كيف ركب آينشتاين نظرية النسبية ؟
هشام غصيب
الحوار المتمدن
-
العدد: 3963 - 2013 / 1 / 5 - 10:42
المحور:
الطب , والعلوم
لماذا آينشتاين تحديداً ؟
- كونه أحد أسطع الأمثلة على الإبداع الفكري النظري في العلم.
- كون نظرية النسبية من أغرب النظريات وأبعدها عن المألوف وأدقها وأكثرها صحة في آن. فهي بذلك أسطع مثال على قوة النظرية الفيزيائية وفاعليتها.
- كون هذه الدراسة مدخلا مهما إلى فهم الثورات العلمية، ومن ثم طبيعة العلم.
- كونها مدخلا مهما إلى فهم أعمق للمضمون الفكري لنظرية النسبية.
- كونها إطلالة على آليات عمل عقل خلاق عظيم.
هل كان آينشتاين فيلسوفا؟ هل كان رياضياً؟
إن الجواب هو بالنفي على السؤالين كليهما. إنه بالتأكيد لم يكن رياضياً. لقد استعمل الرياضيات العادية في التعبير عن نظرية النسبية الخاصة، واستعمل الهندسة التفاضلية في بناء نظرية النسبية العامة. لكنه لم يسهم في تطوير الرياضيات كما سبق أن فعل نيوتن. كما إنه لم يتمتع بمهارات رياضية متميزة أو خارقة بدليل أنه اضطر إلى الاستعانة بصديقه الرياضي مارسيل غروسمان في التعامل مع الهندسة التفاضلية. ولا يصمد في هذا الشأن أمام معاصريه أنري بوانكاريه الفرنسي وديفد هلبرت الألماني، الرياضيين الفذين اللذين قدما إسهامات مهمة في مجال نظرية النسبية.
كما إن آينشتاين لم يكن فيلسوفا، وإن ترك أثراً كبيراً على الفكر الفلسفي وتأثر بعمق بالفيلسوف السكتلندي ديفد هيوم والفيلسوف النمساوي إرنست ماخ والكتابات الفلسفية للرياضي الفرنسي أنري بوانكاريه. فهو لم يصل إلى نتائجه الغرائبية المذهلة بالتأمل الفلسفي أو بالتحليل الرياضي، وإنما بطرائق الفيزياء النظرية بالعلاقة مع التجارب الفيزيائية الفعلية والفكرية. صحيح أنه أظهر أصالة غير مسبوقة في اتباعه هذه الطرائق. لكنها كانت بالفعل طرائق فيزيائية حقيقية، وإن استفاد من بعض التصورات الفلسفية في الوصول إلى نظرية النسبية الخاصة ومن الهندسة التفاضلية في الوصول إلى نظرية النسبية العامة. لقد كان ألبرت آينشتاين فيزيائيا بحق. إذ توصل إلى نتائجه الغرائبية بطرائق فيزيائية جديدة وخلاقة.
متى ظهر آينشتاين على مسرح الفيزياء وكيف ؟
ظهر آينشتاين بصورة مفاجئة على مسرح الفيزياء عام 1905، وكان آنذاك في السادسة والعشرين من عمره ويعمل خبيراً فنياً من الدرجة الثالثة في مكتب براءة الاختراع في مدينة بيرن في سويسرا. ففي ذلك ” العام المعجزة ” Annus Mirabilis ، فاجأ آينشتاين العالم بنشره ستة أبحاث: أطروحته للدكتوراة في جامعة زيورخ وخمس أوراق نشرت في مجلــــة Annalen der Physik، على النحو الآتي:
1. 17 آذار، أكمل ورقته عن فرضيته في كمات الضوء.
2. 30 نيسان، أكمل أطروحته حول تحديد جديد لأبعاد الجزيئات.
3. 11 أيار، أكمل ورقته عن الحركة البراونية.
4. 30 حزيران، أكمل ورقته عن النسبية الخاصة بعنوان ” حول إلكتروديناميكا الأجسام المتحركة “.
5. 19 أيلول، أكمل ورقته عن تكافؤ الكتلة والطاقة.
6. 19 كانون الأول، أكمل ورقة ثانية حول الحركة البراونية.
وكلنا نعلم أن هذه الأوراق دشنت ثلاث ثورات كبرى في تاريخ العلم: ثورة النسبية الخاصة، التي شكلت منطلقاً لثورة النسبية العامة، وثورة الكونتم، والنظرية الذرية والجزيئية الحديثة.
ولنركز بصفة خاصة على ورقة 30 حزيران التي تحتوي على جوهر نظرية النسبية الخاصة، والتي تحمل عنوان ” حول إلكتروديناميكا الأجسام المتحركة”. فهي بالفعل ورقة مذهلة ومدهشة ومحيرة. إنها تتسم بنضج علمي ووضوح فكري وشمول وعمق قل نظيرها في تاريخ العلم.
فكيف يصدر مثل هذا العمل عن شاب لم يتجاوز السادسة والعشرين من عمره ويعمل بعيداً عن الأوساط الجامعية كاتباً من الدرجة الثالة في مكتب براءة اختراع في مدينة بيرن السويسرية ؟ وكيف يقبل عمل غريب من هذا النوع صادر عن نكرة علمية لا يعمل في جامعة في أعظم وأهم مجلة فيزيائية في العالم آنذاك، Annalen der Physik ؟ أضف إلى ذلك أن هذا البحث بدا وكأنه برز رأساً من العدم كاملاً متكاملاً، أي ولد ناضجاً من رحم عقل آينشتاين، فلم يسبقه أي عمل آخر منشور لآينشتاين في هذا المجال من قبل. صحيح أن آينشتاين قد سبق أن نشر ورقة أو ورقتين، لكنهما كانتا عاديتين جداً وتتعلقان بالميكانيكا الإحصائية والجزيئات، ولم تمتا بصلة إلى إلكتروديناميكا الأجسام المتحركة. لم يكن هناك أي عمل منشور أشار إلى ما كان يجول في عقل آينشتاين في هذا الصدد. فكيف انبثقت هذه النظرية الغريبة، هذا السحر الصافي، من قلب عقل آينشتاين؟ وأصيف إلى ذلك كله أن آينشتاين لم يأت في ورقته مطلقا على ذكر أهم تجربة ارتبطت بنظرية النسبية الخاصة، أعني تجربة ميكلسون ومورلي الشهيرة، التي أجريت عام 1887، ولا على أفكار الرياضي الفرنسي الكبير، أنري بوابكاريه، مع أن هذا الأخير سبق أن أشار إلى الأفكار الرئيسية، التي شكلت قوام نظرية النسبية الخاصة ( نسبية الزمن، مبدأ النسبية الخاصة، تكافؤ الكتلة والطاقة، زمرة تحولات النسبيةالخاصة) . لماذا صمت آينشتاين عن ذلك هذا الصمت المطبق ؟ بل حتى لورنتس، الذي سبق أن توصل إلى ما أخذ يعرف بتحولات لورنتس لاحقاً، لم يحظ إلا بإشارات عابرة غير ذات بال في ورقة آينشتاين هذه. كيف نفسر ذلك كله؟
لقد قادت هذه التساؤلات بعض الباحثين إلى الظن أن آينشتاين قد سرق أفكاره من غيره أو أن غيره قد كتب هذه الورقة وألصقها بآينشتاين. فهناك من نسب هذه الورقة إلى زوجة آينشتاين الأولى، ميليفا ميليتش، الصربية. وهناك من ذهب إلى القول إن العلماء الألمان كانوا يراقبون أنري بوانكاريه الفرنسي بتوجس ويخشون أن يسبقهم إلى فتوحات جديدة في الفيزياء بعبقريته الفذة. وبصورة خاصة، فقد أدرك الرياضيان الألمانيان ديفد هلبرت وهيرمان منكوفسكي أن بوانكاريه كان قاب قوسين أو أدنى من التوصل إلى نظرية جديدة تتخطى النظرية الكلاسيكية، فما كان من هلبرت تحديداً إلا أن سطا على أفكار بوانكاريه وصاغها بصورة متماسكة في ورقة النسبية الخاصة، لكنه خاف أن يكتب اسمه أو اسم زميله منكوفسكي عليها خشية أن تكتشف السرقة وتدمر سمعتيهما ومكانتيها، وهما الرياضيان المعروفان آنذاك. فما كان من هلبرت إلا أن اتفق مع آينشتاين على وضع اسمه عليها، حيث إن آينشتاين كان فيزيائياً مغموراً آنذاك، ولم يكن ليخسر شيئاً لو اكتشف أمره، لكنه كان ليكسب كل شئ لو لم يكتشف أمره. وهذا يفسر جميع التساؤلات التي سبق أن طرحناها، بما في ذلك تجاهل الورقة لبوانكاريه ولتجربة ميكلسون ومورلي، التي ارتبطت بصورة وثيقة بعملي لورنتس وبوانكاريه. وهناك من يعزز هذه المزاعم بالقول إن اليهودية العالمية والعصبية اليهودية ساعدت آينشتاين في كل خطوة خطاها في الصعود على حساب غيره من العلماء.
لكني لا أعتقد أن هذه الفرضيات صحيحة للأسباب الآتية:
01 إن الذي يدقق في مسيرة آينشتاين العلمية بعد 1905 يلاحظ أن ورقة النسبية الخاصة لم تكن نسيج وحدها في هذه المسيرة . كما إنها لم تشكل عملا منفرداً معزولاً عن عمله اللاحق ، وإنما شكلت نقطة انطلاق لسلسة من الأوراق العظيمة، التي توجت بورقة النسبية العامة عام 1915 وورقة علم الكون الآينشتايني عام 1917. وبتعبير آخر، فقد شكلت قاعدة انطلاق مشروع بحثي فكري فيزيائي توج بالنسبية العامة، لكنه استمر حتى نهاية حياة آينشتاين عام 1955، واتخذ في آخر ثلاثين عاما من عمره شكل بحثه المحموم عن نظرية مجال موحد شاملة. إنه لمن الصعب علينا أن نصدق أن ناسخا لعمل غيره أو سارقاً له يمكن أن ينفذ مشروعاً علميا بهذه الضخامة والعمق والشمول.
02 صحيح أن آينشتاين لم ينشر شيئا في مجال إلكتروديناميكا الأجسام المتحركة قبل 1905. لكن الدلائل تشير إلى أنه بدأ يشتغل على معضلات إلكتروديناميكا الأجسام المتحركة بجدية كبيرة منذ 1898، أي سبع سنوات قبل نشره ورقة النسبية الخاصة، في أثناء دراسته بكالوريوس الفيزياء في ETH بولتكنيك زيورخ، وأنه بدأ التفكير في هذه المعضلات عشر سنوات قبل نشره ورقته المذكورة. ويتضح ذلك من بعض رسائله آنذاك إلى زوجته الأولى وبعض رفاقه. كما إن ذكرياته اللاحقة تكشف عن بعض الخطوات المعقولة التي قادته لاحقاً إلى نظرية النسبية الخاصة. ومع ذلك، فلا بد لنا من الاعتراف بشح مصادر تلك الفترة من مسيرته العلمية مقارنة بما هو متوافر من مصادر في فترة تكوينه نظرية النسبية العامـة (1905-1915).
03 إن من ينعم النظر في ورقة النسبية الخاصة ويقارنها بأوراق لورنتس وبوانكاريه يلحظ من دون عناء أن ورقة آينشتاين لا يمكن أن تعد نسخاً أو تقلا لهذه الأوراق . سيلحظ أن ورقة آينشتاين لا تختلف عن تلك الأوراق في عناصرها، وإنما في تنظيمها هذه العناصر وربطها ببعضها ووضوح الرؤية التي توحدها معاً . إن هذه العناصر موجودة في أوراق لورنتس وبوانكاريه، لكنها مبعثرة هنا وهناك فيها ضمن إطار كلاسيكي تقليدي. أما في ورقة آينشتاين، فهي منظمة ومرتبطة معاً في إطار جديد يشكل قطعاً مع الإطار الكلاسيكي التقليدي . إن آينشتاين يلجأ إلى استعمال هذه العناصر من أجل خلق رؤية نظرية جديدة بديلة للرؤية الكلاسيكية. أما لورنتس وبوانكاريه، فهما يبتكران هذه العناصر من دون التخلي عن نقائضها الكلاسيكية، فيتركانها ملجومة ومقيدة ضمن الإطار الكلاسيكي، غير قادرة على تحقيق إمكاناتها الكامنة. وبالمقابل فإن آينشتاين يخلق بها نظاماً جديداً بديلا للنظام القديم ويقطع معه. وينبع وضوح رؤية آينشتاين من هذا القطع وهذا الربط تحديداً. وهذا لعمري أبعد ما يكون عن النسخ والنقل. إنه إبداع وخلق في أنصع صورهما.
وهنا يبرز سؤال ملح لابدّ من طرحه : لئن كانت المصادر المتوافرة بصدد الخطوات التي اتبعها آينشتاين في بناء نظرية النسبية الخاصة شحيحة جداً، فهل من سبيل إلى معرفة ذلك؟ وبالفعل، فقد حاول بعض الباحثين بناء تصور لذلك على أساس هذه القاهدة الهشة. لكني أعتقد أن محاولاتهم جاءت هشة وغير مقنعة. لذلك، أرى أن السبيل إلى معرفة كيف ركب آينشتاين نظرية النسبية لا بد أن يرتكز في المقام الأول على ورقة آينشتاين حول إلكتروديناميكا الأجسام المتحركة نفسها ويلجأ إلى قراءة هذه الورقة من هذا المنظور. لقد بذلت جهوداً مضنية في التنقيب عن مصادر موثوقة بصدد عمل آينشتاين في الإلكتروديناميكا قبل 1905، لكنها قادتني إلى طريق مسدودة وضبابية ، إلى أن لمع التبصر في ذهني بأن أكثر ما يلقي الضوء على بناء نظرية النسبية الخاصة هي ورقة 1905 نفسها. فما الذي تقوله هذه الورقة وكيف يتبدى منهج البناء النظري الآينشتايني فيها؟
يبدأ آينشتاين ورقته حول إلكتروديناميكا الأجسام المتحركة بالتعليق على تجربة بسيطة مألوفة منذ أربعينيات القرن التاسع عشر: تجربة مايكل فرادي في الحث الكهربائي . لكنه يحللها بطريقة جديدة غير مسبوقة. وهنا نلفت النظر إلى أن أكثر ما يميز آينشتاين عن غيره من الفيزيائيين هو قدرته على ملاحظة التجارب ذات المغزى النظري العميق وطرقه الجديدة غير التقليدية في تأويلها. أضف إلى ذلك أنه لم يكن ينساق وراء الجماعة العلمية المعاصرة له في الاهتمام تجربة ما. ففي الوقت الذي ركز فيه فويغت وفتزجيرالد ولارمر ولورنتس وبوانكاريه على تجربة مايكلسون ومورلي، فقد أهملها آينشتاين وركز على تجارب فيزو وفرينل الأقدم منها والأقل دقة منها وعلى تجربة فرادي المذكورة . وبعكس العلماء الآخرين، فلم يكن يركز اهتمامه على أحدث تجارب عصره ، وإنما كان يعتبر الموروث المعرفي برمته مسرحاً لفعله النظري، ولم يكن يقبل نهائيا التأويلات السائدة في هذا الموروث، وإنما كان مستعداً دائماً لاستئناف النظر في التجارب الراسخة وإعطائها تأويلات جديدة غير مألوفة. هكذا فعل بالتجارب المذكورة، وهكذا فعل بتجارب تساوي الكتلة القصورية والكتلة الجاذبية ، والتي قاده تأويلها الجديد إلى مبدأ التكافؤ فنظرية النسبية العامة.
وتتمثل تجربة فرادي في أنه إذا حركنا مغناطيساً أفقيا على محور حلقة موصلة عمودية، سرى تيار كهربائي معين في الحلقة. وإذا أبقينا المغناطيس ثابتا وحركنا الحلقة صوب المغناطيس بالسرعة ذاتها، ولكن في الاتجاه المعاكس، سرى التيار ذاته في الحلقة. والذي حير آينشتاين في الأمر هو أن الحركتين تختلفان جوهريا وفق التأويل السائد آنذاك، ومع ذلك فإنها تقودان إلى النتيجة ذاتها. ذلك أن التأويل السائد كان يقسم المادة إلى نوعين : المادة الملموسة والأثير. وكان يعتبر المجال الكهرمغناطيسي والضوء ظاهرة أثيرية. ووفق هذه النظرة، فإن المغناطيس يولد مجالاً كهربائيا حين يتحرك في الأثير بتأثير تفاعل مجاله المغناطيسي مع الأثير. أما حين يبقى ثابتا وتتحرك الحلقة صوبه، فلا يكون هناك مجال كهربائي. لكن تياراً كهربائيا ينشأ في الحلقة بفعل قوة لورنتس التي تنشأ عن حركة الإلكترونات في المجال المغناطيسي. فلدينا هنا عمليتان فيزيائيتان مختلفتان تماماً عن بعضهما، لكنهما تقودان إلى التيار ذاته. أليس ذلك مصادفة غريبة؟ لذلك رفض آينشتاين هذا التأويل التقليدي. وبدلا من أن ينطلق من افتراضات شبه ميتافيزيقية كوجود الأثير، نظر إلى الوقائع التجريبية في حد ذاتها، وفي مقدمتها حقيقة أن ظاهرة الحث الكهرمغناطيسي تعتمد على السرعة النسبية بين الموصل والمغناطيس، لا على السرعة المطلقة بالنسبة إلى الأثير المزعوم، وأن المجال الكهربائي ينشأ بفعل تغيير المنظور أو مرجع الإسناد، لا عن تفاعل مادي حقيقي بين المغناطيس والأثير. والنقطة الجوهرية هنا هي أن المجال الكهرمغناطيسي يتحول أو يتغير إذ ننتقل من مرجع إسناد إلى آخر. فما يبدو مجالاً مغناطيسيا بحتا من مرجع إسناد يبدو خليطا من مجال مغناطيسي وآخر كهربائي من مرجع إسناد آخر يتحرك بالنسبة إلى المرجع الأول . وعلى ذلك كله، فإن تجربة فرادي وفق آينشتاين لا تعبر عن تفاعل المغانط مع الأثير المزعوم، وإنما تعبر عن حقيقة أن الظاهرات الكهرمغناطيسية تطيع مبدأ النسبية، كما هو الحال مع الظاهرات الميكانيكية. وللتذكير، فإن مبدأ النسبية في صورته الأصلية الغاليلية ينص على أن قوانين الميكانيكا لا تتغير إذ ننتقل من مرجع إسناد قصوري إلى آخر، الآمر الذي يفسر لماذا لا نشعر بحركة الأرض ولا بأي حركة منتظمة . وقد برز الظن في النصف الثاني من القرن التاسع عشر بأن الظاهرات الكهرمغناطيسية والضوئية لا تطيع هذا المبدأ، وإنما تكشف عن الحركات المنتظمة بالنسبة إلى المكان المطلق أو الأثير.
وها هو ذا آينشتاين يضع تأويلاً جديداً لتجربة فرادي يقود إلى فكرة أن مبدأ النسبية مبدأ كوني ينطبق على جميع الظاهرات الطبيعية، ميكانيكية كانت أو كهرمغناطيسية أو ضوئية. إن قوانين الطبيعة لا تتغير من مرجع إسناد قصوري إلى آخر، بصرف النظر عن صنفها، ميكانيكية كانت أو كهرمغناطيسية أو ضوئية. لقد رفع آينشتاين فكرة النسبية من مجرد فكرة أو اقتراح جزئي إلى مسلمة نظرية أو منطلق لنظرية جديدة.
وبعد تناوله هذه التجربة، يعرّج آينشتاين على تجارب فرينل وفيزو للكشف عن حركات الأجسام بالنسبة إلى الأثير. لكنه لا يأولها بدلالة الأثير وكيفية تفاعله مع الأجسام المادية، وإنما بدلالة انطباق مبدأ النسبية على الظاهرات الضوئية.
ماذا نستشف من هذه التأويلات بصدد منهج آينشتاين في بناء نظرية النسبية؟
أولا: نلاحظ نزعة وضعية في منهج آينشتاين تعطي الأولوية إلى العناصر التجريبية والمشاهدة على حساب الافتراضات شبه الميتافيزيقية وغير الملموسة كالأثير. فهذه النزعة تمكن آينشتاين من رؤية الظاهرات على حقيقتها مطهرة مما يعلق فيها من افتراضات خفية شبه ميتافيزيقية. وقد اتبع هيزنبرغ نهجا مشابهاً عام 1925 قادة إلى ميكانيك الكونتم.
ثانيا: نلاحظ في منهج آينشتاين أيضا نزعة أفلاطونية تتمثل في تركيب صورة العالم من مبادئ كونية ، واعتبار بعض التجارب المنتقاة تجسيدات لهذه المبادئ.
ثالثا: وتتمثل هذه النزعة الأفلاطونية أيضا في اعتبار هذه المبادئ الجوهر الثابت الحقيقي للكون، واعتبار كل ما عداها عرضيا ومتغيرا. وبالتحديد ، فإن هناك عدداً لانهائيا من المنظورات المتساوية معاً من حيث المشروعية، وأن الأشياء وخصائصها تتغير بتغير هذه المنظورات، بما في ذلك المجالات والأطوال والأزمان. والكيانات الوحيدة التي لا تتغير إذ تتغير هذه المنظورات هي المبادئ الكونية. فهي ثابتة راسخة مطلقة الموضوعية. إن المبادئ الكونية لتذكرنا بمثالات أفلاطون، كما إن الأشياء تذكرنا بظلال كهف أفلاطون.
رابعا: إن هذه المبادئ الكونية لا تحكم ظاهرات الكون حسب، وإنما تحدد وتحكم طبيعة قوانين الطبيعة وصورها. فالقانون لا يكون قانونا موضوعيا بحق إذا لم يخضع لهذه المبادئ العامة.
وبالفعل ، فإن آينشتاين ينطلق من مبدأين كونيين هما مبدأ النسبية السابق ذكره ومبدأ أن سرعة الضوء هي نفسها في أي مرجع إسناد قصوري بصرف النظر عن سرعة مصدر الضوء. وقد اشتق آينشتاين هذا المبدأ الأخير من معادلات ماكسويل في الكهرمغناطيسية، لكنه حوله من نتيجة من نتائج نظرية ماكسويل إلى منطلق ومبدأ كوني. وقد حاول آينشتاين قبل 1905 أن يتفادى هذا المبدأ ويعدل نظرية ماكسويل تباعاً ، لكنه أخفق في ذلك، فما كان منه إلا أن أقنع نفسه بأنه لا مفر من هذه النظرية وهذا المبدأ. وبعد أن أعلن آينشتاين تخليه عن فكرة الأثير، أشار إلى أن هناك تناقضا ظاهريا بين المبدأين وأن الحل يكمن في إعادة النظر في مفهوم الزمن بالطريقة ذاتها التي أعاد بها النظر في تجارب غاليليو وفرادي وفيزو، أي تدبر هذا المفهوم في مضمونه التجريبي مطهراً مما يعلق فيه من افتراضات شبه ميتافيزيقية لا ترتبط بصورة مباشرة وواضحة بالتجربة. وقد قاده ذلك إلى مفهومي المكان والزمان النسبين وإلى ما يسمى علاقات لورنتس التحويلية، ومن ثم إلى كينماتيكا النسبية الخاصة وإلى ديناميكا النسبية الخاصة .
هكذا ركب آينشتاين نظرية النسبية الخاصة، وهكذا أرسى أرضية تركيب نظرية النسبية العامة. أما كيف ركب هذه الأخيرة، فلتلك قصة أخرى آمل في أن أتناولها في مناسبة أخرى. ويكفي أن أقول هنا إن آينشتاين دشن بحثه عن نظرية النسبية العامة بورقته عن مبدأ التكافؤ Equivalence Principle عام 1907. وقد توصل إلى هذا المبدأ المهم بوضع تأويل جديد غير مسبوق لحقيقة تجريبية كانت معروفة ومألوفة منذ غاليليو في الثلث الأول من القرن السابع عشر، وهي أن الكتلة القصورية التي تظهر في قانون نيوتن الثاني في الحركة تساوي إلى حد كبير من الدقة كتلة الجاذيبة التي تظهر في قانون نيوتن في الجاذبية. وقد حار آينشتاين في أمر هذا التساوي المذهل، وأوله بطريقة جديدة تذكرنا كثيراً بالطريقة المبدعة التي أول بها تجربة فرادي. إذ إنه عدها تعبيراً عن أن الجاذبية والقوى القصورية الناجمة عن التسارع تنتميان إلى المجال ذاته. وبدلاً من أن يعتبر القوى القصورية تعبيراًَ عن التسارع بالنسبة إلى المكان المطلق، فقد عدها تعبيراً عن تغير المجال الجاذبي إذ نتحول من مرجع إسناد إلى آخر يتسارع بالنسبة إلى الأول. أي إنه اعتبر جاذبية نيوتن وقواه القصورية تعبيرات جزئية عن قانون شامل للجاذبية غير معروف. فانبرى للبحث عنه دامجاً مبدأ التكافؤ مع فضاء منكوفسكي الرباعي مع الهندسة التفاضلية، الأمر الذي قاده عام 1915 إلى اكتشاف هذا القانون الشامل.
وأرجو أن تتاح لي الفرصة مستقبلا لكي أبين الخطوات المؤلمة التي اتبعها في الوصول إلى نظرية النسبية العامة ومحاولات آينشتاين بناء نظرية مجال موحد.
أما الآن، فإني أكتفي بهذا القدر ، وإن كان ما قلته لا يتعدى المقدمة الوجيزة لموضوع عميق ومتشعب يغوص فيه المرء ثم يصعب عليه أن يخرج منه إلى برّ الثبات.