مغزى ثورة أكتوبر
هشام غصيب
الحوار المتمدن
-
العدد: 5317 - 2016 / 10 / 18 - 07:47
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
ماذا يمكن أن نقول عن ثورة أكتوبر بعد مرور 94 عاماً عليها، وبعد مرور 20 عاماً على إلغاء الاتحاد السوفييتي والمنظومة الاشتراكية؟ الكثير بالطبع. فالحدث التاريخي لا ينتهي بمجرد وقوعه. فهو لا نهائي بالقوة، وتداعياته تستمر إلى ما لانهاية. لكن هذه الجوانب والتداعيات لا تظهر دفعة واحدة، وإنما في سياق تطور التاريخ. إن بروز قوى تاريخية وأنماط وعي جديدة يكشف عن جوانب ومعانٍ جديدة للحدث. وهذا هو أساس السعي المتواصل إلى إعادة كتابة التاريخ وإعادة قراءته. كما إنه أساس كون التاريخ مرشداً للحاضر والمستقبل.
إن هدفنا بالطبع ليس هو الاحتفال والاحتفاء بذكرى ثورة أكتوبر. فلا يليق بحدث عظيم كثورة أكتوبر، التحمت فيه النظرية بالفعل الثوري التحاماً عضوياً عميقاً، أن يحتفى به وجدانياً وعاطفياً فقط. بل إن الالتزام بمشروع هذه الثورة والانتماء إليه يستلزم مزيداً من المعرفة لا يعرف حداً.هناك الكثير من اللغط قيل عبر السنوات، وبخاصة في العقدين الأخيرين. وعلينا أن نغربل هذا اللغط بالمنهج العلمي التاريخي وأن نجابه الحقائق ومعانيها ومغازيها بالتجرد الذي يقتضيه التزامنا بالمشروع اللينيني العظيم، وإلا تحولنا إلى مجرّد أبواق دعاية تخدم مصالح نخبوية ضيقة. فهذا المشروع التاريخي الجبار إما أن يقوم بالحقائق القاسية وإما أن لا يقوم بتاتاً.
إن ثورة أكتوبر تجعلنا نفكر أولاً، وقبل كل شيء، في العلاقة بين الثورة والديمقراطية، صنم العصر. فهناك عديدون يصورون هذا العلاقة على أنها علاقة تناحرية، أي علاقة تناقض مطلق، وكأن حقبة الحرب الباردة كانت عبارة عن معركة متواصلة بينهما. لكن المطلع على أحداث ثورة أكتوبر يدرك جيداً أن الثورة، في الحقبة الحديثة على الأقل، تمثل أعلى مراحل الديمقراطية، حيث تنخرط الجماهير الكادحة في الفعل الاجتماعي التاريخي والسياسي انخراطاً عميقاً وشاملاً، وتأخذ زمام المبادرة في تسيير شؤون المجتمع. فالثورة تتخطى إطار الانتخابات الموسمية ( الهادئة المؤدبة) الضيق صوب اتخاذ القرارات الجمعية وتنفيذها في جميع مجالات الحياة الاجتماعية التاريخية. وهذه الحقيقة تبطل الصورة التي يحاول رسمها مؤرخو الثورة المضادة، ومفادها أن ثورة أكتوبر لم تكن سوى انقلاب قامت به نخبة من المثقفين المغامرين من أجل فرض تصور طوباوي على مجتمع برمته. كلا! فالذي امتلك القوة على الأرض في ثورة أكتوبر، والذي كان يتخذ القرارات العامة وينفذها لأنه يمتلك أدوات تنفيذها، هو البروليتاريا والفلاحون المنظمون، وبالذات السوفييتات والأحزاب الاشتراكية، وبخاصة الحزب البلشفي. ولم يكن في استطاعة الحكومة المؤقتة البرجوازية، التي حكمت روسيا بين ثورتي فبراير وأكتوبر، أن تفعل شيئاً من دون موافقة السوفييتات. لقد نظم العمال والفلاحون أنفسهم عام 1917 في سوفييتات ولجان وورش ونقابات وغيرها من أشكال التنظيم، وسيطروا على المرافق الرئيسية من سكك حديد ومرافق بريدية ومصانع ومحطات وقود وأراضٍ، فباتت البلاد تحت سيطرتهم، وما كان بالإمكان إغفالهم. وانخرط أغلب الجيش الروسي في هذه الأطر، وفقد الضباط سيطرتهم عليهم، وأضحى الجنود يشكلون الجناح العسكري لمنظومة السوفييتات. لقد أضحت السوفييتات قوة اجتماعية تاريخية متماسكة قادرة على الفعل المؤثر. وهي التي سيطرت على الأرض. وكل ما كان ينقصها هو الوعي الكامل لذلك ولضرورة استلامها السلطة السياسية. وهذا بالضبط ما زوده لينين وسده.
لقد شكلت السوفييتات في وحدتها البنيوية أعظم لحظة ديمقراطية في التاريخ. واللحظة الوحيدة التي يمكن مقارنتها بها هي لحظة كومونة باربس. لكن الأخيرة لم تكن على مستوى سوفييتات روسيا من حيث العمق والاتساع، كما إن الوعي الذي كان سائداً في صفوفها لا يقاس بالوعي البلشفي الذي ساد سوفييتات روسيا في أكتوبر 1917. أما في الثورات السابقة، فلم يكن تنظيم الجماهير الكادحة ذاتياً، وإنما كانت أقرب إلى الجيوش الشعبية التي حشدت من أجل تحقيق برامج غيرها من الفئات والطبقات. ففي الثورات البرجوازيـة الكبـــــرى ( الفرنسية، والإنجليزية قبلها)، التفت الجماهير الكادحة حول القيادات البرجوازية والبرجوازية الصغيرة من أجل حل مشكلاتها المتراكمة، ولكن في سياق تحقيق المشروع التاريخي للبرجوازية. وفي ثورة الزنج مثلاً، فقد شكل الزنج جيشاً طوعياً يأتمر بأمر علي بن محمد وقادته، لكنهم لم يشاركوا في صنع القرار، وإنما بايعوا علي بن محمد لكي يتخذ القرار نيابة عنهم. بذلك كانت ثورة أكتوبر أول حدث تاريخي تنظم فيه الجماهير ذاتها في أطر تجعلها قادرة على التحكم في مرافق المجتمع، وتتخذ القرارات وتنفذها جمعيا وديموقراطياً. وفي لحظة أكتوبر، شكل لينين عقلها في أعلى صوره، لكنه استلم السلطة بإرادتها وقرارها وتعاونها.
لكن لحظة السوفييتات هذه لم تدم طويلاً، كما نعلم. لقد صفتها الثورة المضادة من الخارج ومن الداخل؛ صفتها الحرب الأهلية، ثم القوى الاستبدادية في داخل الحزب الشيوعي السوفييتي ضمن الأجواء، التي خلقتها الثورة المضادة على الصعيد العالمي. إنها لحظة فريدة في التاريخ لم تتكرر؛ سطعت برهة وغمرت البشرية بنورها الساطع، ثم انطفأت… إلى غير رجعة؟! هل كانت صدفة جميلة، أم إنها تنتمي إلى المستقبل المنظور، الذي لا يتصور من دونها؟ هل سبقت هذه اللحظة الثورية الديموقراطية عصرها بعقود وصورت في برهة ساطعة ما سوف يأتي؟ أم إنها مجرد وهم جميل بزغ برهة قبل أن يبتلعه الواقع التاريخي بقسوته إلى غير رجعة؟ على هذه الإجابة يتوقف بقاء البشرية أو زوالها!
والنقطة الثانية التي أود ذكرها هنا هي أن لينين أدرك أن التاريخ لا يكرر نفسه البتة، وأن تاريخ روسيا ليس تاريخ فرنسا. كما إنه لم يدع التحيزات الآيديولوجية تعميه عن رؤية الواقع العياني. لقد نظر إلى واقع أكتوبر 1917 بعين ثاقبة، فرأى برجوازية هزيلة تابعة للإقطاع وترتعد فرائسها هلعاً من البروليتاريا والفلاحين، وأدرك أنها عاجزة عن تحقيق أي من المهمات الديموقراطية والقومية، فنادى بإسقاطها. وفي المقابل، وجد ماثلاً أمامه بروليتاريا واعية منظمة في شبكة من السوفييتات واللجان وقادرة على قيادة الفلاحين وتنظيمهم، وأدرك أن البروليتاريا والفلاحين في تحالفهم معاً يشكلون القوة الرئيسية في المجتمع الروسي آنذاك، وأنهم قادرون على إنجاز الكثير من المهمات الديموقراطية الضرورية لبقاء روسيا كيانا متماسكا مستقلا . لذلك نادى بأن تكون السلطة كلها للسوفييتات. لم يكن لينين مغامراً يريد حرق المراحل والقفز عليها، وإنما كان قائداً موضوعيا ثاقب النظر وقادراً على قراءة الأحداث بدقة.
لقد أدرك لينين أن مربط الفرس هو الحرب. إذ أدرك أولا ما كان على شكل شعور عارم لدى الجماهير الكادحة، وهو أن أيا من المطالب الملحة لدى هذه الجماهير ( توزيع الأراضي على الفلاحين، وقف تردي أحوال العمال وغيرها من المطالب العمالية، تأمين السلع والمواد الضرورية للجماهير) لا يمكن أن تحقق من دون إيقاف فوري للحرب. وأدرك أيضا أن الحكومة المؤقتة ليست قادرة على اتخاذ قرار حاسم بهذا الحجم، أولا لبعدها عن الجماهير وآلامها، وثانيا لضعف الطبقة البرجوازية التي تمثلها، وثالثا لمطامعها العدوانية الي تنبع من طبيعتها الاجتماعية التاريخية . من ثم ، أدرك لينين أيضاً أنها غير قادرة البتة على تحقيق أي من المهمات الديموقراطية الكبرى، الي سبقت أن حققتها البرجوازية الفرنسية في الثورة الفرنسية الكبرى (1789) والبرجوازية الإنجليزية في ثورة منتصف القرن السابع عشر. وأدرك أن القوة الثورية الوحيدة على الأرض، والتي يمكن أن تحقق ذلك ، هي الطبقة العاملة . من ذلك أدرك ضرورة الثورة الاشتراكية مَنْ أجل تحقيق المهمات الملحة والمهمات الديموقراطية ( هل هي الثورة الدائمة التي طرحها تروتسكي ؟ قد يحتاج الأمر إلى مزيد من التدقيق). وهذا يدل على أن لينين لم يكن مغامراً يريد حرق المراحل والقفز عليها، وإنما كان واقعيا حتى النخاع في شعاره : كل السلطة للسوفييتات، وفي طرحه برنامج استلام العمال السلطة، أي برنامج الثورة الاشتراكية . لقد أدرك أن أدنى متطلبات البقاء والتقدم كانت تستلزم الثورة الاشتراكية. لذلك كان شعاره: الأرض، السلام، الخبز. وعلى هذا الأساس حاز على ثقة العمال والفلاحين، ففوضوه لاستلام السلطة وتحطيم الحكومة المؤقتة تمهيداً لتحطيم الدولة الإقطاعية شبه البرجوازية. لقد أدرك العمال ضرورة استلامهم السلطة، لكنهم أدركوا إشكالات ذلك أيضا في ظل الظروف السائدة آنذاك. ووجدوا حل هذا التناقض في الثورة الدائمة ببعديها القومي والعالمي، وساروا على درب هذه الثورة، التي سرعان ما وصلت طريقاً مسدوداً بجدار فولاذي قوامه الثورة المضادة الأوروبية، التي توجت لاحقاً بالفاشية الإيطالية، فالإسبانية، فالألمانية ( النازية). فبدلاً من تفشي الثورة أوروبيا وانتشارها وديمومتها ، اصطدمت بصخرة الثورة المضادة، فتقوقعت على نفسها واتخذت موقفاً دفاعياً كان له أبلغ الأثر على مجمل التطورات اللاحقة في الاتحاد السوفييتي من تبقرط وعسكرة وانغلاق عقائدي. لذلك، فليس صحيحاً أن القرن العشرين كان قرن الثورات. والأقرب إلى الصحة القول بأنه كان قرن الثورات المضادة بامتياز.
وعلى أي حال، فإن النقطة الجوهرية هنا هي أن لينين قاد ثورة أكتوبر ليس لأنه كان يضمن نجاحها في إقامة الاشتراكية والشيوعية روسيا وعالمياً، وإنما لأنه رأى ضرورة تحقيق الثورة الاشتراكية لتحقيق أبسط المهمات القومية والعالمية ( بقاء المجتمع الروسي، تأمين أبسط مقومات الحياة لغالبية الشعب الروسي، حل المسألة القومية في الإمبراطورية الروسية، تفكيك نظم الإقطاع والاستبداد الروسي، بناء قاعدة علمية تكنولوجية صلبة في البلاد). وهذا ليس مجرد تأويل للأحداث، وإنما ورد على لسان لينين في كتاباته المتأخرة مراراً وتكراراً، وبخاصة في كتاباته عام 1923، فبيل وفاته. لقد شكلت الثورة الاشتراكية في روسيا شرطاً أساسياً من شروط البقاء والوحدة القومية والتنمية والاستقلال. وتكرر ذلك بصورة مشابهة لاحقاً في الثورتين الصينية والفييتنامية . وكل الكلام، الذي سمعناه في العقدين الأخيرين، من أن ثورة أكتوبر كانت خطأ تاريخياً ارتكبه لينين في المقام الأول، وأنها كانت فعلاً إرادوياً متسرعاً، وحرقاً للمراحل وقفراً عليها، يتبدد تماماً أمام عيانية أحداث هذه الثورة العظيمة والتشخيص العياني الدقيق لحالة روسيا والعالم عام 1917. وعلينا أن نعي جيداً أنه لم تتح البتة الفرصة أمام الاتحاد السوفييتي لبناء الاشتراكية أو الشيوعية، حيث إنه انشغل طوال تاريخه بالتصدي للثورة المضادة وعدوانها المتواصل، ومن ثم انصبت جهوده كلياً على بناء الجبهة الداخلية من أجل الدفاع عن الوطن. وقد أفلح الاتحاد السوفييتي في ذلك أيما فلاح، ولكن على حساب بناء كثير من عناصر مشروعه الاشتراكي وطموحه التاريخي. وكان على السوفييت أن يبنوا مجتمعاً إسبرطياً عسكرياً بعيداً عن المجتمع الاشتراكي الحر لكي يتصدوا للثورة المضادة، وكان ذلك أداة في حماية الوطن السوفييتي من الاحتلال والدمار والتفتت، لكنه لم يكن الأداة اللازمة لبناء مجتمع الرفاه الاشتراكي الديموقراطي الحر، الأمر الذي قاد إلى انهياره لاحقاً.
والنقطة الثالثة التي أود ذكرها في استذكار ثورة أكتوبر هي أن لينين أدرك محورية الحرب في نمط الإنتاج الرأسمالي، وخصوصاًَفي مرحلة الإمبريالية. والمتتبع للأحداث الراهنة اليوم يلحظ بجلاء أن الرأسمالية باتت تعتمد الحرب آلية أساسية من آليات إعادة إنتاج ذاتها وتجديدها . ولا أعتقد أننا نستطيع تفسير أحداث القرن العشرين ومطلع القرن الواحد والعشرين من دون هذه الفكرة. إن الرأسمالية الإمبريالية تقتات على الحرب. والحرب هي الشكل الأعلى للعدوان الرأسمالي على الطبقات والشعوب الكادحة. هناك بالطبع عدة أشكال لهذا العدوان، بما في ذلك استغلال البروليتاريا الصناعية، والذي أوسعه ماركس بحثا في كتاب “الرأسمال”. إن أساس الرأسمالية هو بالطبع استغلال الطبقة العاملة الصناعية. وهو شكل من أشكال العدوان على هذه الطبقة تحديداً. لكن هذا الشكل الجوهري يخلق من التناقضات والإشكالات الحاجة إلى مزيد من أشكال الإرهاب والعدوان على الطبقات والشعوب الكادحة، خصوصاً على صعيد إعادة إنتاج الرأسمالية. وعليه، فقد باتت الحرب ضرورة من ضرورات إعادة إنتاج الرأسمالية، لربما بالعلاقة مع الحاجة المتزايدة إلى النهب والسلب. وعلى أي حال، فإن هذه الفكرة في حاجة إلى مزيد من التوضيح والدراسة، نظريا وعمليا. وفي حال ثورة أكتوبر تحديداً ، فلربما كان إصرار البرجوازية على استمرار الحرب العالمية الأولى تعبيراً عن شعورها بضرورة الحرب لاستمرار سيطرتها وحكمها، مهما كلف الثمن. وفي المقابل، لربما كان إصرار البروليتاريا على إيقافها، مهما كلف الثمن، تعبيراً عن شعورها بأن أبسط مشكلاتها لا يمكن أن تحل ما دامت الحرب مستمرة، أي ما دامت الرأسمالية قادرة على إعادة إنتاج نفسها. إن محور الصراع اليوم هو مجابهة الحرب على الصعيد العالمي.
وفي الختام، فإنه يبدو لي أن هناك اليوم ثلاثة مواقف رئيسية من ثورة أكتوبر في أوساط اليسار، أو ما يوسم كذلك. وهي تعكس ثلاثة أنماط من الخطابات أو النظم الفكرية الآيديولوجية : الموقف، الذي عبرت عنه لتوي ، والذي أسميه الواقعية الجدلية الثورية، والموقف التقليدي لشيوعيي ما بعد الانهيار، والموقف الستاليني التقليدي. وينطلق الموقف الأول من الإدراك المعمق والمتجدد أبداً للعلاقة الجدلية بين الثورة والديمقراطية والاشتراكية، ومن المعنى التاريخي العميق لكل منها. أما أصحاب الموقف الثاني، فينطلق بعضهم من موقف منشفي خالص مفاده أن ثورة أكتوبر كانت خطأ تاريخيا قاتلا اقترفه لينين في أكتوبر 1917 نتيجة رعونة وانتهازية سياسيتين، وأن الثورة الحقيقية هي الديمقراطية الليبرالية، التي ينبغي تبنيها مطعمة بمفهوم غائم للعدالة الاجتماعية. أما بعضهم الآخر، فما زالوا يحتفون لفظيا بثورة أكتوبر في تأويلها الستاليني التقليدي، لكنهم يدينونها فعليا بمواقفهم العيانية الحالية. وهم يلجأون إلى تبريرها سطحيا وضبابيا ببيان أهميتها في عصرها ولعصرها وبعض إنجازاتها، لكنهم يعتبرونها، في صميم خطابهم، لحظة عابرة ينبغي تخطيا كليا وعدم تكرارها بأي شكل كان. وهم يغفلون تماماً المغزى التاريخي للسوفييتات وتبصرات لينين الواردة في ” الدولة والثورة” والبعد الديمقراطي العميق لثورة أكتوبر. ونراهم يكرسون التناقض الظاهري بين الثورة والديمقراطية ، ويغفلون تماماً مفهوم الثورة الدائمة، وهو مفهوم ضروري لفهم ثورات القرن العشرين. ويكمن جوهر خطابهم في التغييب التام لخصوصية الديمقراطية العمالية الثورية، والفرق الجذري بين هذه الديمقراطية والديمقراطية الليبرالية، أي تغييب التصور اللينيني لدكتاتورية البروليتاريا، كما تبلر تحديداً في ” الدولة والثورة” وفي ” الثورة البروليتارية والمرتد كاوتسكي”. وهم يعمدون إلى اعتبار ثورة أكتوبر نظاماً أو فضاء مغلقا (هيغليا) نما بفضل تناقضاته الداخلية ضروريا إلى الوحش الستاليني، فالخرقة البيروقراطية البالية التي تهاوت بنقرة متوترة من غورباتشوف غير المأسوف على حكمه. لذلك ، فهم يفترضون، حتى عندما لا يصرحون بذلك ، أن لحظة انهيار الاتحاد السوفييتي مكتوبة في لحظة ولادته، في أكتوبر 1917. لذلك ، فهم يعدون التجربة برمتها خطأ تاريخيا أو كارثة تاريخية أو تجربة فاشلة في أساسها وجوهرها، حتى عندما يعددون بعض مناقبها ولا يصرحون علنا بإدانتها. ومشكلة هذا التصور أنه تصور ميكانيكي لا جدلي للتاريخ. فليس هناك نظام اجتماعي تاريخي مغلق ينمو بمعزل عن بيئته وشرائطه. إن كل نظام اجتماعي تاريخي هو كل مفتوح على بيئته وشرائطه. وهو يخضع إلى الجدل المادي ( لا الجدل الهيفلي) بفضل هذا الجوهر الأنطولوجي. ولا يستثنى من ذلك أي نظام تاريخي ، بما في ذلك الدولة السوفييتية والنظام السوفييتي المنبثق عن ثورة أكتوبر الاشتراكية. لقد توافرت الشروط في أكتوبر 1917 لولادة دولة السوفييتات في الإمبراطورية الروسية، دكتاتورية البروليتاريا أو الديمقراطية العمالية الثورية، كما تصورها لينين فــي ” الدولة والثورة”. لكن هذه الشروط لم تبق كما هي. كما إنها لم تنمُ كما تمنى لينين وتروتسكي مثلاً، وإنما تراجعت بصورة ملموسة على الصعيدين القومي والعالمي ( الحرب الأهلية، تصفية الطبقة العاملة الثورية، إخفاق الثورة الألمانية، تنامي الثورة المضادة ممثلة بالفاشية والنازية وقوى الحرب الباردة لاحقاً) ، الأمر الذي دفع الدولة السوفييتية والحركة الشيوعية صوب مسار صعب أوصلها إلى طريق مسدودة. من ثم ، فان إدانة لحظة البداية بالمآل والنتيجة لا ينبع من تحليل واقعي جدلي للتاريخ، وإنما من تصور مثالي ميكانيكي غير علمي يحجب الواقع التاريخي الفعلي عن النظر والبصيرة.
أما الموقف الستاليني، فهو على الأقل يدرك أن الطبقات المعادية للثورة لم تختف بمجرد انتصار الثورة واستلام العمال السلطة السياسية، وإنما استمر الصراع الطبقي واحتدم بعد نشوب الثورة، ولكن بأشكال مختلفة عن سابقتها. وهو يعد ستالين امتداداً طبقيا تاريخيا للينين والممثل الشرعي والوحيد للطبقة العاملة السوفييتية. فهو يرى أن دكتاتورية البروليتاريا ( سلطة الطبقة العاملة) ظلت قائمة ما ظل ستالين الحاكم الأوحد للاتحاد السوفييتي . لكن الطبقة الوسطى ( ذوي الياقات البيضاء) أفلحت في اختراق الحزب الشيوعي السوفييتي والدولة السوفييتية، وكان ممثلها الأوضح خروتشوف، الذي ما إن رأى العقبة الكأداء أمام سيطرة طبقته (ستالين ) تذوي بيولوجيا وتموت، حتى انقض على الدولة السوفييتية وصفى دكتاتورية البروليتاريا لصالح نظام سياسي هجين مثقل بتفاهة الطبقة الوسطى والبرجوازية الصغيرة.
وعلى أي حال، فما زلنا اليوم نعيش حالة التراجع الفكري والآيديولوجي، التي سادت منذ أحداث 1989، والتي تنزع إلى شجب لينين وثورة أكتوبر وكثير من عناصر الماركسية، حتى بعد مضي أكثر من عقدين على انهيار النظم الشيوعية في أوروبا الشرقية. لكن التاريخ لم ينتهِ والأرض حبلى بالإمكانات والتطورات الجديدة والمواقف تتبدل وتتغير ولا تبقى على حالها. إن الرأسمالية تتداعى في كل مكان، وإن كان الوعي لذلك لم ينضج بعد، اللهم باستثناء أميركا اللاتينية. لكن لحظة النضج هذه آتية لا محالة. عند ذالك ستستعيد البشرية ذكرى أكتوبر في عيانيتها التاريخية لتكون نبراساً يضئ الدرب مجدداً صوب مستقبل يتخطى جنون الحاضر ووحشيته. فلنعمل معاً من أجل إنضاج الوعي، وعي الواقع التاريخي في عيانيته.
2011