آلهة الغسق - إلى ذكرى إرنستو تشي
هشام غصيب
الحوار المتمدن
-
العدد: 4399 - 2014 / 3 / 20 - 15:39
المحور:
الادب والفن
[ثنائية درامية ميتافيزيقية في فصل واحد]
الاهداء: إلى ذكرى إرنستو تشي.
[المنظر: زنزانة تمتد على طول خشبة المسرح وعرضها. في منتصف الجدار الخلفي المقابل للجمهور، وعلى علو متر ونصف المتر تقريباً من أرضية الزنزانة، ثمة نافذة صغيرة مقضبة بثلاثة قضبان قرمزية اللون تبهر الأنظار. أما باب الزنزانة، فيقع في الجدار الأيمن بالنسبة إلى الجمهور. وفي الطرف الأيسر من الجدار المقابل للجمهور والذي يتضمن النافذة، ثمة سرير حديدي قديم يجلس عليه بتحدّ ملحوظ رجل أشعث الشعر، ضخم البنية، مضطرب الهيئة. إنه السجين].
السجين: (ذاهلاً) ثالوث مقدس! (يقضم أظافره بعصبية ظاهرة، ويسير بميكانيكية من هو غارق بالتفكير حتى الثمالة إلى حيث القضبان القرمزية. يقف أمامها وينعم فيها النظر ببعض الهلع) رائع! لست أدري كيف؟ لكن مجرد النظر إليك يخلق في ذاتي إحساساً غيبياً بالتوقع… توقع محض عارٍ من كل تحديد ومضمون… توقع لا أساس له ولا اتجاه …. إلحاح غريب يكتنفني في حضورك، إلحاح من يتوقع حدوث انقلاب جذري وشيك فيك (ينظر بحيرة مؤلمة حواليه)
إني أصبو… إنني أصبو.
حاجة ملحة تعتمل في صميم ذاتي، تدفعني دفعاً إلى الانغماس في انقلاب جذري.
عطش آثم يتفجر في ذاتي المفعمة بالفراغ … عطش آثم إلى الجنون المطلق، إلى انفجار الكل.
وحشية طافحة تدفعني دفعاً لا فكاك منه إلى الانغماس في انقلاب حاد يفصم الوجود إلى وجودين لا رابط بينهما.
ألا ترين؟ ألا ترين؟!
أريد أن أشهد انقلاباً حادّاً لا مثيل له يحوّل الوجود إلى عدم والعدم إلى وجود. ثم ماذا؟
انقلاب الوجود إلى فراغ والفراغ إلى وجد قتال… انقلاب (صمت قصير)… ممّ وإلامَ؟!
(بتوتر) رباه! ضائع ابنك المعذب في قفر التردد والشفافية.
(يذرع الغرفة جيئة وذهابا بمكانيكيته السابقة، ثم يعود ويتوقف بصورة مفاجئة قبالة القضبان القرمزية. يرمقها بمرارة طافحة)
قسوتك لا تعرف حدّاً، أيتها المبجلة! لقد أفلحت في اختزالي إلى ركام روحي. أما عقلي وإرادتي فاكتبي عليهما السلام. لقد ذابا في وجودك التهكمي أبداً.
ألا ترين؟! ألا تشعرين بحدة الذل الذي أعانيه في ظلك الدموي؟!
(بغضب جامح) ألا أستطيع قط الهرب من لعنة الإدراك الدائمة، تلك التي لا تفتأين تسلطينها بعنفوان دموي على نفسي المتعبة؟! أحرام عليك أن تحرريني من أغلالك الكثيفة، ولو للحظة واحدة، كيما أغرق نفسي في بحر النسيان الهادىء؟ أم محكوم عليّ أبداً أن أتململ جنوناً في ظل تذكر وضعي اليائس تحت وطأة بصيرتك النافذة؟ ولكن، لمَ، لمَ، ألف لمَ؟ (ينقض على القضبان القرمزية محاولاً خلعها من مكانها. يستمر في ذلك حتى يدركه الإعياء، فيسقط منهكاً على الأرض وحبيبات العرق الكثيفة تلمع على جبينه) (يهذي) غمامة من البراءة … في الماضي السحيق… غمامة من البراءة يطفو عليها رضيع صغير … في الماضي السحيق … رضيع صغير يطفح ببراءة الوجود حوّل الوهم إلى حقيقة … في الماضي السحيق … في الماضي السحيق.
[يدخل رجل مشذّب الهيئة، إن جاز التعبير، متلفع برداء أسود اللون، يحمل سوطاً في يده. إنه السجان]
السجان: [باستهزاء] هاه! ينبوع أنت… ينبوع يزخر بأحلام مريضة لا أول لها ولا آخر.
السجين: (متأملاً) وهذا لن يقدم تحرري قيد أنملة… اهذا ما تريد قوله؟ ولكن، أي تحرر، وممّ أتحرر؟!
السجان: اسمع! كن عاقلاً! لمَ هذا السعي المحموم وراء المستحيل؟ إنك تعلم أن أحلامك ورغباتك لا تنسجم ودورك في الحياة. إنها قيدك. انت تعلم ذلك تمام العلم. لكنك تتركها تعبث بك كما تشاء. إنك ضعيف ايها السجين… مريض! لو كنت رجلاً بحق لما استسلمت بهذه السهولة، بل لحاولت تحرير ذاتك من أدران هذيانك الفلسفي وأحلامك المريضة.
السجين: تحرير ذاتي مما أصبو إليه، مما أمزق ذاتي بحثاً عنه؟! التحرر مما لا يقيدني البتة؟!
السجان: [بحدة] هذا عالمك. هذا سجنك. إنه العالم الوحيد الممكن، شئت ذلك أم أبيت. إقبله إذاً واسعد بقبوله واكبت صبوك إلى المستحيل!
السجين: عبث! أعصابك المنهكة الضعيفة لا تقوى أن يمسها حتى ظل التذكر. (ينعم النظر في القضبان القرمزية، ويتكلم وكأنه يخاطب نفسه) أتعلم ذلك؟ أم أنك لا تفتأ تحاول خلق أنموذج مبسط مرتب خاوٍ ميْت لهذا الوضع الشاذ، علّك تطمس به حيويته الهادرة في إدراكك؟
السجان: وضعنا واضح وضوح الشمس. كل ما في الأمر أنك لا تفتأ تعقده وتطمس وضوحه بأحلامك المريضة وغيبياتك… اللزجة. لمَ لا تقبل الأمور على بساطتها؟! لمَ لا تعترف جوانيا بحجمك الحقيقي في الحياة؟! لمَ تحاول باستمرار تخطي ذاتك المغرورة؟ خلاصة القول، لمَ لا تكون عاديّا؟
[ابتسامة بلهاء تعلو فم السجين. يحملق في السجان بألم جنوني]
السجين: ألا ترى السماء الداكنة تقطر دماً قانياً… قرمزياً… قطرة تلو قطرة… (يضحك ضحكة مقتضبة مريرة) وماذا في ذلك؟ (يجلس على سريره) لقد عرفت الله يوماً… في الماضي السحيق. عرفته لحظة رأيت وجه الشفق القاني. مذ ذاك، لم يبرحني حضوره قط. هذا سرّ مأساتي: مضمون كافر في إطار مؤمن. أتفهمني؟!
لقد كانت الحياة يوماً في قبضة يدي تنبض بعنفوان… في الماضي السحيق… كنت أستحم في سطوعها المؤلم باستمرار… في الماضي السحيق. لكنها تبخرت فجأة في يوم من أيام… الماضي السحيق. لست أدري كيف. لكنها تبخرت في سماء حيرتي، فهبطت من علياء الوجدان الحي إلى أعماق ريبة العقل المجرّد. ثم ماذا؟ لا أفتأ امضي الوقت أبتدع الأحاييل النفسية، أتلفع بالجديد منها، مقنعاً ذاتي المفعمة بالفراغ أنها تطفح باللحظة الحبلى التي ضاعت يوما في أروقة الماضي السحيق. ثم ماذا؟ لا أفتأ أحاول احتواء اللحظة الضائعة في اللحظة الراهنة، أتشبث كالعاشق الولهان بالماضي السحيق… عبث! إن التاريخ لا يمكن أن يعيد نفسه أبداً! ومع ذلك، أستمر في صنع أحابيل الذات.
[صمت قصير] لكن هذا الاستمرار ينبع حتما من طبيعة وضعي الشاذ. إذاً، لا بدّ أن يكون هناك ثمة خلل جذري في هذا الوضع، في هذا العالم. ومع ذلك… ومع كل ذلك، أريد المضي في العيش. وأريد المضي في ذلك حتى في هذا السجن القذر. بل إني على استعداد لأن أكذب على نفسي من أجل البقاء في هذه الدنيا البائسة.
السجان: [بحنق] سجن قذر، إِه؟! إنك خائن. وخيانتك تنبع من ضعفك الذي يبعث الغثيان في النفس. [يزمجر] اسمع يا هذا! لا مكان للفوضى ههنا. القانون والنظام، أتفهمني؟! أم هل تريد أن أفهمك ذلك بطريقتي الخاصة؟! جائع هذا السوط، جائع… [يفرقع سوطه على أرضية السجن]
السجين: لا يكفيك أننا محشوون حشواً في هذا الحيز الصغير بوصف ذلك حتمية وجودية كما يبدو. ولا يكفيك أيضاً أننا مكبلون دون فكاك بروتين الحياة ولعباتها الوحشية، تلك التي نمزق فيها بعضنا بعضاً بفعل هلعنا المطلق من وقوفنا وجهاً لوجه أمام أنفسنا. لا! كل ذلك لا يكفيك قط. ها إنك تطوب نفسك وصيا على شئوننا ومقوماً لسلوكنا. حتى الكلمات والإيماءات، محاولة المرء اليائسة لتخطي عزلته الساحقة – أقول حتى هذه تقلقك وتكاد تفقد شرعيتها في هذا السجن.
[بألم] ولكن، ألا تدرك، أيها الأحمق، أن هذه الأدوات التي تبدو تافهة في نظرك لهي شرط أساسي من شروط البقاء لوحيد مثلي مدرك تمام الادراك لوحدته القصوى؟!
السجان: (برزانة) النظام أس البقاء. إن من لا يقبل قيوده النابعة من صميم ذاته لهو عدو للحياة والبقاء. هذه النزعة التدميرية التي أسميها الفوضى وتسميها الحرية… هذه النزعة، إلامَ يؤول مصيرنا لو تركناها تعبث بنا كما يحلو لها، لو لم يكن النظام متجسداً في من بمقدورهم كبح جماحها؟ إعلم أيها السجين أن سلوكك الفوضوي هو الذي يحدد ما نفرضه عليك من قيود. إنك سجين بحكم طبيعتك.
السجين: (باستهزاء) كلانا سجين أيها السجان! سجين واعٍ لوضعه وآخر غافل عنه. هذا كل ما في الأمر أيها السجّان!
السجان: علل الأمور ما شئت! لن ينفي تعليلك قط حقيقة أنني أملك وسائل إخضاعك وكبح جماحك. فعلى سبيل المثال، حين تشاء الظروف أن آمرك بالسكوت، فإنك تغلق فاك لا محالة في النهاية، مهما قاومت في بادىء الأمر. السوط يطاع يا هذا! ألسنا بشراً على أية حال؟
السجين: (باستهزاء) آهْ، السوط! أصل الوجود ولغزه، إِهْ؟ ولربما تظن أيضاً أن السوط لقادر على أن يغوص إلى صميم الوجدان، كأن يمنعني مثلاً من التفكير والتخيل والخيال وتصور المدن الفاضلة حيث الحرية هي القاعدة والسوط هو الاستثناء، حيث السمو والتراب يلتحمان معاً في لحمة عضوية واحدة لا ينفصم عراها… كل ذلك ممنوع بفضل سوطك، أليس كذلك؟
السجان: يبدو أنك نسيت معنى السوط. أنظره يتلوى كالحية القاتلة! رائع، أليس كذلك؟ يجب أن تعترف أن له جماله الخاص اللامتناهي حتى من وجهة نظر الضحية. تفحصه جيداً، تففحصه وجدانيا، حسياً إذا سمحت، ثم احكم… أحكم ما إذا كانت هذه الكينونة المستقلة، هذه النفس القادرة على التفكير والتخيل وتصور المدن الفاضلة بمعزل عمّا يحيط بها، بمعزل عن قسوة المادة – أحكم ما إذا كانت ممكنة، ما إذا كان لها أي معنى أو مدلول حقيقي!
أقول لك أيها السجين، لقد ضقت ذرعاً بأوهامك تلك. أسألك، ما الغاية منها؟ ما الغاية سوى إعطاء حشرة تافهة مثلك إحساساً زائفاً بالأهمية؟ إن الفوضى تدفعك إلى محاولة تخطي ذاتك باستمرار بتخطي دورك. لكن هذا محال. إن دورك ينبع حتماً من طبيعتك، وهذا ثابت لا يقبل التغيير.
السجين: (باستعلاء) السوط؟! هِهْ! واعجبي منك أيها السجان! تسلط نفسك الجامدة المستخذية على نفوس الآخرين، فتحسب ما تراه من انعكاس مشوه الواقع الحق. إن كانت عبادة السوط واجباً على أمثالك من ذوي النفوس الهشة الضعيفة، فهذا لا يعني أنها كونية الشمول. تمالك أعصابك المهترئة، إذاً، واسمعني جيداً.
تصور عملية الجلد! تصورها جيداً، وجدانيا، حسيا، إذا سمحت! ما الذي يفلح السوط في فعله، في هذه الحال؟ إنه يسبب الألم لضحيته لا أكثر ولا أقل، أليس كذلك؟!
السجان: كذا!
السجين: (باصرار) لا أكثر ولا أقل. والآن، فكر في الأمر جيداً! ما المبرر في أن يطلب المرء الضحية زوال الألم، إيقافه؟ ما المبرر في رفضه الألم حين يكون مدركاً لكون الألم حقيقة واقعة، مجرد حقيقة واقعة لا أكثر ولا أقل؟! ثم لماذا يرفضه حين يكون مدركاً للسؤال المطروح ذاته؟ تصور نفسك تجلد بوحشية! تصور الألم الذي تعانيه في مثل هذا الوضع! ماذا في ذلك؟ قارنه الآن بغيره من أنماط الشعور، باللذة مثلاً؟ أنظر إلى هذه الأنماط بمجملها على اعتبار أنها مجرد حقائق واقعة تنبض وجوداً، تحترق واقعاً أمام إدراكك، لا أكثر ولا أقل! عندئذ تدرك أن ليس ثمة فروق حقيقية بينها، وبخاصة من حيث وقعها على ذاتك. فيظهِر لك الوجود لامبالاته المطلقة بكل جلاء، وتغدو اللامبالاة مبدأ وجود ذاتك. إذ ذاك، ترفض أن ترفض وترفض أن تقبل. فتدرك جوهر حريتك ووهم النفس بوصفها كياناً مستقلا محدداً. تذوب النفس في العالم ويذوب العالم في النفس، فيندثر الألم في واقع حقيقته. وتجد نفسك تنظر ببرود إلى أعصابك ترتعد وأنفاسك تلتهب. أما الألم فيكون قد تبخر بوصفه حالة من حالات الوجود الذاتي وتضاءل إلى مجرد ظاهرة، مجرد حقيقة واقعة لا أكثر ولا أقل. هذا الإدراك المطلق هو الذي يكسبك سعة لامتناهية للألم المطلق.
السجان: هكذا وبكل بساطة تحيل الوجود إلى عدم والعدم إلى غاية مطلقة.
السجين: (متأملاً) ليت الأمر يقف عند هذا الحد. ليته يقف عند حدّ اختفاء الألم بوصفه حالة من حالات وجود الذات. في اللحظة التي تذوب الأحاسيس والعواطف في لامبالاة حدوثها، تنعدم روح الحياة وينهار العالم إلى مجرد كومة من الظواهر الميتة. حقاً إن الحياة والألم صنوان لا يفترقان. فراغ مطلق يفصل الوجود اللامبالي عن الحياة النابضة. ما إن تفقد الأحاسيس فرديتها وتذوب في مظهرها المجرد حتى تتبخر الحياة من الوجود والوجود من الحياة النابضة. ظمأ حارق إلى نبض الحياة يجثم على كاهل النفس. عند ذاك، تضيع الذات في متاهات قفر الشعور: لا خوف ولا عزاء. ليس في الوجود ثمة من بلغ نضجه أن يحتمل مثل هذا الخواء، مثل هذا الاستواء. في لحظة الخواء المطلق هذا، تندفع بشرية المرء برمتها وبكل قوتها إلى الألم، الألم المؤلم بحق.
السجان: هدنا من حيث بدأنا.
السجين: صحيح أنك تدرك أن الحياة والألم صنوان لا يفترقان. ولكن، ما إن تعود ذاتك لتطأ أرض الألم المرّ حتى تنفر وتعود أدراجها من حيث أتت. وهكذا… وهكذا ترى أن الحياة ليست سوى حوار بين العذاب والخواء، بين الغابة والصحراء. ومع ذلك… مع كل ذلك، فإنك ترفض الانتحار بكل جوارحك. جنون مطلق، أليس كذلك؟ اللامعقولية بعينها، أليس كذلك؟ ولكن، لماذا يطلب من سجين بائس مثلي أو مثلك أن يكون منطقيا ومعقولاً؟! لم لا يناقض نفسه وغيره احتجاجاً حياً على نظام الوجود، إن كان له نظام؟ لمَ لا يكون انعكاساً دقيقاً للحياة بلا معقوليتها التامة؟ أليس المنطق حالة شاذة من حالات الوجود؟ أليست المعقولية خطيئة في حق الحياة؟ ألا تعمل على طمس معالمها وتقتل حقيقتها، فتحولها إلى مجرد وهم، إلى مجرد ظاهرة عادية؟!
السجان: رائع! تجسيد نابض لفوضى الأعماق! وبرهان حي على صحة تصوري لهذا الوضع! إن تهجمك على المنطق ونظام الحياة لا يدهشني البتة. إنك تتكلم بلغة الفوضى القاتمة.
السجين: كذا!
السجان: اسمع يا هذا! المنطق يحتم أن يسعى المرء إلى سعادته. والسعادة تنبع من القناعة بمنطق الواقع. إنك إذاً تسعى إلى الشقاء، ومن ثم إلى اللامعقول. أنت تسعى إلى أن تكون متميزاً، ومن ثم تحيط واقعك بهالة من الأوهام البرّاقة…
السجين: كيما أحتمل عبأه؟! قد أكون بالفعل منغمساً في عالم يختلط فيه الخيال مع الواقع. إني أدرك ذلك تمام الادراك. وماذا في ذلك؟ أريد البقاء. أتسلى بصنع الأحلام لكي أنسى. أحلامي أفيوني. لكني لا أعيشها. وهنا يكمن الفرق بيننا. حياتك حلم متصل، فيما حياتي صبو إلى حلم متصل. أحلامك حجاب سميك يغلف إدراكك، فيما أحلامي أفيون رخيص غير مجدٍ.
إنني أصبو… إنني أصبو.
السجان: رباه، نجنا من العجز حين يتحول إلى فلسفة! هل نسيت يا هذا أن وجودك رهن إرادتي؟! هل غاب عنك أن بمقدوري أن أخلص العالم من وجودك الآسن أية لحظة أشاء؟!
السجين: ومن يدري؟ قد أرحب بذلك.
السجان: عجباً! ألم تقل منذ قليل إنك تريد البقاء حتى في هذا السجن، حتى لو اضطررت إلى تلفيع ذاتك بالأوهام؟
السجين: حقاً إن السيادة شكل من أشكال العبودية. الفرق الوحيد بين العبد والسيد هو أن محدودية الأول خارجية، فيما أن محدودية الثاني تنبع من الداخل. والمحدودية هي أس العبودية في أشكالها المختلفة.
السجان: عمّ تتكلم؟! هذه الضبابية التي تتخلل كل لفظة أو إيماءة تصدر عنك تمنع أي تواصل أو تفاهم حقيقي بيننا. أتمنى ان أسمع منك. ولو مرة واحدة، جملة مفيدة بحق، محددة المعنى والمعالم. إنك تدفعني دفعاً يا هذا إلى استعمال لغة السوط الكونية.
السجين: إذا كنت ضبابيا إلى هذا الحد، فلم لا تتركني وشأني اتعفر بقاذورات خيالي المريض؟!
السجان: كلامك ليس ملكك وحدك، وإن كان خيالك كذلك. الكلام فعل، والفعل ملك القانون والنظام المتمثلين بالجماعة. أغلق فاك، أتركك وشأنك ضمن حدود القانون.
السجين: لم أكن أدري أن كلامي يقلقك إلى هذا الحدّ؟ هل هو بالفعل نفيس إلى هذا الحدّ؟!
السجان: إنه يجرح إحساسي بالواقع. هذا كل ما في الأمر.
السجين: أي واقع؟! واقع هذا السجن؟! هذا السجن القذر حيث يضمر التعبير الحر الحي إلى طقوس خاوية، وينقلب خلق الذات إلى خلق قيود الذات؟! … هذا المسرح العقيم حيث لا يجوز للممثل أداء دوره… هذا العدم حيث ينفصم الوجود عن الحياة انفصام الوجدان عن العقل؟!
السجان: [بحنق] إنك عاق! لا بل خائن! [يتمالك أعصابه على حين غرّة] ولكن لا ! لست تلام على ذلك. ثمة نزعة تدميرية متأصلة في الذات البشرية – فوضى قاتمة أشعر بها تنبض في صميم ذاتي؛ لامعقولية مطلقة، سحابة قاتمة تشدني شدّاً إلى البطش والاجرام فالثورة العارمة.
قلة، صفوة مختارة، هي التي تفلح بالفعل في كبح جماحها. وأنت؟ أنت مجرّد ضحية من ضحايا هذا العالم الحالك. انت هشٌّ هشّ أمام جبروت هذه القوى الدامسة. وماذا في ذلك؟ تلك هي طبيعة الوجود الحتمية. أتريد برهاناً أكيداً على ذلك؟ اسمع إذاً! لولا وجود أمثالك، لما كان لهذا السجن ولأمثالي من جند النظام أي مبرر للوجود، ومن ثم ما كان هناك وجود على الإطلاق. وجود أمثالك ضرورة من ضرورات الوجود ذاته. لكن الأمر لا يقف عند هذا الحدّ. صحيح أنك لا تلام على خيانتك. لكن هذا لا ينفي أنك وعاء للفوضى، ثقب حي تنفذ الفوضى منه إلى الوجود. إنك لا تقوى على مقاومة هذه الفوضى العارمة بمفردك. وثق أني لا أشك في رغبة بشريتك الحقة، الضائعة في متاهات الفوضى، في مقاومة هذه الحلكة بكل ما تملك من قدرة. لكنها عاجزة عن ذلك بمفردها. وعجزك هذا هو سبب وجود هذا السجن وهذا السوط، بل وهذا المنفّذ الماثل أمامك.
هأنذا قادم بسوطي الجائع أبداً لكبح جماح هذه العاصفة الهوجاء التي تعتمل في صدرك خارج مجال بشريتك العاقلة. هأنذا قادم لأعوضك عن عجزك الطبيعي.
[يتقدم نحو السجين رافعاً سوطه. يكاد يهوي به عليه. لكنه يتجمد بغتة]
السجين: (بهدوء) ليس ثمة معنى مطلق للفوضى، لأنه ليس ثمة وجود مطلق لها. كما إنه ليس ثمة وجود حقيقي للمضمون بمعزل عن الشكل. إنك إذاً لا تنافح عن النظام في حدّ ذاته ضد الفوضى. إنك في الواقع تكبت نظام الحرية لتنفذ نظام القسر.
[يهوي السجان بسوطه على رأس السجين بكل قواه]
السجان: خذ! وخذ! ثم خذ!
[يزعق السجين بألم ويثب كالمجنون إلى حيث القضبان القرمزية. يتشبث بها بعنف هستيري ويضرب رأسه بجدار السجن حتى تسيل الدماء منه]
السجين: الجنون! الجنون! قسمي… منطقي… جوهري! [يزمجر] اشربي… اشربي دمي القاني قبلما يتجمد في عروقي فيفجرها إربا! هاه! هاه! اشربي واشربي حتى أسقط ممزق الوعي من علياء إدراكي إلى حضيض واقعي. [يجثم راكعاً أمام القضبان]
لا تبخلي على جراحي اليابسة بشفتيك القرمزيتين أيتها المبجلة! حوليها إلى ينبوع زاخر باللذة والألم! تعالي إليّ أيتها الحبيبة أحوي جسدك النحيل بين ذراعي المحترقتين وحدة… تعالي كي أحتضنك برقة متناهية، [كفحيح الأفعى] بوحشية طافحة، بعنف فاضح أضمك إلى صدري الخاوي [يضحك بجنون].
تنازلي فانزلني من شاهق عليائك من أجل حرية ابنك المعذب. إنه يصبو… إنه يصبو إلى السموات الضاحكة.
انظريه! انظريه يحلق في العلى، يشبع جوفه العطشان بزرقة السماء الصافية. [يقف بغتة دون حراك، ثم يتكلم وكأنه يؤدي عرضاً مسرحياً]
ولكن، صهْ صحبي! صهْ! ألا ترون الدماء القرمزية تضمخ يدي المجرمتين؟! حارّة هذه الدماء، حارّة. أواه! أواه! ماذا فعلت، ماذا فعلت؟ متى سيتسنى لي أن أنسى هذا العمل الإجرامي؟!
السجان: (بهلع وقرف) ماذا دهاه؟ إنه مجنون. [يتمالك أعصابه بغتة] ولكن لا! إنها الفوضى العارمة. إنه ذلك العالم القاتم الذي لا يقوى نور العقل على النفاذ إليه. لقد ثار البركان. إلى العمل إذاً!
[يهوي السجان بسوطه على السجين بكل قواه]
السجين: (يصرخ بنبرة مسرحية) هاه! آن أوان العرض الدموي!
السجان: [بجنون وهو ينهال ضرباً على ظهر السجين] ألم أضرع إليك أن تغلق فاك القذر؟! ألم أحذرك من مغبة ثرثرتك الفوضوية؟ القضبان القرمزية تشهد على ذلك.
[يتلوى السجين ألماً ولذة]
السجين: (بصوت حالم مثقل بلذة الألم) العنف! العنف! قسمي وجوهري! عنوان حياتي المقدس! من أجلك! آه من أجلك أيتها المبجلة!
[يتوقف السجان عن الجلد على حين غرّة]
السجين: اشهدوا! اشهدوا، صحبي! لقد ذبحها من الوريد إلى الوريد! إلى الحضيض إذاُ! إلى الحضيض!
[يقع على الأرض فاقداً وعيه. لكنه يفعل ذلك وكأنه يؤدي عرضاً مسرحيا]
السجان: (شارد الذهن) كفى! كفى!
[يتجمد في مكانه وينظر بشرود نظرة من لم يعد يدري معنى ما يدور حوله. ثم يتقدم بصورة آلية إلى حيث القضبان القرمزية. وبوجه خالٍ من التعبير، يمد يداً مرتعدة إلى القضبان ببطء من يجابه مقاومة فظيعة. ولكن ما إن تمسها أطراف أنماله، حتى تتشنج يده فيسحبها بعنف ملحوظ إلى صدره وكأن تياراً كهربائيا قد مسّه. نظرة ملؤها الهلع تظهر على وجهه]
السجان: (يتمتم) إنها ترى ما يرى وما لا يرى.
أشهد أنّ…
ها هي تبحلق في فراغ ذاتي،
أشهد أنّ…
إنها ترى الدماء تتراقص في عروقي
أشهد أنّ…
[يهز رأسه كمن يريد إزالة ما علق فيه]
ماذا دهاني؟! ماذا حلّ بي؟! هل أصابتني عدوى هذا المسكين الملقى أمامي. أجل! هذا ما تصنعه الوحدة بالمرء: تحيله أداة رخيصة في أيدي هذه الهواجس المجنونة… تجعله يتكلم إلى… أجل! قلها، قلها!… إلى جماد أصم.
[يجثم إلى جانب السجين ويهزه بعنف]
أفق! أفق يا رجل!
[ينظر حواليه كمن يبحث عن خلاصه. ثم يثب واقفاً وينطلق إلى الخارج. يعود بعد قليل وفي يده قارورة فيها زيت زيتون. يدهن جراح السجين بالزيت]
لست تلام على ما فعلت! أقول لك، لست تلام على جنونك. على أية حال، آخر ما أريده هو قتلك. لست أريد أن أبقى وحدي في هذا السجن… القذر.