شرح “أطروحات حول فويرباخ” لكارل ماركس (1845)
هشام غصيب
الحوار المتمدن
-
العدد: 4110 - 2013 / 6 / 1 - 22:49
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
كتبها ماركس عام 1845. نشرها إنغلز محررة لأول مرة عام 1888 بوصفها ملحقا لكتاب عن فويرباخ. نشر الأصل غير المحرر بالألمانية والروسية عام1924. نشر بالإنغليزية لأول مرة عام 1938.
الأطروحة (1): تتضمن نقداً للمادية السابقة، بما في ذلك مادية فويرباخ. ويرى ماركس أن النقيصة الرئيسية في تلك المادية أنها تنظر إلى الموضوع المباشر المحسوس على أنه موضوع بحت، موضوع للتأمل. إنها لا تنظر إليه على أنه نتاج ممارسة أو نشاط حسي إنساني، أي ليس ذاتياً، ليس من منظور الفاعلية الذاتية الإنسانية. ونجد ماركس ههنا يستوعب تماماً درس العلم الغاليلي المتمثل في اعتبار العالم المحسوس منتجا بشرياً (صناعة بشرية) له جانبه الموضوعي، لكن له أيضاً جانبه الذاتي. هنا نجد ماركس يطلق فكرة أن الإنسان هو في جوهره فاعلية خلاقة، فاعلية منتجة.
ويرى ماركس أن هذه النقيصة في المادية أتاحت المجال للمثالية تتطوير هذا الجانب الفعال من الخبرة البشرية. لكنه يستدرك بالقول إن المثالية طورت هذا الجانب تجريدياً. فهي لا تعرف الممارسة الحسية الفعلية بحكم تركيبتها. وهنا نجد ماركس ينقد المادية السابقة والمثالية بنفس واحد. فالماركسية نبعت من نقد كليهما في آن واحد، كما سبق أن بينت في كتابي، ” نقد العقل الجدلي”.
ويقول ماركس إن فويرباخ يميز بين الموضوع المحسوس وموضوع الفكر والتأمل. لكنه لا يدرك النشاط الإنساني العياني بوصفه نشاطاً موضوعياً، أي قوة مادية اجتماعية قادرة على تغيير الطبيعة ومظاهرها الحسية. لذلك، فإن فويرباخ لا يعترف سوى بالنشاط النظري التأملي والموقف النظري. فهو يقصر إنسانية الإنسان عليه، ويزدري الجانب العملي، ولا يتصوره إلا بصورته التجارية اليهودية القذرة. لذلك فهو لا يقدر النشاط الثوري النقدي العملي. فهو يظن أنه يستطيع أن يحل المشكلات نظرياً وتأملياً، وليس ثورياً. فالثورة هي النقد العملي العياني الحسي. إنه لا يدرك أن الإنسان هو في جوهره فاعلية خلاقة ثورية منتجة فعلياً.
الأطروحة (2): هناك ميل في فلسفة الحداثة إلى اعتبار الحقيقة الموضوعية شأناً نظرياً متعلقاً بالفكر المجرد. فوفق ديكارت وليبنتس مثلاً، فإن الحقيقة الموضوعية مكتوبة بنيوياً وجوهرياً في قلب الفكر المجرد. أما ماركس فهو يرى أن الحقيقة الموضوعية شأن عملي، وليس شأناً نظرياً بحتاً. فقوة الفكرة، حقيقتها، عيانيتها، ماديتها لا يمكن برهانها إلا بالممارسة الحسية. وهنا أيضاً نجد ماركس يستوعب درس العلم الحديث. فإذا لم تكن الفكرة العلمية قابلة لأن تترجم استنتاجياً إلى فعل تجريبي عياني، فإنها لا تكون علمية وتفقد صلتها بالحقيقة الموضوعية. البرهان يكمن في الممارسة. والأفكار تختبر بالممارسة، سواء أكانت علمية أم اجتماعية. فالسؤال عن واقعية الفكر وعيانيته يغدو سؤالاً أكاديمياً غير مؤثر بمعزل عن الممارسة.
الأطروحة (3): ويتابع ماركس نقده ما أسماه إنغلز المادية الميتافيزيقية أو الميكانيكية بالقول إن هذه المادية تعتبر الناس نتاجاً لظروفهم وتنشئتهم، وتعتبر تغيرهم نتاجاً لتغير ظروفهم وتنشئتهم، لكنها تنسى أن الناس هم الذين يغيرون ظروفهم وأن المعلم يحتاج إلى من يعلمه. لذلك تلجأ هذه المادية إلى تقسيم المجتمع إلى فئتين تضع إحداهما فوق المجتمع. فلا يمكن تصور تطابق تغير الظروف مع النشاط الإنساني أو التغير الذاتي ولا يمكن فهمه عقلانياً إلا بوصفه ممارسة ثورية. ههنا يبرز ماركس العلاقة الجدلية بين الناس وبيئتهم. فالقدرة الذهنية الإنتاجية للناس تمكنهم من تحويل بيئتهم بما يستجيب لحاجاتهم. والبيئة المغيرة تعمل على تحويل الذات الصانعة أو المنتجة. وهذا الجدل من التحويل المتبادل هو محرك التاريخ وصانعه، وهذا ما يعنيه ماركس بالممارسة الثورية.
المقولة (4): إن فيرباخ ينطلق من الاغتراب الذاتي الديني ومن تقسيم العالم إلى عالمين: عالم ديني متخيل ووهمي، وعالم دنيوي عياني. ويتمثل عمله في اختزال العالم الدنيوي المتخيل إلى العالم الدنيوي العياني. لكنه يغفل حقيقة أن المهمة الرئيسية تبدأ حال الانتهاء من هذا العمل النظري. ذلك أن كون العالم الدنيوي يشطر نفسه إلى شطرين وينشئ عالما متخيلا وهميا في السماء ويعده حقيقته ومصدر وجوده لا يمكن فهمه إلا بفهم تناقضات هذا العالم الدنيوي ومثالبه ونواقصه وبؤسه. فالمهمة الكبرى الملقاة على عاتقنا هي فهم العالم الدنيوي، فهم تناقضاته الداخلة العيانية وتثويره بإزالة هذه التناقضات. وعلى سبيل المثال، فما إن ندرك أن العائلة الأرضية هي سر العائلة المقدسة، حتى تبرز لدينا مهمة تحطيم الأسرة نظرياً وعملياً.
وهذا يذكرنا بقول ماركس في ” نقد فلسفة الحق الهيغلية” (1843) إن نقد الدين هو أساس كل نقد، وإن نقد الدين قد اكتمل في ألمانيا، ومن ثم، فقد آن أوان نقد السياسة ونقد الاقتصاد السياسي. وهذا بالضبط ما كرس ماركس باقي حياته من أجله. كما تذكرنا هذه المقولة بمقولته اللاحقة ” في إسهام صوب نقد الاقتصاد السياسي” (1859) بأن الوجود الاجتماعي هو الذي يحدد الوعي الاجتماعي، وليس العكس.
المقولة (5): يستمر ماركس في نقد تصور فويرباخ للحس. فالحس لدى فويرباخ تأملي في جوهره، وليس ممارسة بشرية عملية.
المقولة (6): إن فويرباخ يختزل الجوهر الديني إلى الجوهر الإنساني. لكن الجوهر الإنساني ليس مجرد تجريد كامن في كل فرد، وإنما هو مجمل علائقه الاجتماعية. ولأنه لا ينقد هذا الجوهر الحقيقي، فإن فويرباخ يلجأ إلى التجريد بعيداً عن السيرورة التاريخية، ويعرف الشعور الديني بمعزل عن أرضيته الاجتماعية ويفترض الفرد البشري المعزول التجريدي. من ثم، فهو يعتبر الجوهر مجرد “نوع” وعمومية صماء توحد الأفراد على أساس طبيعي.
المقولة (7): من ثم، فإن فويرباخ لا يدرك أن الشعور الديني هو ناتج اجتماعي، وأن الفرد التجريدي الذي يحلله ينتمي إلى بنية اجتماعية معينة.
المقولة (8): ههنا يعيد ماركس تأكيد الطابع العملي الفاعل للمجتمع. فالحياة الاجتماعية هي في جوهرها ممارسة تحويلية. ويرى أن جميع الألغاز التي تقود النظرية إلى الغيبية تجد حلها العقلاني في الممارسة البشرية وتأمل هذه الممارسة.
المقولة (9): في هذه المقولة، يربط ماركس بين أشكال المادية وأسسها الاجتماعية الاقتصادية. وبصورة خاصة، فإنه يربط ما بين ما يسميه المادية التأملية، التي تكتفي بالتأمل ولا تستوعب الحس بوصفه نشاطاً عملياً، وما بين المجتمع المدني. فأقصى نقطة تصل إليها هذه المادية هي تأمل الأفراد المعزولين والمجتمع المدني. فهي لا تستوعب المجتمعات البشرية في تنوعها الإنتاجي وتاريخيتها، وإنما تعد الفرد المعزول والمجتمع المدني سدرة المنتهى. وبتعبير ماركسي لاحق، فإن المادية التأملية هي آيديولوجيا البرجوازية الثورية لا أكثر ولا اقل، وتعجز عن تخطي البرجوازية ومنظوراتها.
المقولة (10): يصل هنا إلى نتيجة تشكل انطلاقة الماركسية صوب نظرية ناضجة في الفكر والآيديولوجيا. إذ يصرح أن منظور المادية القديمة هو المجتمع المدني أي البرجوازي. أما المادية الجديدة، أي التاريخية والجدلية، فهو المجتمع الإنساني أو الإنسانية الجمعية Socialized، أي المجتمع الشيوعي.
المقولة (11): هنا يصل بنا ماركس إلى مبتغاه وخلاصة أطروحاته العشر. إذ يقول: حتى الآن، فإن الفلاسفة أولوا العالم بصور متنوعة. لكن النقطة هي تغييره.
وفي ضوء الأطروحات السابقة، فإن ماركس يؤكد هنا على وحدة النظرية والممارسة، وعلى أن حقيقة النظرية وعيانيتها ترتبط بالممارسة وتكتسب معناها من فاعليتها العملية ومن موقعها في عملية التغيير. فسر النظرية يكمن في هذا الموقع تحديداً. لكنها تفقد معناها وعيانيتها بمعزل عن هذا الموقع.