التفكير العلمي والتغيير الاجتماعي
هشام غصيب
الحوار المتمدن
-
العدد: 3808 - 2012 / 8 / 3 - 10:21
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
أبدأ بتدبر العنوان، فهو في حاجة ماسة إلى التفسير والتسويغ، وهو مؤشر جليّ على طارحة وطبيعة سائله. فلا أستطيع تخيل شخص يطرح مثل هذا العنوان إلا إذا كان ذا هاجس تنويري، أي أذا كان معتنقاً لما أسميه عقيدة التنوير، قلب الحداثة الفكرية، ومدركاً لإشكالاتها وتناقضاتها. فهذا الربط المحكم بين التفكير العلمي والتغيير الاجتماعي هو سمة مميزة لعقيدة التنوير، سواء في شكلها البرجوازي الثوري القديم، الشكل الذي تبلّر على أيدي برونو ومكيافيلي وبيكون وغاليليو وديكارت وهوبز ولوك وسبينوزا والماديين الفرنسيين وفولتير وروسو والمثاليين الألمان، أو في شكلها العمالي الثوري الحديث الممثل بماركس وإنغلز. بل يمكن القول إن جوهر مشروع التنوير يكمن في هذا الربط المحكم بين التفكير العلمي والتحول الاجتماعي. هذا هو جوهر ما يسمى الحداثة. وقد أعلن هذا الجوهر بجلاء منذ لحظة تفجر الحداثة في القرن السادس عشر: أعلنه بصراحة برونو وميكافيلي وبيكون، وتلاهم ديكارت وهوبز، ثم لوك وسبينوزا، ثم الماديون الفرنسيون وفولتير، ثم كانط وفخته وهيغل، حتى وصل أوجه المتكامل في ماركس وإنغلز والتراث الماركسي عموماً… مسيرة متواصلة بزخم متزايد زلزلت العالم منذ القرن السادس عشر، وأحدثت فيه من التغيرات ما فاق ما أحدثته الحقب السابقة مجتمعة. فلا عجب إذاً أن كانت ردة الفعل عنيفة بالشكل الذي نراه اليوم، ولا عجب أن تنامت حدتها، خصوصاً بعد أن تضعضعت الحركة التي حملت راية عقيدة التنوير وتهاوت وانهارت في مركزها وانحسرت بتسارع مريع على الصعيد العالمي، تاركة وراءها فراغاً مرعبا أخذت تملؤه قوى الظلام واللاعقل شرقا وغرباً. لكن الحرب مستمرة وأحسب أنها ستزداد حدة في العقد القادم، العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.
وبالنظر إلى ذلك كله، فإن بحثنا في العلاقة بين التفكير العلمي والتغيير الاجتماعي هو في جوهره بحث في جانب أساسي من جوانب عقيدة التنوير، تلك العقيدة الكونية الجديدة التي لا سبيل إلى إغفالها، وبخاصة من قبل عرب اليوم، الذين هم أحوج ما يكونون إلى استيعابها نقديا في سياق عودتهم إلى التاريخ ودخولهم الحاضر والمستقبل.
والسؤال الجوهري هنا: بأي معنى يرتبط التفكير العلمي بالتغيير الاجتماعي في عقيدة التنوير؟
(1) والملاحظة الأولى في هذا الصدد هي أن عقيدة التنوير تؤكد على أن العلاقة بين الطرفين علاقة جدلية، أي ضرورية وتبادلية. فالواحد ينتفي من دون الآخر. فلا معنى للتغيير الاجتماعي من دون التفكير العلمي. كما إن التفكير العلمي لا يكون علميا إذا لم يكن يهدف إلى التغيير الاجتماعي، بل وإذا لم يكن انعكاساً معرفيا للتغيير الاجتماعي. فالآخر يكون أقرب إلى الفوضى والعشوائية منه إلى التغيير في غياب التفكير العلمي. وقد أدرك بناة عقيدة التنوير هذه العلاقة الجدلية منذ مطلع الحقبة الحديثة. فها هو ذا فرانسيس بيكون يطرح شعاره المشهور في القرن السادس عشر: المعرفة قوة؛ قوة من أجل سيطرة الإنسان على الطبيعة وعلى طبيعته وتاريخه. لقد طرحت عقيدة التنوير ممثلة ببيكون منذ البداية المعرفة بصفتها فعلاً اجتماعياً تغييراً، بصفتها قوة اجتماعية ثورية تهدف إلى تغيير وضع الإنسان. واستنتج بيكون طبيعة المعرفة ومنهجها التجريبي من هذا الهدف وتلك الصفة تحديداً. فالعلاقة جدلية حقاً بين البناء الداخلي للمعرفة العلمية وبين الهدف الثوري الاجتماعي. ونرى الشيء ذاته عند رينيه ديكارت، أبي الفلسفة الحديثة. فقد أعلن مشروعه لبناء علم كوني جديد ويقيني تعبيراً عن إرادة تاريخية جديدة هدفها تشكيل العالم وصوغه على شاكلتها. وانعكس ذلك في منهجه التحليلي التركيبي، الذي يسعى إلى تفكيك الموضوع من أجل إعادة تركيبه وفق إرادة التغيير. بل، وانعكس ذلك أيضاً على تصوره للذات والعقل. فالذات إرادة في جوهرها، وكذا العقل. وكون العقل إرادة هو الذي يجعله أساساً للوجود. إذاً، مرة أخرى نجد هذا الربط الجدلي بين التفكير العلمي والتغيير الاجتماعي. ولكن، لئن اقتصرت هذه العلاقة لدى بيكون وميكافيلي وديكارت على النخبة، فقد أخذت فلسفة القرن الثامن عشر تنحو منحى ديموقراطيا شعبيا وتوسع الدائرة لتشمل قطاعات واسعة من الشعب. هذا ما ظهر بجلاء لدى فولتير وروسو وديدرو وغيره من الماديين الفرنسيين. وتنامى هذا الميل وتصاعد وترسخ في التربة الأوروبية في القرن التاسع عشر حتى وصل أوجه في ماركس وإنغلز ولاسال، الذين اعتبروا التحام النظرية العلمية بالجماهير الكادحة وحركتهم أساساً للتقدم والتغيير الاجتماعي الهادف. وسنعلق لاحقاً بمزيد من التفصيل على طبيعة هذا الالتحام.
(2) أما الملاحظة الثانية فهي أن هناك ارتباطاً جدليا ضروريا بين التفكير العلمي والإنتاج الاجتماعي. إن كل إنتاج اجتماعي يستلزم معرفة وينطوي على معرفة. ولكن، لئن كان الإنتاج ما قبل الرأسمالي يعتمد الخبرة الحرفية (خبرة الصياد والراعي والفلاح والصانع) أساساً له، أي المعرفة المنبثقة من الصدفة والخبرة، فإن الإنتاج الرأسمالي يعتمد بحكم ديناميته الداخلية المعرفة العلمية أساساً له. لذلك، يغدو التفكير العلمي في الرأسمالية قوة إنتاج رئيسية ومرجعية أساسية لاتخاذ القرارات والممارسة الإنتاجية وغيرها من الممارسات المجتمعية. فالرأسمالية لا تدوم من دون تثوير متواصل ومتنامٍ لوسائل الإنتاج والتوزيع، كما بين ماركس وإنغلز في رائعتهما، “البيان الشيوعي”، الذي صدر عام 1848، أي قبل 150 عاماً من الآن. لذا، فإنها لا تدوم من دون تقانة متسارعة النمو. ولما كانت التقانة تجسيداً للمعرفة المطابقة للواقع، فإن تناميها المتسارع يستلزم معرفة علمية متسارعة النمو. لذلك كان لا بدّ من بناء المنهج العلمي على أنقاض المناهج الأخرى وتحويله إلى حركة اجتماعية جارفة وإلى قوة إنتاج رئيسية ومرجعية اجتماعية أساسية، وذلك منذ بدء الحقبة الحديثة، الحقبة الرأسمالية. فإعادة إنتاج الرأسمالية استلزمت وما زالت تستلزم ذلك.
(3) إن التفكير العلمي بصفته تفكيراً مؤسسيا سائداً تاريخي في جوهره، بمعنى أنه ولد وازدهر ونما تحت ظروف تاريخية معينة، وقد ينحسر ويتراجع، بل قد يندثر ويتلاشى، تحت ظروف تاريخية أخرى. فهو ليس أزليا، كما إنه قد لا يدوم طويلاً، وإنما يلد ويزدهر وينحسر وقد يموت، شأنه شأن غيره من العضويات والبنى الاجتماعية التاريخية. لقد شكلت ولادة التفكير العلمي زلزالاً عاصفا في الوعي الاجتماعي ما زلنا نعيشه ونلحظ تعاظمه. إن التفكير العلمي إذاً ثورة دائمة في حياة البشر في الحقبة الحديثة يقلبها باستمرار رأساً على عقب. وهو ليس ممارسة ذهنية محضة يمارسها نفر من الموهوبين والعباقرة في كل زمان ومكان في أبراجهم العاجية خارج إطار المؤسسات والتيارات الاجتماعية المتلاطمة. كما إنه ليس حكراً على عرق معين، حيث إن إمكانيته مكتوبة في بنية الدماغ البشري. وهو عملية اجتماعية تاريخية معقدة تستلزم جملة من التراكمات التاريخية والظروف الاجتماعية والمادية المتطورة.
(4) إن التفكير العلمي يربط بين الخاص والخاص وبين الخاص والعام وبين العام والعام عبر منهج دينامي من التحليل والتفكيك والشك وإعادة التركيب والتجريد والنمذجة والاختبار والتخيل التجريبي والتجريب المتوصل والتنبؤ وتوسيع فضاء الإمكانات. فهو قوة ثورية عاصفة. لذلك، فليس كل حضارة بقادرة على تحمله. ويمكن القول إن أول حضارة استطاعت تحمله، بل وعملت على خلقه وتنميته ورعايته، هي الحضارة الرأسمالية الحديثة، وذلك بفضل حاجتها الإنتاجية الضرورية إليه. أما الحضارات ما قبل الرأسمالية، فلم تستطع تحمله لفترات ملموسة، فلم تتحمل إلا بعض عناصره وجوانبه. وقد وضعت هذه العناصر ضمن أطر وقيود دينية وفلسفية شكلت بمثابة قفص لها ولفعلها. بذلك فقد كان العلم في تلك الحضارات علما مقيداً ومفككاً وتابعاً للدين والفلسفة الدينية. ولم تنبثق المنهجية العلمية في نقائها وبوصفها قوة اجتماعية إنتاجية أساسية إلا بعد أن تمكنت من كسر هذه الأطر وخلق أطرها الخاصة. هذا ما حصل بصورة حاسمة في القرنين السادس عشر والسابع عشر في أوروبا، فيما يسمى الثورة العلمية الكبرى. وبعدها أخذ يحتل العلم في المراكز الرأسمالية مركز الصدارة، وأخذت الحضارة الحديثة تتعلم كيف تؤقلم نفسها وتتكيف مع تطوره. لقد احتاجت الرأسمالية إلى التفكير العلمي في إنتاج المعرفة بصدد الطبيعة وتسخيرها تقانيا، لأن قاعدتها الإنتاجية استلزمتها بالضرورة. لكنها خافت من العقلانية العلمية الثورية في جوهرها، خافت أن تنتقل إلى الطبقة العاملة والجماهير الشعبية، خافت أن تتملك الجماهير وتصبح أداة تحرر في يدها. لذلك سعت منذ البداية إلى حصر التفكير العلمي واحتوائه والحد من تفشيه في مسامات المجتمع الرأسمالي. وكان سبيلها إلى ذلك الفلسفة البرجوازية، وبخاصة التيارات اللاعقلانية منها. إذ أخذت البرجوازية تتنكر لتراث عقيدة التنوير، متنكرة بذلك لجانب مهم من تراثها، حيث ساهم مفكرو البرجوازية الثورية مساهمة رئيسية حتى عام 1848 في بناء هذه العقيدة. وطورت البرجوازية الغربية في مجابهة عقيدة التنوير، وبخاصة بعد 1848، وهو عام أول تحرك ثوري سياسي مستقل للطبقة العاملة، أقول: طورت فلسفات لاعقلانية حديثة قوية، تصاعد نفوذها وتصاعدت حدتها في القرن العشرين، حتى وصلت الأوج في العقد الأخير منه، وذلك لمجابهة تراث التنوير والحد من تفشيه في صفوف الجماهير. بذلك استطاعت الرأسمالية أن تتحمل التفكير العلمي وعقائده الفلسفية، فاستفادت من هذا التفكير إنتاجيا من دون أن يتحول إلى قوة ثورية عاتية تعصف بحكم البرجوازية وسيطرتها.
(5) إن التفكير العلمي بحكم تكوينه الداخلي يدخل في تصادم مع جميع العقائد الدينية والفلسفية، بما في ذلك عقيدة التنوير التي يشكل أساسها. لكن صدامه مع عقيدة التنوير ليس تناحريا. إنه أقرب إلى التوتر الخلاق منه إلى التناحر. إن العلاقة بين الطرفين هي علاقة نقدية أكثر منها نقضية تناحرية. وعلينا ألا ننسى هنا أن إحدى الوظائف الرئيسية لعقيدة التنوير هي حماية العلم من الآيديولوجيا اللاعقلانية والدفاع عنه. وتدخل العلاقة النقدية بين الطرفين في نطاق هذه الوظيفة. فالعلم وعقيدته يحميان بعضهما بالنقد. إنها علاقة صحية تدفع الاثنين على درب التقدم. هذا فيما يتعلق بعقيدة التنوير. أما فيما يتعلق بالعقائد الأخرى، وبخاصة العقائد الدينية الشمولية قروسطية الطابع، فإن علاقة التفكير العلمي بها هي علاقة صدامية تناحرية بالمطلق. لذلك كان محتما على العلم أن يصطدم بالعقائد السائدة والمسيطرة في العصور الوسطى. كان ذلك محتماً:
(أ) لأن هذه العقائد كانت شمولية ترفض وجود أي سلطة خلاف سلطتها، في حين أن العلم يرفض أن ينصاع لأي سلطة في مجاله المعرفي غير سلطته الداخلية، سلطة العقل العلمي في بعديه النظري والتجريبي. فهو يرفض السلطة المعرفية للغيب والسلف والبديهي، ولا يعترف إلا بسلطة منهجية.
(ب) لأنه لا يسلم بفكرة، مهما اعتبرت مقدّسة، من دون إخضاعها للتحليل النظري المنطقي والاختبار العلمي الدقيقين والمتواصلين. فإما أن تكون الفكرة مدروسة بعمق ومؤسسة على أرضية منطقية تجريبية صلبة، وإما أن تلفظ خارج موروثه الحي.
(جـ) لأنه يرفض اعتبار الطبيعة مجرد مخلوق، أي مجرد تعبير عن ذات أو منطق أحادي، وإنما يعتبرها كيانا ماديا مستقلا تحكمه قوانين ومبادىء موضوعية ولا ينطبق ظاهره مع باطنه. كما إنه يرفض اعتبار الإنسان خارج الطبيعة.
(د) لأنه ينطلق من أن المعرفة لا تهبط من علٍ، وإنما تصنع صناعة بأدوات التنظير والتجريب العلميين من قبل جماعات بشرية مدربة على استعمال هذه الأدوات ومشربة حتى النخاع بالموروث المعرفي العلمي.
(6) إن الدور الضروري للتفكير العلمي في التغيير الاجتماعي يتجلى أكثر ما يتجلى في علاقته بالتنمية والتحديث. ونعني بعملية التحديث التجديد المتواصل للقاعدة الإنتاجية وبناها وعلائقها بما يرفع كفاءتها وأداءها وفاعليتها. والسعي إلى التحديث بهذا المعنى هو سمة جوهرية من سمات الحقبة الرأسمالية الحديثة. فالمراكز الرأسمالية الكبرى تسعى إلى التحديث لتعزيز مواقعها في السوق العالمية والمحافظة عليها وتوسيعها. أما الأطراف فهي تسعى إلى ذلك، ولو شكليا، من أجل احتلال مواقع، مهما كانت متواضعة، في السوق العالمية والحد مما تعانيه من تهميش مريع. لذلك كان السعي إلى التحديث عاماً وشاملاً ومعولماً. ولذلك أيضاً راجت على الصعيد العالمي كثير من نظريات التحديث وخطط التحديث، وطبق عدد منها في البلدان الطرفية. وجاء جلّ هذه النظريات والخطط صنميا متمحوراً حول الرأسمال وسبل تعزيز مكانته وهيبته وتوسيع قاعدة استثماره ونفوذه وإزالة العوائق أمام هيمنته المطلقة وتدفقه، أي جاءت على صورة وصفات رأسمالية هدفها “تزييت” مفاصل هذه الآلة الطبيعية المعقدة التي نسميها المجتمع البشري. وتجاهلت حقيقة أن المجتمع البشري ليس سوى شبكة من العلائق الموروثة بين الفاعليات الإنتاجية البشرية، أي الأفراد، مهما كانت هذه العلائق مغتربة. وجاءت نتيجة تطبيق بعض هذه النظريات والخطط كارثية ومدمرة في كثير من الأحيان. ولعل السبب الرئيسي في ذلك هو إغفالها الوعي الاجتماعي والفاعلية البشرية الواعية والهادفة. فالتحديث يظل شكليا وسطحيا ما لم يتضمن تحديث الوعي الاجتماعي. وأعني بتحديث الوعي الاجتماعي إعادة تركيبه على أساس القيم العلمية والعقلانية العلمية وإكسابه عادات التفكير العلمي. فالوعي الاجتماعي المحدث هو الوعي الذي عانى الثورة الثقافية العلمية في بنيته الداخلية وزلزلت أركانه العقلانية العلمية وتخللت مساماته الداخلية. وإذا استعرضنا التجارب التنموية التحديثية الكبرى في الحقبة الحديثة، نرى أن تحديث الوعي الاجتماعي كان في مقدمة مهمات التنمية. ولدينا مثال ساطع على ذلك في مفكري البرجوازية الثورية في أوروبا الغربية في مطلع الحقبة الحديثة. إذ أخذ أولئك العلماء والفلاسفة على عاتقهم تحديث الوعي الاجتماعي الأوروبي منذ القرن السادس عشر وحتى مطلع القرن التاسع عشر. لقد وضعوا نصب أعينهم زرع التفكير العلمي في عقول النخب أولا، ثم في عقول الجماهير الشعبية نفسها. فها هو ذا جيوردانو برونو يجوب أقطار أوروبا في النصف الثاني من القرن السادس عشر مبشراً بالمادية الذرية ولانهائية الكون المادي وقدرات الإنسان المتصاعدة، رافضا التنكر لهذه الأفكار الثورية تحت تهديد السجن والتعذيب والحرق. وها هو ذا غاليليو، أبو الفيزياء الحديثة، يأبى أن تظل أفكاره العلمية الثورية حبيسة الصومعة والمختبر، فيعمل على التعبير عنها بلغة الشارع الإيطالي بلغة مفهومه كي يغزو هذا الشارع من أجل تحريره من تزوير المؤسسات اللاهوتية. وها هو ذا فولتير ينقل منجزات نيوتن العلمية الثورية إلى الشارع الفرنسي من أجل تهيئته للثورة الفرنسية القادمة. ولا ننسى في هذا المضمار ديدرو المادي الذي وضع موسوعته الشهيرة المكونة من سبعة عشر مجلداً ضخما على مدار عشرين عاماً تجسيدا لعقيدة التنوير المادية الجديدة وتعبيراً شاملاً عنها من أجل رفع الوعي الاجتماعي الفرنسي إلى مستوى التحدي القادم. وما كان في مقدور أوروبا الغربية أن تفلح في تخطي بدائية إقطاع العصور الوسطى وتحقيق قفزتها التنموية الهائلة لولا تحديث الوعي الاجتماعي، تلك المهمة التي لم تجد حتى الآن من يسعى إلى تحقيقها في الوطن العربي الحديث سوى حفنة ضئيلة من رواد النهضة.
(7) إن التفكير العلمي نقدي في جوهره. لكن دور النقد في العلم الطبيعي ليس مماثلا تماماً لدوره في العلم الاجتماعي. فالعلم الطبيعي ينتج معرفة بصدد موضوعه بالنقد الذاتي المتواصل. بل إنه يستنطق موضوعه بالنقد الذاتي، باستنطاق ذاته. فهو يخضع باستمرار الأفكار التي ينتجها وأي أفكار أخرى بصدد موضوعه لحمض النقد والاختبار. فهو يحلل هذه الأفكار ويعيد تركيبها ويختبرها نظريا وعمليا، ومن ثم يبين مدى انسجامها معاً ومدى مطابقتها لواقع الطبيعة. لكنه يقبل الطبيعة على علاتها ويجابهها بصفتها معطى حسيا معينا. أما علم الاجتماع فيذهب أبعد من ذلك. ذلك أنه يشكل جزءاً من موضوعه. كما إن موضوعه ليس معطى، وإنما هو خلق بشري تاريخي مضمخ بالقيم والمعايير البشرية. فدراسته إذاً هي دراسة الإنسان لذاته. وعليه، فإن الحقيقة في مجاله ليس مجرد موضوع معطى للمعرفة، وإنما هي هدف يسعى المرء إلى تحقيقه وتجسيده واقعاً. من ثم، فإن علم الاجتماع لا ينتج معرفة بصدد موضوعه إلا في سياق تغيير هذا الموضوع. أو قل إنه لا ينتج معرفة بصدد موضوعه بالنقد الذاتي، أي نقد ما ينتجه من أفكار بصدد موضوعه، فقط، وإنما أيضا بنقد موضوعه في سياق تغييره، أي ببيان عنصر الزيف والاستتار والاغتراب والكبت في موضوعه. وعليه، فإن علم الاجتماع الجدير بهذا الاسم ليس مجرد أداة موضوعية حيادية تسخرها الطبقات التاريخية في صراعاتها، وإنما هو تجسيد مباشر لوعي الطبقة المطلقة الثورية في المجتمع البشري، الطبقة العاملة. إنه تجسيد مباشر للصراع الطبقي، للوعي الثوري في المجتمع، لإرادة التغيير الثوري الاجتماعي. فليست الفلسفة وحدها تجسيداً للصراع الطبقي على الصعيد النظري، كما ذهب الفيلسوف الفرنسي الراحل لوي ألتوسير، وإنما يشاركها في ذلك أيضا علم الاجتماع، المادية التاريخية نفسها. وهو المؤهل لإنتاج المعرفة بصدد موضوعه بالضبط لأنه ينقد موضوعه في سياق تغييره ثوريا، لأنه يرفض تكريس الكائن وتأبيده وتجميده، لأنه يرفض الاعتراف بديمومة الاغتراب والزيف والاستبداد والاستغلال ويسعى إلى تحقيق الحق والخير والجمال في حياة الإنسان. في هذه الفكرة بالذات يصل التحام التفكير العلمي بالتغيير الاجتماعي أوجه؛ تصل عقيدة التنوير أوجها الفعلي. وبهذه الفكرة الماركسية العظيمة أصل إلى ختام محاضرتي.