مادة الشمس وطاقتها
هشام غصيب
الحوار المتمدن
-
العدد: 3623 - 2012 / 1 / 30 - 07:33
المحور:
الطب , والعلوم
في المقالتين السابقتين ، ناقشنا الكيفية التي تتولد بها الطاقة الكهرمغناطيسية والنيوترينوية التي تبثها الشمس بصورة متواصلة ، والتي تبقي الشمس ( وأبقتها ) مستقرة ومحافظة على حجمها لفترة طويلة من الزمان . لكننا لم نناقش كيف يحافظ تولد هذه الطاقة الهائلة على استقرار أقرب نجم إلينا ، ولم نناقش أصلاً ماهية نظام الشمس ولا حالة المادة التي تسود الشمس . كل ما قلناه هو أن حوالي ثلاثة أرباع كتلة الشمس هي من الهيدروجين وأن حوالي ربع كتلتها هو من الهيليوم-4. أما العناصر الأخرى ، فلا تكاد نسبتها أن تصل إلى واحد بالمائة من كتلة الشمس. لكننا لم نناقش حالة المادة التي يوجد فيها الهيدروجين والهيليوم المكونان للشمس . فهل يكون هذان العنصران في الحالة الغازية ، أم يكونان في حالة السيولة أو الصلابة ؟ هل إن الشمس حجر كبير ملتهب ، كما ادعى قديما بعض فلاسفة الإغريق ؟ أم إنها حمم سائلة كاللافا البركانية ؟ فلندقق في بعض المعطيات ولنرَ كيف تقودنا إلى إجابات حاسمة عن هذه الأسئلة .
أولاً ، يمكن قياس بعد الشمس عنا بدقة كبيرة باستعمال أمواج الرادار . وباستعمال هذه المعلومة وقانون نيوتن في الجاذبية ، يمكن أن نحسب بدقة كبيرة كتلة الشمس . وبقياس القطر الظاهري للشمس ، يمكن أن نحسب حجم الشمس الفعلي بدقة كبيرة . وعلى هذه الأسس ، نجد أن كتلة الشمس تبلغ حوالي مليوني مليون مليون مليون مليون كيلوغرام ، وأن نصف قطرها يبلغ سبعمائة ألف كيلومتر . بذلك فإن متوسط كثافة مادة الشمس يبلغ حوالي (4ر1 ) غرام لكل سنتمتر مكعب ، أي إنه يفوق كثافة الماء . فهل يعني ذلك أن الشمس كتلة من السائل الملتهب ؟ فلنتريث قليلا قبل أن نصدر حكما قاطعاً ، على الأقل حتى يتسنى لنا حساب متوسط درجة حرارة الشمس . ولكن كيف نقدّر هذه الكمية ؟
إن هذا السؤال يفترض سؤلاً أعمق ، وهو : ما الذي يبقي الشمس مستقرة لمليارات السنين من دون أن تنهار أو تتبدد ؟ فالمفروض أن تنهار هذه الكتلة العملاقة تحت وطأة وزنها ، أي جاذبيتها . لماذا لا تفعل ذلك ؟ لا بدّ أن هناك قوة تعاند وزنها ، أي تؤثر في اتجاه معاكس لاتجاه وزنها . وفي ضوء ما قلناه سابقاً ، فلا بدّ أن يكون مصدر هذه القوة ضغط الإشعاع المنبعث من الاحتراق النووي في قلب الشمس وضغط مادة الشمس الناتج عن حركة مكوناتها ( البروتونات والإلكترونات وأنوية الهيليوم بشكل رئيسي ) . وللتبسيط ، فنهمل (مؤقتا) ضغط الإشعاع ولنركز على طاقة حركة مكونات مادة الشمس . عند ذاك نستطيع أن نقول إن حالة الاستقرار تقضي بأن تكون طاقة الوضع الجاذبي لمادة الشمس مساوية لطاقة الحركة الحرارية لهذه المادة . فإذا افترضنا أن الشمس هي كرة منتظمة الكثافة ، وجدنا أن مجمل طاقة الوضع الجاذبي للشمس يساوي خمسي ثابت الجاذبية الكوني مضروباً في مربع كتلة الشمس ومقسوماً على نصف قطرها. من ثم فهو يساوي عشرة للقوة (48) إرغ . وعليه تبلغ طاقة الوضع الجاذبي للشمس لكل غرام من مادتها خمسمائة ألف مليار إرغ . أما طاقة الحركة الحرارية لكل غرام من مادة الشمس فتساوي نصف مربع متوسط سرعة جزيئاتها. فإذا ساوينا هذه الكمية بتلك ، وجدنا أن متوسط سرعة جزيئات الشمس يساوي حوالي ثلاثمائة كيلومتر في الثانية . وهي سرعة هائلة بالطبع . وتناظر متوسطاً لدرجة الحرارة يبلغ حوالي خمسة ملايين درجة مطلقة (كلفن) . وتكمن أهمية هذه النتيجة في أنها تشير إلى أن الهيدروجين عند درجة الحرارة هذه يكون متأينا في جله ، أي لا يكون على شكل ذرات أو جزيئات وإنما على شكل بروتونات حرة وإلكترونات حرة ، وذلك بفعل التصادمات العنيفة والمتكررة لهذه الذرات والجزيئات معاً . لكن هذا الحشد من البروتونات والإلكترونات الحرة لا يسلك سلوك السائل عند كثافة (4ر1) غرام لكل سنتمتر مكعب ، وإنما يسلك سلوك الغازات التامة . فعند هذه الكثافة ، يبلغ متوسط المسافة بين البروتونات حوالي واحد في المائة مليون من السنتمتر . ومع أن هذه هذه المسافة قريبة من قطر ذرة الهيدروجين، إلا أنها أطول بكثير من قطر البروتون أو الإلكترون . وعليه ، فإنه يمكن اعتبار الشمس كتلة ملتهبة من الغاز التام ، الأمر الذي يبسط كثيراً دراسة الشمس . فلو كانت الشمس سائلاً أو صلباً ، لكان بناؤها أعقد بكثير . لكن الغاز المكون للشمس غاز أكمد يكاد يكون عديم الشفافية ، بمعنى أن نفاذيته للضوء والفوتونات ضعيفة جداً . ذلك أن متوسط المسافة التي يقطعها الفوتون (جسيم الضوء) من دون أن يتعرض لتصادم مع إلكترون أو بروتون لا يتعدى السنتمتر الواحد . لذلك ، فإن الفوتون الواحد المتولد في باطن الشمس يأخذ في المتوسط أكثر من مليون عام حتى يصل إلى سطح الشمس لينطلق بعيداً عنها ، وذلك بفعل اصطداماته المتكررة مع مكونات الغاز الشمسي . كذلك ، فإن الفوتون الذي يتولد في باطن الشمس على صورة فوتون غاما الشديد الطاقة يخرج من سطح الشمس على صورة حشد من الفوتونات المنخفضة الطاقة نسبيا، وكأن الفوتون الأصلي يتشظى ويتكسر إلى ألف شظية في المتوسط قبل أن يخرج من الشمس بفعل تصادماته المتكررة . ولولا هذه الخاصية للشمس لتعرضنا باستمرار إلى وابل من أشعة غاما القاتلة .
وفي ضوء ما قلناه أعلاه تبرز أسئلة كالآتية :
ما هو التركيب الداخلي للشمس ، وكيف تتغير درجة الحرارة انطلاقا من مركز الشمس ، وعند أي بعد
من المركز تتوقف التفاعلات النووية المسؤولة عن توليد الشمس ؟