كيف نقيم ثورة أكتوبر؟
هشام غصيب
الحوار المتمدن
-
العدد: 5813 - 2018 / 3 / 12 - 05:36
المحور:
ملف الذكرى المئوية لانطلاق ثورة أكتوبر الاشتراكية في روسيا
منذ ما يسمى انهيار الاتحاد السوفييتي، وربما قبل ذلك ببضع سنين، راجت في الأوساط السياسية والثقافية، بما في ذلك الأوساط الشيوعية، فكرة مفادها أن هذا "الانهيار" دليل على إخفاق الماركسية والشيوعية والاشتراكية، وبالتحديد ثورة أكتوبر، وأن هذه الثورة كانت تهورا بلشفيا لينينيا وغلطة تاريخية فادحة، بل وأنها كانت مغامرة غير محسوبة أدت إلى كارثة محققة. وصاحب هذه الفكرة فكرة أن الثورات بعامة تعبير عن عدم نضج البشرية وأنه يمكن تفاديها وأنها مغامرات كارثية غير محسوبة. من ثم، راجت أفكار تؤكد هذا الظن وتنادي بنهاية التاريخ ونهاية الثورات ونهاية الأزمات الرأسمالية الكبرى، بل وتحول الرأسمالية نفسها إلى نظام التقدم المستدام على الصعيد العالمي. وأطلق على هذا النظام لفظة العولمة، مع الإيحاء بأن العولمة تخطت الرأسمالية بأزماتها وشرورها وتناقضاتها. ووقع كثير من اليساريين تحت سحر هذه الضحالة وسطوتها.
لقد لاحظت ذلك منذ البداية، في الواقع منذ تولى غورباتشوف سدة الحكم في الاتحاد السوفييتي، وحاولت مذاك التصدي فكريا لخطاب العولمة النيوليبرالي ولموجة اللبرالية في الأوساط اليسارية، لكن المد العولمي الليبرالي كان طاغيا، الأمر الذي حال دون أن تترك محاولاتي أثرا ملموسا على الوعي الملبرل ليسار ما بعد الانهيار. لكن التاريخ لا يرحم أحدا. إذ سرعان ما أخذ مجراه يكشف زيف خطاب العولمة الليبرالية والعورات القاتلة للنظام الرأسمالي الإمبريالي العالمي، الأمر الذي بدأ يرد الاعتبار إلى خطابنا النقدي وإلى الماركسية الثورية ومشروعها الاشتراكي.
لكن، لا يكفي أن نرفض هذا الخطاب لتهافته ورجعيته. علينا أيضا أن نفنده وننقده بجدية. ولعل الخطوة الأولى في ذلك هي رد الاعتبار لثورة أكتوبر وإعادة النظر في معايير تقييمها. أي علينا أن نجابه الصورة المزيفة عنها بحقيقتها التاريخية. وعلينا أن نجابه الوعي الذي زيفها بتقييمها موضوعيا والنظر في منهج تقييم الأحداث التاريخية الكبرى.
وفي هذا الصدد نقول: أولاً، إن الحدث لا يقاس بمآلاته. فمغزى الحدث ينبع من لحظة حدوثه والقوى التاريخية التي استدعته. ومن جهة أخرى، فإن المآل لا يفهم بدلالة الحدث الأول وحده، وإنما بالقوى والأحداث التي قادت إليه، أي بسيرورة تطور الحدث الأول بعلاقته بالإطار التاريخي الذي تطور فيه. إن المآل ليس مكتوبا في الحدث الأول. فالحدث الأول لا يتطور بذاته فقط، وإنما بسياقه وإطاره وبيئته. فالحدث الأول والمآل لا يشكلان كلا فكريا مغلقا يتطور وكأنه روح هيغل المطلق. إن تاريخا بكامله يفصل الحدث عن المآل. وإلا اعتبرنا كل فرد فاشلا لأن مآله المحتم هو الموت، واعتبرنا كل نظام مادي فاشلا لأن مآله المحتم هو الصدأ والتفكك. فما يسمى انهيار الاتحاد السوفييتي ليس مكتوبا منطقيا وحتميا في حدث ثورة أكتوبر. ولا يجوز أن نحكم على ثورة أكتوبر بالفشل ارتكازا إلى ما أصاب الاتحاد السوفييتي عام 1991. وهذا يعني أن المآل لا يصلح البتة لكي يكون معيارا للحكم على ثورة أكتوبر بأي شكل كان.
لقد توافرت ظروف موضوعية وأخرى ذاتية مكنت البروليتاريا الروسية من إقامة دكتاتورية البروليتاريا في روسيا وتحقيق كثير من المهمات الديموقراطية التنموية وبعض المهمات الاشتراكية المهمة. لكن تلك الظروف لم تكن بالضرورة ظروف استمرار هذه المهمات الديموقراطية خطيا حنى تحقق المجتمع الشيوعي على الصعيد العالمي. إذ نشأت قوى ووقعت أحداث على الصعيدين الروسي والعالمي حالت دون ذلك. لقد ولد الحدث الأول احتمالات عديدة، لكن تحققها لم يكن محتما، وإنما كان يعتمد على توافر العديد من العوامل. وهذه الحقيقة كانت ماثلة بوضوح وبقوة في ذهن لينين. وهي تتجلى تماما في كتاباته المتأخرة. إن الثورة تبقى مغامرة ليست محسوبة تماما مهما تهيأت لها الظروف. وعلى أي حال، فإن ما استدعى ثورة أكتوبر لم يكن الحلم الشيوعي العالمي، وإنما عيانيات آنية معينة سنأتي على ذكرها لاحقا. إن المهزلة المتمثلة في غورباتشوف ويلتسن ويناييف لم تكن مكتوبة حتما في لينين وتروتسكي وبخارين.
ثانياً، يدلنا تاريخ الرأسمالية وتحليل منطقها الداخلي على أن الثورات ملازمة لوجود الرأسمالية تحديدا. ولئن كانت هذه الثورات برجوازية القيادة في مراحل صعود نمط الإنتاج الرأسمالي، إلا أنها أخذت الطابع العمالي في مراحل أزماتها البنيوية. فالثورة ضرورة تاريخية، وليست مسألة رغبات أو قرارات ذاتية. وهي تنفجر موضوعيا كالبركان، ولا تصنعها البنى الذاتية أو الأحزاب أو الهيئات السياسية. لكن البعد الذاتي حاسم في توجيه مسار الثورة وفي إنضاج الثورة. فالكلام عن نهاية الثورات، والذي ساد عقب انهيار المنظومة الاشتراكية في أوروبا الشرقية، هو كلام مثالي زائف لا يأخذ بعين الاعتبار طبيعة الرأسمالية ولا تاريخها.
ثالثا، إن القيادة الواعية ضرورية في نجاح الثورة، وخصوصا الثورة البروليتارية. لكنها عديمة الفاعلية من دون أدوات تنتجها وتعدها جيدا، وأهم هذه الأدوات هي الحزب الثوري القتالي. فحتى يكون البعد الذاتي فعالا في الثورة، لا بد أن يكون مسلحا بأدوات فعالة. وهذا يعني أن البعد الذاتي لا بد أن يتخطى الذات والوعي المباشر صوب الموضوع، أي لا بد أن يتحول إلى قوة مادية فاعلة لكي يؤدي دوره في الثورة. وهذا ما سبق أن أدركه لينين، كما لم يدركه أحد غيره من ماركسيي عصره.
رابعاً، إذا أردنا تقييم ثورة اجتماعية، فعلينا أن نعي مضمونها النقدي الذي يعري الواقع ويكشف عن صراعاته الدفينة وتناقضاته وإخفاقاته وقضاياه الملحة وطبيعة القوى التي صنعت الحدث. فالمضمون النقدي العياني، لا المآل، هو الأساس في الحكم على الحدث. وهنا علينا أن نسأل: هل كانت الثورة الروسية ضرورة تاريخية، وهل كان هناك مفر من تحولها إلى ثورة بروليتارية؟ وعلينا أن ندرك أن ثورة أكتوبر تضع علامات استفهام عميقة على الرأسمالية، وخصوصا في المستعمرات وأشباه المستعمرات، وعلى الديموقراطية الليبرالية وقدراتها على حل المشكلات العيانية الملحة للجماهير الشعبية. فالتاريخ الحديث يشير بوضوح إلى أن الرأسمالية تنخرها الحروب العالمية والأزمات البنيوية العميقة، الأمر الذي يضع بعض المجتمعات في النظام الرأسمالي العالمي أمام كابوس انهيار المجتمع وتذريته وتفككه.
خامساً، إذا أردنا الإجابة عن هذه الأسئلة، فلا بد من وضع حدث ثورة أكتوبر في سياقه التاريخي العياني. فقد كانت روسيا آنذاك الضحية الكبرى للمجزرة الكبرى التي أخذت تعرف بالحرب العالمية الأولى، والتي زجها بها القيصر والدولة القيصرية الإقطاعية. وقد تعرض ملايين الجنود الروس، وكان جلهم من الفلاحين، إلى خطر الإبادة الجمعية على يدي آلة الحرب الألمانية المتطورة. كما تعرض اقتصادهم ومصادر رزقهم، في ظل هيمنة الإقطاعيين وكبار البرجوازيين وفي ظل المجزرة الكبرى، إلى الانهيار المحقق. أما الطبقة العاملة، فقد جابهت ظروفا مستحيلة في ظل هذه الظروف، الأمر الذي دفعها إلى المواقف والحلول الثورية الراديكالية وإلى رفع وعيها الطبقي إلى الذرى. كل ذلك استلزم حلولا جديدة وجذرية تتخطى كل الطروحات التقليدية اليمينية والأخرى اليسارية. وهذا ما التقطه لينين تحديدا ودفعه إلى نمط جديد في مقاربة المشكلات المطروحة. وفي ضوء ذلك، نستطيع القول إن المشكلة الفعلية المطروحة لم تكن الاشتراكية أو الرأسمالية. ولم تكن مسألة الديموقراطية الليبرالية بما هي الشكل السياسي المطلوب، وإنما كانت البحث عن سبيل لإنقاذ المجتمع الروسي من الانهيار وإنقاذ الجماهير الكادحة من عمال وفلاحين من وضعها الذي لا يطاق. وهذا كله استلزم حلولا جذرية خلاقة.
ويمكن القول إن المحتوى الثوري النقدي لثورة أكتوبر تجسد في وعي لينين تحديدا. ومن ذلك نبع الدور الحاسم لوعي الفرد القائد في الثورة. ويمكن التعبير عن هذا المحتوى النقدي بالأسئلة الآتية التي استخلصها لينين من اللحظة الثورية: ماهي المهمات العيانية التي يستلزمها وضع الطبقات الكادحة في ضوء وضعها المستحيل؟ وما هي القوى العيانية على الأرض القادرة على تحقيق هذه المهمات؟ وقد شكلت هذه الأسئلة ثورة على الصعيد السياسي في الأوساط الماركسية الروسية، وربما العالمية. إذ كان التفكير السائد آنذاك في تلك الأوساط يتمحور حول مثالات أفلاطونية بعيدة عن الواقع، وكان يتمثل في الاعتقاد بأن المرحلة التي كانت تمر فيها روسيا هي مرحلة الثورة البرجوازية، ومن ثم مرحلة سيطرة البرجوازية الروسية. وانصب التساؤل حول كيفية مساندة الأحزاب الاشتراكية البرجوازية في استلام السلطة السياسية وممارستها. وكان في ذهنها أنموذج أفلاطوني مثالي مستمد من التاريخ الفرنسي الحديث أرادت أن تحققه في روسيا، ولم تكن معنية بحل المشكلات المستعصية للجماهير الكادحة. أما لينين، فقد أدرك عيانية الوضع الروسي وعيانية مهماته من منظور البروليتاريا، وأدرك أن البرجوازية الروسية عام 1917 لم تكن البرجوازية الفرنسية عام 1789. فلم تكن المسألة الملحة في نظر لينين هي الاشتراكية أم الرأسمالية، ولم تكن مسألة الديموقراطية الليبرالية بما هي الشكل السياسي المطلوب. لقد تخطى لينين كل المثالات الأفلاطونية التي كانت تثقل عقل الأحزاب الاشتراكية الروسية آنذاك. فكان في ذلك ماديا بحق وجدليا بحق.
أدرك لينين أن المهمات الملحة الملقاة على عاتق القوى الثورية كانت: أولا، إيقاف مذبحة الحرب العالمية الأولى التي كانت تحصد رؤوس ملايين الكادحين الروس كرمال القيصر والإمبرياليتين البريطانية والفرنسية. وأدرك أن الجنود الروس لم يعودوا يطيقون هذه المجزرة العبثية الميئوس منها. فأعلن تحقيق السلام والانسحاب من الحرب مهمة أساسية للثورة الروسية. ثانيا، معالجة النقص التمويني المريع في روسيا بفعل تخبط القيادة القيصرية الروسية وتخلفها، والذي عرض حياة الملايين للخطر الشديد. ثالثا، نقل ملكية الأرض، مصدر رزق ملايين الكادحين، إلى الفلاحين لإنقاذهم من خطر المجاعة الداهم. رابعا، ضمان الحفاظ على تماسك المجتمع الروسي في ظل فوضى الحرب وانهيار السلطة القيصرية والحيلولة دون وقوع روسيا في قبضة الإمبريالية الغربية التي تسعى دوما إلى تمزيق أطرافها. خامساً، المهمات الديموقراطية بالمعنى الماركسي المتعارف عليه، أي تصفية الإقطاع ودولة الاستبداد الشرقي وإطلاق الحريات الديموقراطية والمدنية وبناء المؤسسات الديموقراطية، وبخاصة العمالية منها.
وهنا تساءل لينين: ما هي القوى التاريخية على الساحة الروسية القادرة على تحقيق هذه المهمات الملحة جدا والراغبة في ذلك؟ وكانت الإجابة جاهزة في ذهن عامة الاشتراكيين الروس والألمان. إنها البرجوازية، حيث إنها مرحلتها وثورتها. لكن لينين، ببصيرته الجدلية العميقة، أدرك مثالية هذا الجواب التقليدي الخائب. لقد أدرك لينين أن البرجوازية الروسية عام 1917 هي غير البرجوازية الفرنسية عام 1789. فهو لم ينطلق من المثال الأفلاطوني التجريدي ولا من المفهوم المجرد للبرجوازية، وإنما درس البرجوازية الروسية في عيانيتها التاريخية من حيث النشوء والظروف والبنية والعلائق. فتوصل إلى النتيجة بأن البرجوازية الروسية غير مؤهلة مطلقا لتنفيذ هذه المهمات الملحة. فهي ترتبط بالإقطاع الروسي والإمبريالية الغربية بألف خيط وخيط. وهذا يحول بينها وبين إيقاف الحرب. فلم تكن راغبة بتاتا في إيقاف الحرب، التي كانت تعبر عن مطامعها الاستعمارية التوسعية. وهي كانت مرعوبة من البروليتاريا المنظمة الثورية ومن التمرد الفلاحي، الأمر الذي دفعها إلى الارتماء في أحضان الإقطاع والإمبريالية. بل يمكن القول إنها لم تشارك في ثورة فبراير، وإنما استغنمت فرصة ثورة فبراير، التي قمت بها البروليتاريا، من أجل إزاحة القيصر واستلام السلطة السياسية بمعونة الإمبريالية الغربية. فهي اختطفت الثورة واستلمت السلطة من أجل الاستمرار في الحرب واستغلال الجماهير الكادحة. لذلك، ما كان بالإمكان أن تحقق المهمات الشعبية المطروحة من وقف الحرب واتخاذ إجراءات عملية لتوفير الحاجات الأساسية للجماهير الكادحة وتصفية العلائق الإقطاعية والملكية المطلقة وإجراء الإصلاح الزراعي وحماية المؤسسات الديموقراطية التي افرزتها الثورة وحماية الحريات الديموقراطية التي أطلقتها الثورة. أدرك لينين استحالة أن تقود البرجوازية هذه العملية الثورية بحكم تركيبتها الداخلية وارتباطاتها الخارجية. بل إنها كانت العقبة الرئيسية أمام تحقيق ذلك. لذلك نادى لينين بأن تستلم السلطة سوفييتات العمال والجنود والفلاحين. لكنه أدرك أيضا أنه لا بد من تحرير السوفييتات من قبضة المناشفة والاشتراكيين الثوريين وباقي القوى البرجوازية الصغيرة، التي كانت ملحقة فعليا بالبرجوازية.
لذلك كله، أدرك لينين أن البروليتاريا الروسية الثورية المنظمة المدعومة من الفلاحين والمسلحة بالسوفييتات والحزب البلشفي الثوري هي القوة الوحيدة المؤهلة لإنقاذ الوضع وتحقيق المهمات الملحة. فضرب عرض الحائط بكل الأفكار المثالية المتكلسة عن طبيعة المرحلة والثورة ونظر الواقع التاريخي الحي في القلب وحرك البروليتاريا على هذا الأساس. لم يكن همه المباشر إقامة الاشتراكية وتصفية الرأسمالية، وإنما إنقاذ الجماهير الكادحة من محنتها الوجودية. لكنه كان يدرك أن البروليتاريا الثورية لا يمكن أن تقف عند حد تحقيق المهمات الملحة. فهي سوف تسعى لاحقا إلى تخطي المهمات الديموقراطية والحياتية الملحة والمباشرة صوب مهمات تخطي الرأسمالية نفسها روسيا وعالميا، وذلك بحكم طبيعتها. وبالطبع، لم يكن لينين متيقنا من النجاح في فعل التخطي هذا. كان يدرك تماما أن هناك ظروفا عالمية لا بد أن تتوافر حتى تتمكن روسيا من تخطي الرأسمالية. بل إنه أبدى شكوكا كبيرة في ذلك في ضوء الأحداث التي كانت تجري في ألمانيا والغرب. فليس صحيحا أنه أراد حرق المراحل، وإنما أراد توفير شروط تحقيق المرحلة المطلوبة، وإن كان يدرك صعوبة تخطي المرحلة الراهنة صوب المرحلة ذات الأفق الاشتراكي.
لقد أدرك لينين ليس فقط أن تحقيق الثورة الديموقراطية شرط ضروري لتحقيق الثورة الاشتراكية، لكنه أدرك أيضا أن إشعال الثورة الاشتراكية هو شرط ضروري لتحقيق الثورة الديموقراطية ومهماتها. وهذا هو التبصر اللينيني العظيم الذي ميزه عن أقرانه. فالمسألة ليست مسألة قوالب تاريخية جاهزة وحتمية، وإنما مسألة قوى عيانية موجودة على الأرض وعلائق قوة فعلية. فالبروليتاريا كانت في غاية التنظيم (السوفييتات)، وكانت قد سيطرت منذ ثورة فبراير على المرافق والمنشآت العامة والاقتصاد القومي. ولم يكن ينقصها سوى السلطة السياسية. وكان حاضرا فيها حزب ثوري بقيادة علمية ثورية فذة. فكان من الطبيعي أن تسعى إلى استلام السلطة السياسية. ومن جهة أخرى، فقد كان البديل كارثيا. البديل كان الإخفاق في تحقيق المهمات الملحة، ومن ثم ربما انهيار المجتمع الروسي وتفككه، وتصفية السوفييتات والثورة نفسها. فالضرورة التاريخية هي التي دفعت لينين والبلاشفة والسوفييتات إلى استلام السلطة السياسية برغم المخاطر التي كانت تحيق بذلك. إن قرار البروليتاريا الثورية استلام السلطة السياسية لم يكن وليد شهوة السيطرة، ولا روح المغامرة، ولا الاستهتار النخبوي، وإنما كان مرده إلى قراءة معمقة للضرورة التاريخية العيانية.
إن أي تقدم في المجتمعات المتخلفة مرهون بتغيير الجوهر الطبقي للحكم. أما التغييرات الشكلية من دون المساس بهذا الجوهر، فنتيجته الحتمية أن الثورة تظل تراوح مكانها وتعجز عن تحقيق أي من المهمات الملحة والديموقراطية. فلا سبيل إلى تحقيق أي منها في ظل حكم البرجوازية التابعة الطفيلية، سواء أخذت طابعاً دينياً أو عسكرياً أو ليبرالياً. وهذا بالضبط ما حصل في الثورات العربية التي ما زالت تراوح مكانها برغم حركة الجماهير بملايينها وعشرات ملايينها. وهذا يعني أن على الطبقة العاملة في البلدان المتخلفة ألا تراهن على الشكليات وألا تتبنى الآيديولوجيا البرجوازية، بحجة أن المرحلة تتطلب ذلك وأنه لا يجوز حرق المراحل، وألا تكتفي بدعم هذا الجناح من البرجوازية أو ذاك، وإنما أن تحافظ على استقلالها التنظيمي والسياسي والفكري، وأن تهيئ نفسها لاستلام السلطة والثورة الاشتراكية من اجل تحقيق المهمات الملحة والديموقراطية. هذا هو درس أكتوبر الذي اتبع في روسيا والصين والهند الصينية وكوبا. أما الثورات التي لم تتبعه، فظلت تراوح مكانها وتردت أحوال الأقطار التي قامت فيها.
ويبقى السؤال المهم: هل كانت ثورة أكتوبر مغامرة غير محسوبة سابقة لأوانها؟ والجواب هو أنها كانت بالفعل كذلك من المنظور المنشفي الأفلاطوني المتكلس. أما من المنظور المادي التاريخي العياني، فقد كانت ضرورة تاريخية لأن الكيان الروسي برمته كان معرضاً لخطر الانهيار والتفكك. وبالطبع، فإن كل فعل ثوري هو مغامرة بصورة من الصور. لكن ثورة أكتوبر كانت مغامرة مبررة ومحسوبة، بل وضرورية. فبديلها كان المراوحة والانهيار. وهذا ما بينته بإسهاب في شرحي لتحليل لينين العياني للمهمات الملحة والديموقراطية. طبعاً ترتب على هذا الخيار لاحقاً صراعات مرة صعبة، كالحرب الأهلية. لكن الحرب الأهلية كانت أهون على الطبقة العاملة، برغم دمويتها الرهيبة، مما كانت البرجوازية وفلول الإقطاع تخبئه لها من تصفية إبادية لو تسنى لها أن تحافظ على سلطتها السياسية.
وخلاصة القول إن درس أكتوبر ما زال حياً وملحاً أمام ما شهده ويشهده العالم من كوارث وانهيارات وحروب تهدد هذه المرة البشرية برمتها. إن الثورة، لا الديموقراطية الليبرالية، هي أعلى مراحل الديموقراطية. كما إنها شرط التغيير الحقيقي الذي لا غنى عنه البتة.