اليسار الأردني: من أين وإلى أين؟
هشام غصيب
الحوار المتمدن
-
العدد: 3641 - 2012 / 2 / 17 - 09:30
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
كأي تشكيلة أخرى في الأردن، فإن اليسار الأردني كان دوماً انعكاساً جلياً لحالة اليسار العربي؛ يهن بوهنها ويقوى بقوتها؛ يبهت ببهوتها ويتوهج بوهجها. وهو، منذ بداياته في مطلع خمسينيات القرن العشرين، ارتبط بقضايا الأمة العربية الرئيسية: بالحريات والديموقراطية والتحرر الوطني ومناهضة الإمبريالية والصهيونية والاستغلال والفقر. لقد شكل منذ بداياته تياراً ديموقراطياً تحررياً يرفع راية الاشتراكية ويعلن انحيازه الكامل إلى المعسكر الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفييتي، برغم اعتباره الاشتراكية مجرد أفق بعيد لا يسعى إلى تحقيقه مرحلياً. وعليه، يمكن القول إن اليسار الأردني كان دوماً ديموقراطياً وطنياً إصلاحياً على الصعيد المحلي واشتراكياً على الصعيد الجيوسياسي.
ومع أن اليسار الأردني يتشكل من ثلاثة تيارات رئيسية: التيار القومي اليساري (الناصري والبعثي) والتيار الفلسطيني (امتدادات يسار منظمة التحرير الفلسطينية) والتيار الشيوعي (الموالي لموسكو السوفييتية في جلّه)، إلا أني سأقصر كلامي على التيار الشيوعي الأردني تحديداً، والذي يمكن القول إنه يمس فلب اليسار الأردني.
وقد نبعت الشيوعية الأردنية من قلب الشيوعية الشامية ممثلة بالحزب الشيوعي السوري اللبناني والتيار الشيوعي الفلسطيني. وظل انعكاساً دقيقاً للشيوعية الشامية، حاملاً مناهجها وهموها ومواقفها وأمراضها وتناقضاتها.
وأول ما ينبغي أن نلتفت إليه في هذا الصدد هو أن الحزب الشيوعي الأردني لم يكن يوما حزباً ثوريا يسعى إلى قلب نظام الحكم في الأردن. فكما وصفته أعلاه، فقد كان في جوهره حزباً ديموقراطياً وطنياً إصلاحياً يسعى إلى تعزيز الاستقلال والحريات الديموقراطية والتنمية بالطرق السلمية. وعلى أي حال، فلم يكن قادراً أن يكون غير ذلك. فهو لم يكن أداة ناجعة للفعل الثوري الجماهيري ولم يكن مهيئاً لذلك، لا فكرياً ولا تنظيمياً ولا عملياً. فهو لم يكن يمتلك عقلاً نظرياً ماركسياً يوجهه في بناء مواقفه وفي سياسته وفعله السياسي، وإنما كان يسترشد في ذلك بالديبلوماسية السوفييتية وحسه الوطني والشعبي العميق. ولم تكن صلته بالاشتراكية صلة عضوية ثورية برامجية، وإنما كانت مجرد تعبير عن جذوره السوفييتية وانحيازه للمعسكر الاشتراكي. وقد تبنى طوال تاريخ ضمناً نظرية المراحل المنشفية، القائلة بأن المرحلة الحالية من تاريخ الأردن والوطن العربي هي مرحلة الاستقلال والتنمية البرجوازية، وأن حقبة كاملة من الأحداث التاريخية تفصل هذه المرحلة عن المرحلة الاشتراكية بعيدة الأفق، ومن ثم فإن دور الحزب الشيوعي في هذه المرحلة ليس طليعياً، وإنما هو دور مساند لتلك القوى البرجوازية والبرجوازية الصغيرة المعادية للإمبريالية وذات التوجه التنموي المستقل. ويفسر ذلك كله طبيعة موقف الحزب الشيوعي الأردني من القضية الفلسطينية والقضية القومية العربية. فهو موقف وطني بالتأكيد، لكنه ليس ثورياً، وإنما كان انعكاساً للديبلوماسية السوفييتية. فالحزب الشيوعي الأردني، وإن وقف دوماً مع الشعب الفلسطيني، إلا أنه مال دوماً إلى تأييد منظمة التحرير الفلسطينية ونهجها التسووي وإلى حل الدولتين على أرض فلسطين، كما عبر عنه التأويل العربي الرسمي لمقررات هيئة الأمم المتحدة. كذلك، فمع أنه أيد دوماً التضامن العربي ووحدة الصف العربي، إلا أن مفهوم ضرورة وحدة الأمة العربية لم يحتل موقعاً رئيسيا في فكره ومواقفه.
وقد عانى الحزب الشيوعي الأردني من الانقسامات في داخله، وأعطى الانطباعات لدى المراقبين أن هذه الانقسامات لم يكن مردها الخلافات السياسية والفكرية، وإنما كانت مرتبطة باعتبارات فئوية وشخصية ضيقة. ولربما كان لوهج منظمة التحرير الفلسطينية وبعض الخلافات العربية دور في ذلك. وقد وصلت هذه الانقسامات حد الانفجار والتفجر عقب انهيار الاتحاد السوفييتي، الأمر الذي أصاب هذا الحزب العريق بالوهن والتفكك.
وقد شكل انهيار الاتحاد السوفييتي محنة قاسية للحزب الشيوعي الأردني، حيث إنه أفقده مرجعيته وعقله الموجه وراعيه الأبوي، الأمر الذي قاده إلى التفكك وفقدان الثقة بالذات والى تبني خطاب أقرب إلى الليبرالية منه إلى الاشتراكية.
وفي مطلع تسعينيات القرن الماضي، ومع حدوث الانفراج الديموقراطي عقب هبة نيسان (1989)، ظهرت على السطح تيارات من داخل الحزب وخارجه عبرت عن تبرمها بوضع الحزب وبنيته وفكره وأهدافه ووجهت نقداً حارقاً إلى الحزب ومسيرته من منظورات راديكالية، بل ودعت إلى تشكيل تنظيم بلشفي ثوري جديد على أسس ماركسية لينينية صارمة. وتركز هذا النقد على تبعية الحزب الفكرية للاتحاد السوفييتي، وغياب عقل ثوري مستقل له، وموقفه من الاشتراكية وراهنيتها، وموقفه من القضية الفلسطينية، وموقفه من القضية القومية. وحاولت هذه التيارات، التي ضمت جناحاً راديكالياً مهماً من الحزب الشيوعي الأردني، هو الحزب الشيوعي الأردني-النهج الثوري، ومجموعة تروتسكية، وبعض الماركسيين الثوريين المستقلين، وبعض القوميين الراديكاليين-أقول: حاولت هذه التيارات أن توحد جهودها من اجل إقامة التنظيم الثوري الجديد. وشكلت بالفعل نواة لهذا التنظيم أسمته المنبر الماركسي. لكن هذا المنبر لم يدم طويلاً، وأخفقت هذه التيارات تماماً في هذا المسعى.
ولئن أخفقت التيارات الراديكالية في التوحد وإقامة تنظيم جديد، فقد أفلحت في إقامة منتدى فكري أسمته منتدى الفكر الاشتراكي بديلاً مؤقتاً للتنظيم وأداة فكرية لبنائه. وكان الهدف من إقامته إعلاء شعار الاشتراكية في زمن انهيار المنظومة الاشتراكية وتراجع الماركسية، وتوفير منبر فكري للحوار الجدي بين التيارات الماركسية الراديكالية، وبناء وعي نظري ماركسي مستقل متقدم، والتأسيس لثقافة اشتراكية جدية في الأردن. وعد تحقيق هذه المهمات شرطاً مسبقاً لبناء التنظيم الثوري.
ومع أن منتدى الفكر الاشتراكي ما زال قائما وحافظ على وجوده منذ تأسيسه عام 1993، إلا أن أثره على الساحة الأردنية ظل ضعيفاً ومسيرته ظلت متعثرة، وذلك لقلة موارده.
ومع انطلاق الحراك الشعبي الأردني في العامين الأخيرين أو الأعوام الثلاثة الماضية، بدأت بعض التيارات الراديكالية، التي كان لها دور في تأسيس منتدى الفكر الاشتراكي وفي مسيرته، تعيد تنظيم نفسها عبر مشاركتها في الحراك الشعبي، لكن تقدمها التنظيمي ظل بطيئاً ومتعثراً، وأخذت تعاني من الانشقاقات والتشرذم منذ بدء تشكلها.
والحال أن اليسار الأردني (الشيوعي تحديداً) ما زال مفككاً وتائهاً وضعيف الأثر في المجتمع الأردني، برغم إرثه الثوري الوطني النضالي العظيم، وبرغم الحاجة الموضوعية في الأردن والمنطقة إلى وجود يسار أردني راديكالي فعال.