة وبشكل مختلف، مثلاً: يتم التحكم في قدرة المفاعل بواسطة أعمدة تحكم صلبة وأيضًا يمكن أداء نفس المهمة باستخدام حمض البوريك.
5- مبدأ الفصل الفيزيائي
يعتمد على الفصل المادي بين الأنظمة أو المكونات التي تؤدي نفس الوظيفة، بحيث يمكن لأي منهم تأدية وظائفه دون التأثر بالظروف أو البيئة المحيطة بالآخر، مثلاً توجد غرفة تحكم رئيسية وغرف تحكم احتياطية كل منهما في مبنى مستقل ومنفصل تمامًا عن الآخر بحيث لا يؤثر ظرف معاكس (حريق مثلاً) على قيام الآخر بوظائفه.
ثالثًا: التخلص الآمن من المخلفات النووية عالية الإشعاع
وسوف نناقش هذا الموضوع تفصيلا في مقال قادم
يعتمد أمان وسلامة الطاقة النووية علي نفس العوامل المطبقة في اي صناعة مماثلة مثل: التخطيط الذكي، والتصميم السليم مع الهوامش المحافظة ونظم احتياطية، ومكونات عالية الجودة، بالإضافة إلى شيوع ثقافة السلامة المتطورة في كل مراحل المشروع النووية من التصميم وحتى التكهين بعد انتهاء العمر التشغيلي.
وتتوقف حياة المفاعلات التشغيلية علي الحفاظ علي هامش الأمان الخاص بها. ومن السيناريوهات النووية الخاصة حادثة فقدان سائل التبريد الذي يؤدي إلى انصهار قلب المفاعل النووي، وهو ما دفع إلى دراسة كل من الإمكانيات الفيزيائية والكيميائية فضلا عن الآثار البيولوجية لأي انتشار لتسرب إشعاعي. وكرس المسؤولون عن تكنولوجيا الطاقة النووية جهدا كبيرا لضمان عدم حدوث انصهار لقلب المفاعل، لأنه من المفترض ان انصهار القلب من شانه ان يعرض عامة الناس لأخطار كبيرة يمكن أن تؤدي للعديد من الإصابات والوفيات المحتملة، وقد نجحت الصناعة النووية في تجنب مثل هذه الحوادث، فمنذ عام 1954 وحتى الآن تراكمت فيها نحو 17.4 ألف مفاعل.سنة من التشغيل في 32 بلدا لم تقع سوي ثلاثة حوادث رئيسية في في تاريخ توليد الطاقة النووية المدنية هي:
• ثري مايل ايلاند (USA 1979): حيث أصيب المفاعل بأضرار شديدة ولكن المواد المشعة تم حصرها في داخل وعاء الاحتواء ولم تكن هناك أي عواقب صحية أو بيئية ضارة.
• تشيرنوبيل (أوكرانيا 1986): حيث تم تدمير المفاعل بسبب الانفجار البخاري والحريق ولعدم وجود وعاء احتواء فقد أدى الحادث إلى مقتل 31 شخص فورا وترتبت عليه عواقب صحية وبيئية كبيره. وارتفع عدد القتلى منذ ذلك الحين إلى حوالي 56، معظمهم من عمال الإطفاء الذين تعرضوا لجرعات كبيرة من الإشعاع.
• فوكوشيما (اليابان 2011): حيث خروج ثلاثة مفاعلات قديمه (مع رابع) من الخدمة نهائيا بسبب فقدان مياه التبريد نتيجة للتعرض لأمواج مد زلزالي (تسونامي) ضخمة لم يمكن احتواء آثارها، ولم ينجم عن الحادث أي وفيات أو إصابات خطيرة بسبب النشاط الإشعاعي، على الرغم من ان حوالي 19 ألف شخص قتلوا من جراء أمواج التسونامي.
يشيع معارضو الطاقة النووية أن دول العالم تتراجع عن استخدامها، وأن مصر باختيارها الطاقة النووية كمصدر لتوليد الكهرباء تسير عكس التيار، ويكفي الدخول على منظومة معلومات مفاعلات القوى التابعة للوكالة الدولية للطاقة الذرية ( https://www.iaea.org/pris/ ) للتأكد من كذب هذه الإدعاءات ونجد أنه قد بلغ عدد المفاعلات الشغالة في العالم 448 مفاعل في 31 دولة، وعدد المفاعلات تحت الإنشاء 59 مفاعل في 16 دولة، منها 19 مفاعل في الصين، 7 مفاعل في روسيا، و6 في الهند، و4 في كوريا الجنوبية، ومفاعلين في كل من أوكرانيا (حيث وقعت حادثة تشيرنوبيل) واليابان (حيث وقعت حادثة فوكوشيما).
تشير بيانات الوكالة الدولية للطاقة الذرية (IAEA) والجمعية النووية العالمية (WNA) إلى أن أغلب الدول اتفقت على أن الطاقة النووية ضرورية، وأنه يجب استخلاص الدروس المستفادة من الحادثة، وضرورة مراجعة أمان المحطات القائمة، ويمكن إدراج المواقف التفصيلية في المجموعات التالية:
• دول قررت الاستمرار في خططها الحالية والمستقبلية لإنشاء المحطات النووية، مع خضوع جميع المحطات القائمة للمراجعة والتقييم، ومراجعة معايير الأمان النووية, واستمرار العمل فى المحطات تحت الإنشاء (الولايات المتحدة، وفرنسا، وروسيا الاتحادية، وكوريا الجنوبية، والأرجنتين، والسويد، وأسبانيا، وجمهورية التشيك، وسلوفكيا، وروسيا البيضاء، وليتوانيا، وكازاخستان، وباكستان، وهولندا).
• دول قررت الاستمرار في خططها الحالية والمستقبلية لإنشاء أولى محطاتها النووية، مع تضمين تصميم هذه المحطات التعديلات الناتجة عن الدروس المستفادة من حادثة فوكوشيما (الأردن، والإمارات المتحدة، وبولندا، وتركيا، وفيتنام).
• دول قررت الاستمرار في برنامجها النووي للمحطات العاملة وتحت الإنشاء مع تعليق الموافقة على محطات جديدة لحين مراجعة إجراءات السلامة والأمان (أوكرانيا، والبرازيل، والصين، وفنلندا، وماليزيا، والمملكة المتحدة، والهند، واليابان).
• دول قررت إيقاف أو إرجاء برامجها انتظارا لما تسفر عنه الدروس المستفادة من الحادثة (إندونيسيا، وايطاليا، وتايلاند، وسويسرا).
• أما بالنسبة لألمانيا وبلجيكا فكانتا قد اتخذتا منذ سنوات قرارات بعدم بناء محطات جديدة بسبب طبيعة الائتلافات السياسية فيها وتأثير الأحزاب الصغيرة ومنها أحزاب الخضر المعادية للطاقة النووية. وبعد حادثة فوكوشيما قررت ألمانيا إغلاق ثمانية مفاعلات قديمة – كان قد صدر لها قرار بتمديد عمرها التشغيلي وتم التراجع عنه - مع ملاحظة أنه لم يتم إخلائها من الوقود النووي أو اتخاذ قرار بتكهينها، أما بالنسبة للتسعة مفاعلات المتبقية فقد وضعت خطة لإغلاقها تباعا حتى عام 2022.
في النهاية لا أجد ما ألخص به دور الطاقة النووية في إنقاذ عالمنا المضطرب سوى كلمات باتريك مور أحد مؤسسي منظمة السلام الأخضر المعنية بشئون البيئة في مقال له بجريدة واشنطن بوست بتاريخ 16 إبريل 2006 حيث يقول "في أوائل السبعينيات حينما شاركت في تأسيس منظمة السلام الأخضر كنت أعتقد أن الطاقة النووية مرادف للمحرقة النووية ... ولكن بعد 30 سنة فقد تغيرت رؤيتي ... فالطاقة النووية قد تكون مصدر الطاقة القادر على إنقاذ كوكبنا من كارثة أخرى محتملة وهي تغير المناخ".