حسين علوان حسين
أديب و أستاذ جامعي
(Hussain Alwan Hussain)
الحوار المتمدن-العدد: 4742 - 2015 / 3 / 8 - 08:39
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
الذات و الموضوع و المعرفة
نعود الآن إلى نص الأستاذ وليد يوسف عطو المحترم . فبعد دراستهما المعمقة و المستفيضة لأعمال ماركس و إنجلز كافة ، يتصدى الأستاذان المحترمان : وليد يوسف عطو و هشام عمر النور للأخذ على عاتقيهما المهمة الضخمة المتمثلة بشرح أركان النظرية الماركسية لقراء الحوار المتمدن الكرام و للعالم ، و كل ذلك خدمة منهما للبشرية و إلتزاماً مخلصاً منهما بالحقائق الناصعة و أصول و معايير البحث العلمي الأصيل . و لكونهما يؤمنان بأن من أهم مميزات خدمة البشرية و الحقيقة في مهمة شرح الماركسية للعالم تتمثل بضرورة عدم تكليف نفسيهما "زحمة" إقتباس و لا حرف واحد من كل أعمال ماركس و إنجلز ، لذا نجدهما يقرران دوغماتياً و بتقوى كهنوتية متجردة ما يلي بصددها :
"سقوط الحتمية التاريخية . تقوم نظرية المعرفة الماركسية ,بحسب د . هشام عمر النور في كتابه : ( تجاوز الماركسية الى النظرية النقدية ) – ط 1 – 2012 – رؤية للنشر والتوزيع ,على فلسفة الهوية والتطابق Theory of truth correspondence , فالحقيقة تصور مطابق للواقع ,لذا فانها تستند على التقابل بين الذات والموضوع, فالتصور ينشا في الذات لكنه يجب ان يكون مطابقا للواقع , اي لموضوع ما . لذلك فان نظرية المعرفة الماركسية تقوم على منطق ثنائي يجعلها تتسم بالدوغمائية ,فالمعرفة اما ان تكون صائبة او خاطئة , ذاتية او موضوعية . وقد اختارت الماركسية لنفسها ان تكون دائما صائبة وموضوعية وكلانية مطلقة ."
إنتهى .
في الحلقات السابقة ، أوضحت - بالنصوص الموثقة و ليس بالمزاعم العارية من الصحة - كيف أن الماركسية تنسف الأساس الذي تقوم عليه كل الفلسفة الحتمية - القائلة بأن كل الأحداث في الكون ، بضمنها الأفعال البشرية ، تحتمها أخيراً أسباب كائنة خارج إرادة الإنسان - بالتزامها مبدأ أن البشر المحكومين بالظروف و الإمكانيات المحيطة بهم هم الذين يصنعون تاريخهم و ليست العلل و المعلولات ، و أن كل التاريخ ليس هو إلا " نشاط الإنسان ملاحقاً أهدافه " حسبما يقول ماركس و إنجلز في "العائلة المقدسة" . كما أوضحت كيف أن الذي يؤمن بالحتمية و يكرسها كسيف مسلط على أعناق كل البشر إنما هم المؤدلجون لديمومة النظام الرأسمالي (من طراز عطو و عمر النور و هابرماس و شركاه) ممن يروجون لخرافة أبديته الحتمية المدمرة لكل شيء على وجه الكرة الأرضية .
و علاوة على ذلك ، فقد دللت - بالنصوص الموثقة أيضاً - أن الماركسية تحارب كل نوع من أنواع الدوغماتية في ضوء كونها تدمغ الدوغماتية كعقيدة أرثوذكسية جامدة و التي لا بد لها أن "تنتهي إلى لا شيء" مثلما يبيِّن إنجلز في نصه السابق الذي أوردته . و استعرضت كيف أن الماركسية لا يمكن أن يجمعها أي جامع مع الإدعاء بكلانية الصحة ، لكونها - على العكس من ذلك تماماً - تؤكد حاجتها "إلى أكوام من الدراسات" الجديدة ، مثلما يبيَّن إنجلز ، لتسديد النقص فيها ؛ و لأن اعتمادها للمنهج الجدلي يستلزم بالضرورة الأخذ بنسبية طبيعة كل الفكر - بضمنه الماركسية - و بالتالي ، وعي حاجته الضرورية و المستمرة للتطوير .
نأتي الآن إلى فريتي الإستاذ وليد يوسف عطو و شركاه : 1. "تقوم نظرية المعرفة الماركسية على فلسفة الهوية والتطابق ، فالحقيقة تصور مطابق للواقع" ؛ و 2. "أن نظرية المعرفة الماركسية تقوم على منطق ثنائي يجعلها تتسم بالدوغمائية , فالمعرفة اما ان تكون صائبة او خاطئة , ذاتية او موضوعية " .
عندما يعكف الإنسان المطلع على تاريخ الفلسفة على مطالعة "التحفة" أعلاه ، يستطيع الاستنتاج حالاً بأن الأستاذ وليد يوسف عطو المحترم إنما يتحدث هنا عن أرسطو ؛ و ليس عن ماركس و إنجلز اللذين عاشا بعده بأكثر من ألفي سنة بعد أن تم تجاوز المنطق الأرسطي برمته لمحدوديته و فشله في تفسير كل الحقائق الواقعية . يعلم أي مطلع على الماركسية أن ماركس و إنجلز يعتمدان طريقة المنطق الجدلي القائم أساساً على نفي صحة قانون الهوية الأرسطي - الذي يفشل في قول أي شيء مفيد (الماء هو الماء) - بـتطبيق "حركة الرفع الديالكتي" الهيجلية عليه للكشف عن خوائه ؛ و رفضهما تجريد الحقيقة شكلياً إلى المقولات الثنائية المتعاكسة قطبياً : الصح و الخطأ ، و الذات و الموضوع عبر ربطهما لجدلية نفي النفي دينامياً بواقع الممارسة العملية في الزمكان .
فلسفة الهوية ! الدوغماتية ! المعرفة : إما صح ، أو خطأ ، و لا يوجد بين - بين ! هذه هي السكولاستية الجديدة تذر قرنها من جديد على لسان الأستاذ وليد يوسف عطو و شركاه المحترمين . مسكين ماركس و إنجلز : كل الحماقات التي أفنيا عمريهما في الكشف للبشرية عن طبيعتها و التي حذراها من عقابيلها تنقلب هنا إلى تهم مجانية ضدهما بلا دستور .
و لكن ما هي "الطريقة الجدلية" لهيجل ؟ في الفصل الثاني من كتابة "بؤس الفلسفة" (1847: 48) يشرح ماركس هذه الطريقة بالقول [الأقواس من عندي] :
ما أن تستطيع أن تطرح نفسها ، فإن هذه المقولة ، هذه الفكرة ، بالتضاد مع ذاتها ، تنشطر إلى فكرتين متناقضتين - الإيجابية و السلبية ، النَعَمْ و اللا . و الصراع بين هذين العنصرين المتضادين المؤلفَين للمقولة المضادة [النقيضة] يشكل الحركة الديالكتية . النَعَمْ [ مثلاً : نعم ، الذات تتطابق مع الموضوع ] يصبح : لا [ لا ، الذات لا تتطابق مع الموضوع ] ، و اللا يصبح : نَعَم ، و النَعَم يصبح : نَعَمْ و لا معاً ، و اللا تصبح : لا و نعم ، المتضادات توازن بعضها ، تحيِّد بعضها ، و تشلُّ بعضها . و التحام هاتين الفكرتين المتضادتين يؤلف فكرة جديدة ، و التي هي التركيب بينهما . و هذه الفكرة تنشطر مرة أخرى إلى فكرتين متضادتين ، و اللتين بدورهما تلتحمان في تركيب جديد . و من هذا المخاض تولد مجموعة من الأفكار ، و مجموعة الأفكار هذه تتبع نفس الحركة الديالكتية التي مرت بها المقولة البسيطة [ الأولى التي نشأت منها مجموعة الأفكار هذه ] ، فتحصل على مجموعة مضادة لها كمقولة نقيضة . و من هاتين المجموعتين من الأفكار تتولد مجموعة جديدة من الأفكار المناقضة لهما . و مثلما تتولد المجموعة من الحركة الديالكتية للمقولات البسيطة [ الأولى ] ، كذلك تتولد من الحركة الديالكتية للمجموعات : السلسلة ، و تتولد من الحركة الديالكتية للسلسلة : المنظومة كلها ."
إنتهى نص ماركس .
و لكن ماركس لا يكتفي بطريقة هيجل أعلاه في التحليل . كيف ، و لماذا ؟ الجواب : عن طريق إخضاعه لها للممارسة العملية (البراكسيس) على أرض الواقع لتجاوز ميتافيزيقيتها النظرية . لماذا ؟ لكي تستطيع النظرية ليس فقط تفسير العالم ، بل و تغييره أيضاً إنطلاقاً من وقائعه المعطاة .
في أطروحته الثانية عن فيورباخ يقول ماركس :
"إن مسألة ما إذا كانت الحقيقة الموضوعية يمكن أسنادها للفكر البشري هي ليست مسألة نظرية بل هي مسألة عملية . على الإنسان أن يبرهن الحقيقة ، أي الواقع و المقدرة لهذا الجانب من تفكيره ، من خلال الممارسة . و الخلاف حول واقعية أو لا واقعية التفكير بمعزل عن الممارسة هو مسألة سكولاستية بحتة . "
إنتهى نص الأطروحة .
إذن ، فالماركسية في مقاربتها للذات و الموضوع ترفض ليس فقط مبدأ التقابل و التطابق بينهما مثلما يُزعم لنا ، بل و ترفض كذلك تحليلهما بعيداً عن الممارسة الزمكانية على أرض الواقع . هذا يعني أن الماركسية تشترط منذ البداية وجوب دراسة مقولة "الذات" و "الموضوع" الثنائية كمقولة لعلاقات ثلاثية ضمن كلٍ واحد : 1. الذات ، 2. الموضوع ، 3. الممارسة . فبقدر تعلق الأمر بالإنسان ، فإن ماركس يصب كل اهتمامه ليس على المفاهيم النظرية . كلما يتحدث ماركس عن الإنسان نجد أن تعريفه للجوهر البشري للإنسان يرتبط دوماً بالممارسة العملية ؛ بقدرة الإنسان على تحقيق قواه الذاتية من خلال نشاطاته ، و أهمها تحقيق قدرته على الخلق و الإبداع و الإنتاج في وحدة موضوعية مع الطبيعة التي هو جزء لا يتجزأ منها .
أنظروا إلى عبقرية ماركس المتفردة في الربط الجدلي بين العامل (الذات) ، و الممارسة (العمل) ، و الموضوع (السلعة) . و كيف أن ارتكاز كل المعالجة للعلاقات القائمة بين هذه العناصر الثلاثة على ديالكتيك وظيفة الممارسة (العمل) هو المنهج القادر على الكشف عن سر حقيقة : الحركة الديالكتية التي ترفع الممارسة (العمل) إلى الذات (العامل) و إلى الموضوع (السلعة) معاً ؛ و ترفع الموضوع (السلعة) إلى الذات (العامل) ؛ و من ثم ترفع الممارسة إلى الممارسة نفسها (العمل) معاً . يقول ماركس في مخطوطاته الاقتصادية و الفلسفية (1844):
"يصبح العامل هو الأفقر كلما تزايد انتاجه للثروة و كلما ازدادت قوة و حجم إنتاجه . إن العامل يصبح البضاعة الأرخص باضطراد كلما خلق سلعاً أكثر . و يتناسب تناقص القيمة لعالم البشر تناسباً مباشراً مع تزايد القيمة لعالم الأشياء . و لا يكتفي العمل بإنتاج السلع فقط ؛ بل هو ينتج نفسه و ينتج العامل كسلعة - و هذا يحصل بنفس المعدل الذي ينتج فيه العمل السلع بشكل عام ."
يشرح لنا ماركس في النص أعلاه كيف أن الممارسة (المغيَّبة أصلاً في المقولة السكولاستية الجامدة : تطابق الذات مع الموضوع) تجعل الموضوع يتعاظم في القوة و القيمة ليصبح أكبر من الذات المنتجة له (أي أن الموضوع لا يتطابق مع الذات) ، و العكس صحيح (أي أن الذات لا تتطابق مع الموضوع) ، في حين أن الممارسة (العنصر المغيب سكولاستياً) تنتج نفسها علاوة على إنتاجها للذات و للموضوع معاً .
من أين إذن جاء الأستاذ وليد يوسف عطو المحترم بتوكيده الدوغماتي بكون الماركسية تقول بالتطابق بين الذات و الموضوع ؟ في نفس المخطوطات ، يقول ماركس موضحا علاقة الإنسان (الذات) بالطبيعة (الموضوع) عبر (مملكة الممارسة) :
"الإنسان هو مخلوق نوعي [ أي : المخلوق المميز للنوع البشري] ، ليس فقط لأنه يتبنى - عملياً و نظرياً - النوع البشري (نوعه هو بالإضافة لأنواع الأشياء الأخرى) كموضوع له ، بل و كذلك - و هذه هي مجرد الطريقة الأخرى للتعبير عن ذلك - لأنه يتعامل مع نفسه كنوع فعلي حي لكونه يتعامل مع نفسه كمخلوق عالمي [أي : المخلوق الذي يجسد النوع البشري كله] ، و بالتالي فهو مخلوق حر .
تتوقف حياة الأنواع ، للإنسان و الحيوان على حد سواء ، جسدياً ، على حقيقة أن الإنسان (مثل الحيوان) يحيى على الطبيعة العضوية ؛ و كلما كبرت عالمية الإنسان (أو الحيوان) كلما كبرت عالمية المجال للطبيعة غير العضوية التي يحيى عليها الإنسان . فمثلما أن النباتات و الحيوانات و الأحجار و الهواء و الضياء إلخ تمثل نظرياً جزءاً من الوعي البشري ، تارة كموضوعات للعلم الطبيعي ، و تارة كموضوعات للفن - فإن طبيعة الإنسان الروحية غير العضوية ، و تغذيته الروحية التي ينبغي له تهيئتها أولاً لجعلها مقبولة الطعم و قابلة للهضم - فإنها أيضاً تؤلف جزءاً من الحياة البشرية و النشاط البشري في مملكة الممارسة . جسدياً ، لا يحيا الإنسان إلا على منتجات الطبيعة هذه ، سواء اتخذت شكل الطعام ، أو التدفئة ، أو الملابس ، أو المسكن ، إلخ . عالمية الإنسان تظهر عملياً بالضبط في العالمية التي تجعل كل الطبيعة هي الجسد غير العضوي للإنسان - الطبيعة بقدر كونها هي نفسها ليست جسماً بشرياً . يحيا الإنسان في الطبيعة ، و هذا يعني أن الطبيعة هي جسده الذي يتوجب عليه أن يتبادل معه باستمرار لكي لا يموت . إن كون الحياة الجسدية و الروحية للإنسان مرتبطة بالطبيعة يعني ببساطة أن الطبيعة ترتبط مع نفسها ، لأن الإنسان هو جزء من الطبيعة . "
إنتهى .
و الأن نصل إلى الإجابة على أهم سؤال بالنسبة للماركسية ، لماذا و كيف يجب تغيير الواقع ؟ الجواب : لكون الحقيقة البشرية يستحيل أن تتحقق موضوعياً في ظل سيادة الملكية الخاصة التي تغرب الإنسان بسلخه بقوة القانون عن ثمار عمله ، خالقة له واقعاً غريباً عن جوهره الإنساني ، و الحل يكمن في إلغاء الملكية الخاصة . يقول ماركس في مخطوطاته نفسها :
"لما كانت الملكية الخاصة هي التعبير الحسي الوحيد لحقيقة أن الإنسان يصبح موضوعاً لنفسه و يصبح في نفس الوقت موضوعاً غريباً و غير إنساني لنفسه بحيث أن تعبيره عن الحياة و تغريبه للحياة و تحققه كإنسان يصبح هو الخسران للواقع ، و يصبح الواقع غريباً ؛ لذا ، فإن الإلغاء الإيجابي للملكية الخاصة - أي التملك الحسي للجوهر البشري و للحياة الإنسانية ، للإنسان الموضوعي و لنتاج أعماله البشرية من الإنسان و للإنسان - لا يجب فهمه فقط بمعنى الاستهلاك المباشر من جانب واحد ، و لا كتملك و حيازة . الإنسان يتملك جوهره الكامل بطريقة تكاملية كانسان تام . إن كل الأحاسيس البشرية بصدد العالم - البصر و السمع و الشم و التذوق و التلمس و التفكير و التأمل و الحاجة و الفعل و الحب - باختصار كل الأعضاء الشخصية - و مثلها الأعضاء ذات الشكل المشترك المباشر ، في مقاربتها الموضوعية ، أو في مقاربتها للشيء - هي التملك لذلك الشيء ؛ و هذا التملك للواقع البشري و مقاربتها للشيء هو التثبيت (confirmation) للحقيقة البشرية .. "
أنتهى .
ما الذي سيحصل للذات و الموضوع و الممارسة بعد إلغاء الملكية الخاصة ؟ يقول ماركس في نفس المكان :
لقد رأينا ، على إفتراض إلغاء الملكية الخاصة ، كيف أن الإنسان ينتج الإنسان ، ينتج ذاته و البشر الآخرين ، و كيف أن الموضوع - الذي هو النشاط المباشر لشخصية الإنسان - يصبح هو في نفس الوقت وجوده من أجل البشر الآخرين ، و هو وجودهم من أجله . و بالمثل أيضاً ، فإن كلاً من العمل المادي و الإنسان كذات هما نقطتا البداية علاوة على كونهما النتيجة للحركة [الديالكتية] ( حيث أن الضرورة التاريخية للملكية الخاصة تتمثل بالضبط في حقيقة أن العمل و الإنسان يجب أن يكونا هما نقطة البداية هذه ) . إذن ، السمة الاجتماعية هي السمة العامة للحركة كلها كحركة ؛ فمثلما ينتج المجتمع بنفسه الإنسان كإنسان ، كذلك ينتجها الإنسان بنفسه . إن الجوهر البشري للطبيعة يتواجد فقط من أجل الإنسان الاجتماعي ، لأن الطبيعة تتواجد هنا فقط من أجل وجود الإنسان كوثاق مع البشر الآخرين ، كوجود له من أجل الآخرين و كوجود للآخرين من أجله ، كعنصر حيوي للحقيقة البشرية .."
إنتهى .
يتضح من كل هذا أن الماركسية ترفض فهم الذات و الموضوع كمفهومين مستقلين متقابلين ثابتين ، بل تعتبر أن العلاقة بين الذات و الموضوع لا يمكن حلها بدون ربطهما بالممارسة أولاً ، و أن هذا الثلاثي (الذات ، الموضوع ، الممارسة) يؤلف معاً كلاً جوهرياً واحداً غير قابل للتجزئة ، ثانياً .
فهل يجوز للباحث المنصف - إزاء كل هذه الحقائق النصية ، و غيرها بالمئات - أن يمسخ هذا العمق الماركسي في التحليل و الاستناج إلى كاريكاتير المقابلة السكولاستية المجردة و الميتة بين الذات و الموضوع بمعزل عن الممارسة ، مثلما يفعل الأستاذ وليد يوسف عطو و هشام عمر النور و شركاه ؟
المعرفة و دوغما ثنائية : الصح و الخطأ .
مثلما ترفض الماركسية التجريد الثنائي الميت لتقابل الذات و الموضوع ، كذلك هي ترفض أي تصور ثنائي دوغماتي ثابت للمعرفة باعتبارها إما صح أو خطأ ، لكونها لا تعترف بسكونية و لا جمود أي ظاهرة فكرية أو اجتماعية . هذه الثنائية الأرسطية الشائخة غريبة تماماً عن جوهر الماركسية التي تفهم الصح و الخطأ كسيرورتين معرفيتين نسبيتين و متغيرتين يحددهما مستوى تطور الممارسة العملية لتاريخ العلوم للبشر جميعاً . يقول إنجلز في "ضد دوهرنغ" :
" و لكن الإنسان الذي يطبق مقياس الحقيقة الأصلية و الثابتة و الأخيرة و النهائية على المعرفة التي ، بطبيعتها بالذات ، يجب إما أن تبقى نسبية على مدى عدة أجيال لكي يصار إلى استكمالها خطوة فخطوة فحسب ، أو التي - مثلما في علم الكونيات و طبقات الأرض و تاريخ البشرية - يجب أن تتضمن ثغرات و أن تكون غير كاملة بسبب عدم كفاية المواد التاريخية - مثل هذا الإنسان لا يثبت بذلك سوى جهله و ضلاله ، حتى لو لم يكن الشيء الفعلي وراء كل هذا ، كما في هذه الحالة ، ادعاء العصمة الشخصية . الصح و الخطأ ، مثل كل المفاهيم المتحركة في تضاديات قطبية ، لا يمتلكان المصداقية المطلقة إلا في حقل محدود جداً مثلما شاهدنا تواً ، و مثلما كان حتى الهير دوهرنغ سيدركه لو كان قد إطلع على أبسط مبادئ علم الديالكتيك التي تعالج بالضبط عدم صلاحية جميع الأضداد القطبية . فما أن نطبق الأطروحة النقيضة بين الصح و الخطأ خارج نطاق ذلك الميدان الضيق المشار إليه آنفاً حتى يصبحان نسبيين ، و بالتالي غير صالحين للتعبير العلمي الدقيق ، و إذا ما حاولنا تطبيقهما كحقيقتين مطلقتين خارج نطاق ذلك الحقل ، فسنجد أنفسنا مدحورين فعلاً ، حيث سيتحول كلا القطبين إلى ضديهما ، فيصبح الخطأ صحاً و الصح خطأ . "
إنتهى .
يوضح أنجلز في النص أعلاه كيف أن المعرفة البشرية للحقائق هي - بطبيعتها - نسبية و غير كاملة ، و أن الصح يمكن أن ينقلب إلى خطأ و العكس صحيح من خلال تطور المعارف البشرية . و لكن الواضح من الكلام المذكور سابقاً للأستاذ وليد يوسف عطو المحترم أن إنجلز لا يفهم بالماركسية ! طيب ، من هو الذي يفهم فعلاً بالماركسية ، إذن ؟ من الواضح و المفروغ منه هو أن الفهيمة بالماركسية إنما ه, كل من السيد وليد يوسف عطو و هشام عمر النور اللذين يقرران : " ان نظرية المعرفة الماركسية تقوم على منطق ثنائي يجعلها تتسم بالدوغمائية ,فالمعرفة اما ان تكون صائبة او خاطئة , ذاتية او موضوعية " . آمين !
هنا يحضرني قول المتنبي :
ذو العَقلِ يَشقَى في النّعيمِ بعَقْلِهِ *** وَأخو الجَهالَةِ في الشّقاوَةِ يَنْعَمُ
يتبع ، لطفاً .
#حسين_علوان_حسين (هاشتاغ)
Hussain_Alwan_Hussain#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟