فلسفة مقاومة التطبيع
هشام غصيب
الحوار المتمدن
-
العدد: 6225 - 2019 / 5 / 10 - 00:42
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
أنطلق في تحليلي من أنه إذا أردنا أن نفهم تماما معنى التطبيع ومعنى مناهضته، فعلينا أن نركز على طبيعة الكيان الصهيوني وطبيعة المخطط الأميركي في المنطقة عقب تحطيم الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية. إن أهمية الكيان الصهيوني للإمبريالية العالمية تنبع من كونه جزءا لا يتجزأ من منظومة القوى الإمبريالية. إنه ليس مجرد أداة في يديها، وإنما هو جزء يمثلها في قلب المنطقة العربية وامتداد حقيقي عضوي لها. وهو يحقق أهداف الإمبريالية في منطقتنا بتحقيق مشروعه الاستعماري الصهيوني الخاص، ومن ذلك تنبع قوته وضرورته للنظام الإمبريالي العالمي.
إنه في الواقع أكثر من مجرد شريك للإمبريالية. فهو امتداد عضوي لها. كما إن وظيفته تتعدى المنطقة، فهو وليد آيديولوجيا الجناح الأكثر ظلامية وعدوانية في الإمبريالية العالمية. فالصهيونية ليست آيديولوجيا البرجوازية اليهودية وحدها، وإنما أخذت تغدو رأس حربة آيديولوجيا البرجوازية الإمبريالية المهودة برمتها. لذلك فإن البرجوازية الإمبريالية، وبخاصة الأميركية منها، معنية ببناء الكيان الصهيوني بناء يكسبه قوة ذاتية واستقراراً ورسوخا ودوراً استراتيجيا في منطقتنا وربما في غيرها من المناطق.
ولتحقيق ذلك، فإن الكيان الصهيوني لا يمكن أن يكتفي بثلاثة أرباع فلسطين، وإنما عليه أن يلتهم فلسطين بكاملها على الأقل، بوصفها أرض اسرائيل، وفي سياق ذلك، عليه أن يدمر الشعب العربي الفلسطيني ويفتته ويهمشه ويشرده ويكسر مقاومتــه.
1.
كذلك فعليه الهيمنة اقتصادياً وأمنياً وسياسياً على محيطه المباشر متى سنحت له الفرصة، أي إلحاق المحيط المباشر به واستعماله معبراً للمحيط العربي الأوسع ومخيما للفائض السكاني العربي وسوقا للرأسمال الصهيوني واحتياطيا للعمالة الرخيصة.
وأخيرا وليس آخرا فعليه أن يجبر المحيط العربي على القبول به كيانا طبيعيا وجزءا متفوقا من المنطقة، بحيث يؤدي دورا رئيسيا في سياسة المنطقة، فيبني التحالفات للوقوف أمام أي قطر عربي تسول له نفسه الخروج من الإطار الإمبريالي أو مجرد التفكير بذلك.
من ذلك يتضح أن التطبيع هو مطلب إمبريالي صهيوني أساسي، وأداة أساسية من أدوات إسرائيل الكبرى. فالتطبيع هو في جوهره إجبار الضحية على القبول بالأمر الواقع، واقع عبوديتها، ومعاونة الجلاد في استعبادها واستعباد غيرها من الضحايا.
إن الامبريالية الغربية والاستعمار الصهيوني يشتركون في هدف بناء كيان صهيوني قوي يتمدد وينمو على حساب المحيط العربي، كيان قوي يتغذى على المحيط العربي ويمول نفسه من هذا المحيط ويكون بمثابة مركز متقدم ومكتمل النضج والمقومات لمجموعة من الكنتونات الإثنية والطائفية الهزيلة محدودة السيادة والمقومات، وذلك كله من أجل إبقاء الوطن العربي مجتمعا متخلفا مفتتا منهوبا تحت هيمنة النظام الإمبريالي العالمي، أي منع الأمة العربية من إعادة تشكيل نفسها على أسس تنموية حديثة وبناء استقلالها وتقدمها.
2.
ووجدت الإمبريالية الأمريكية والصهيونية فرصتها الذهبية لتحقيق ذلك عقب انتهاء الحرب الباردة، التي خرجت منها ظافرة أو شبه ظافرة، فكان ما يسمى مسيرة السلام أداتها الرئيسية لتحقيق ذلك ومقدمة للتطبيع الشامل. فهذه المسيرة المشؤومة هي استمرار للعدوان الصهيوني بوسائل أخرى، وهدفها الحقيقي هو توزيع غنائم الحرب الباردة على المنتصرين. هذا ما اكدناه منذ البداية، منذ ما قبل مدريد، على أساس تحليل مادي صارم للوضع وفي سياق نقد مقولة "الأرض مقابل السلام". وهذا ما أثبتته الأحداث مذ ذاك بما لا يدع مجالا للشك.
إن الكيان الصهيوني هو النقيض الاستراتيجي للأمة العربية الموحدة المتقدمة. من ثم، فإن التناقض بين الطرفين تناقض تناحري مطلق. فإما الكيان الصهيوني المتمدد واما الأمة العربية الموحدة المتقدمة. لذلك فإن التعامل مع الكيان الصهيوني وكأنه كيان طبيعي شأنه شأن المجتمع التركي أو الإيراني أو الفرنسي أو الصيني والاعتراف بهذا الكيان هو في جوهره نفي للذات العربية، اي إنه انتحار قومي، لا أكثر ولا اقل. وهو فوق ذلك انتحار للعقل. فقبول الكيان الصهيوني هو في جوهره قبول لأسطورة الأمة اليهودية وأسطورة امتلاكها أرض فلسطين وأسطورة الشعب المختار، وما إلى ذلك من أساطير يرفضها العقل والعلم. إن التطبيع إذاً هو عملية سلخ للعربي عن جذوره التاريخية، وإلغاء لانتمائه لوطنه وعبره للإنسانية والتاريخ، وتحطيم لعقله. إنها محاولة لقلب التاريخ على رأسه: تحويل العربي الى يهودي جوال يتجول في متاهة السوق العالمية المعولمة وتجذير اليهودي الجوال وترسيخه في تربة تاريخ أسطوري موهوم تجسد واقعا. إنها محاولة إضفاء تماسك مصطنع على دولة أقوام لا توحدها سوى غنيمة وعقيدة عنصريــة،
3.
يصاحبه تذرية لمجتمع تاريخي عريق، أي تحويله إلى مجموعة من الذرات البشرية العديمة الانتماء إلى أرض وتاريخ ووطن وتراث قيمي. إن التطبيع هو خلق هوية حضارية وهمية على أنقاض هوية تاريخية فعلية. إنه في جوهره أكبر عملية تزوير للتاريخ تمارس من أجل تكريس أكبر عملية تزوير للحاضر والمستقبل.
ولكن للتطبيع شروطا ثقافية معنوية. فهو يستلزم جملة من التغييرات الأساسية في بنية الوعي العربي السائد. إذ إنه لا يمكن أن يرسخ في وعي مسلح بالحس التاريخي الاجتماعي والذاكرة القومية التاريخية، ومنظومة القيم النابعة من الانتماء للإنسان في عيانيته التاريخية الثقافية. لذلك، فإن نجاح التطبيع يستلزم خلق جيل من المواطنين العرب يتصور نفسه كومة من الذرات الاقتصادية التي لا ترتبط معا إلا عبر آليات السوق العالمية المعولمة، ومن ثم لا تنتمي إلى وطن أو أمة أو أرض، وإنما إلى مصالحها كما تعرفها وتعبر عنها السوق العالمية المعولمة.
وهنا يأتي دور العولمة والخصخصة بالمعنى الذي تطبقان به في دول المحيط الرأسمالي. فهي تفترض، وتسعى إلى خلق الإنسان الاقتصادي المجــــــرد Homo Economicus الذي يتحدث عنه علم الاقتصاد البرجوازي، من أدام سميث وريكاردو إلى ملتون فريدمان.
إن هذه الآلية والعقلية الرأسمالية تشكل شرطا ضروريا في منطقتنا لنجاح التطبيع. فهذه العقلية الرأسمالية البحتة التي تحاول الإمبريالية الغربية فرضها على دول المحيط الرأسمالي لا تميز بين مجتمع وآخر الإ من حيث ارتباطه بالسوق العالمية المعولمة، ومدى اندماجه فيها. لذلك، فهي لا تكتفي بأن لا تجد حرجا في التعامل مع
4.
الكيان الصهيوني تعاملاً طبيعياً، وإنما تذهب إلى اعتبار هذا الكيان الكيان الطبيعي الوحيد في المنطقة، والذي ينبغي من ثم الاحتذاء به. إذاً فإن العولمة والخصخصة في منطقتنا العربية ترتبطان ارتباطاً موضوعياً حميماً بالتطبيع. فسيادة العقلية النابعة من هاتين الآليتين هي شرط نجاح التطبيع وشيوعه في المجتمع العربي. والنتيجة أن مجتمع اليهودي الجوال يتحول إلى مركز قومي رئيسي، في الوقت الذي يتحول فيه العربي إلى بدوي جوال في صحراء السوق العالمية المعولمة، إلى إنسان أدام سميث الاقتصادي المجرد، إلى ظل تجريدي هائم في متاهة السوق العالمية المعولمة.
ما العمل إزاء هذا التحلل الكارثي في وطننا؟ ما هي العملية النقيض لذلك كله؟ كيف تجابه الضحية جلادها؟ إن الإجابات عن هذه الاسئلة تنبع ضروريا من التحليل المذكور أعلاه. فلا يكفي أن نجابه الاختراق الصهيوني لمؤسساتنا الاقتصادية والتربوية والإعلامية، مع أن ذلك ضروري جدا، وإنما علينا أيضا أن ننظم الجماهير الشعبية في مجابهة العولمة والخصخصة، أي الرأسمالية العالمية في صيغتها الحديثة، وفي مجابهة جميع أشكال التفتيت القومي من قطرية وطائفية ومناطقية وإقليمية وعشائرية، وأن نعمل على إحياء قيم النضال والتحرير والاستقلال القومي والإنتاج المترابط والمقاومة الشعبية. علينا أن نعمل على إعادة تنظيم صفوف المقاومة الشعبية للاستغلال الرأسمالي والاحتلال والتبعية في شتى صورها، وأن نسعى إلى إعادة بناء الذات القومية على أسس تنموية حديثة وبناء الذاكرة التاريخية القومية. وينبغي أن تكون نقطة البدء رفضنا القاطع لأي نوع من الاعتراف بشرعية الغاصب الصهيوني وأي تنازل عن أي شبر من الأرض العربية، حتى لو وصلت جحافل العدو إلى زاخو. فالهزيمة لا تكمن في المعاناة والاحتلال والدمار بقدر ما تكمن في
5.
مثل هذا الاعتراف. فالالتزام بالحقيقة التاريخية والعقلانية النابعة منها هو الشرط الاساس لأي مقاومة ذات معنى وأي صمود حقيقي في وجه العدوان. فلنجابه منطق العولمة بالانتماء القومي للأرض والشعب المتجذر تاريخيا فيها، ولنجابه منطق الرأسمالية متعددة الجنسيات بقيم الاشتراكية والتحرر القومي، ولنجابه منطق البرجوازية الطفيلية بمنطق الطبقة العاملة وقيم الإنتاج التنموي المستقل، ولنجابه التزوير الصهيوني بمنطق العقل التاريخي العلمي، وأخيرا وليس آخرا، فلنجابه منطق القبول بالأمر الواقع البائس بمنطق الواقعية التاريخية التي تسعى إلى تغيير الكائن وفك إسار الكامن.