تونس، من أين؟ والى أين؟
بن حلمي حاليم
الحوار المتمدن
-
العدد: 8039 - 2024 / 7 / 15 - 02:46
المحور:
الثورات والانتفاضات الجماهيرية
قدم الشعب التونسي تضحيات جسيمة من اجل تحرره واستقلاله، وقد خاض معارك ميدانية بشجاعة ضد أجهزة النظام القمعي الحاكم وممثله الرئيس زين العابدين بن علي، ونظم إضرابات عامة سياسية واعتصامات في الساحات بالعاصمة، وعصيان مدني، واستطاع بذلك شل نشاط جل المؤسسات، وقام بمواجهات شرسة مع أجهزة الدولة الرأسمالية التي قهرت الأجداد والآباء والأبناء.
لن أعود إلى سنوات الاستعمار الفرنسي وحرب التحرير الوطني؛ بل سأنطلق من أواخر 2010 وأوائل 2011 إلى اليوم، صيف 2024، هذه الفترة التي عاشوا فيها فقراء تونس كل أصناف الحرمان المضاعف، فقد تمسكوا بثورتهم/ن حتى اسقطوا الرئيس التونسي بن علي من عرش حكمه، وفرحوا فرحة يصعب وصف لحظاتها.
وكان ثمن ذلك غاليا جداً، عدد من الشهداء، وآلاف الجرحى من الصنف الخطير والدرجات المرتفعة، والعاهات المستديمة، ورغم كل ذلك فقد اندلعت الثورة بكل المنطقة العربية وزعزعت عروش ظلت جاثمة على الشعوب.
لقد زلزلت الثورة التونسية كذلك اغلب الأحزاب السياسية والتنظيمات والتيارات والجمعيات والمنظمات، ووضعت كل واحد في مكانه الحقيقي، وكشفت حدود " النضال من اجل الديمقراطية" عبر الانتخابات التشريعية والرئاسية تحت هيمنة الدولة الرأسمالية التبعية؛ وظلت الجماهير الشعبية والشغيلة يناضلان ويقاومان من اجل تحقيق شعارهما " حرية سياسية – شغل و كرامة إنسانية – عدالة اجتماعية " إلى الآن، أي أزيد من 24 عام، عقدين ونصف.
ومع ضعف انتشار الأفكار الثورية الصحيحة وسط الشغالين والفقراء، جرفتهم موجة الإسلام السياسي بمختلف أقنعته معها، واعتبروا تنظيماته من أفضل ما يوجد بالبلد، مقارنة مع الانتهازيين والليبراليين المزيفين، الذين خافوا من انتخاب جمعية تأسيسية وصياغة دستور جديد وبناء جمهورية ثانية، بينما حركة النهضة طالبت بانتخاب مجلس وطني تأسيسي مما منحها الشرعية الثورية أثناء سقوط الرئيس بن علي رغم يمينيتها ورجعيتها وتوظيفها للدين ومعتقدات التونسيين في سياستها.
واستمرت المعارك السياسية بين كل الإيديولوجيات الموجودة في البلد، بدون وضع حساب للقوى التي دفعت ثمن الثورة، أي الفقراء والمحرومين/ات، في وضع خلقته عقود من الاستبداد والقمع والشرطة السياسية، وواقع يسار جذري مشتت وفاقد للبوصلة وبدون انغراس في كل الجهات التونسية، ووسط الجماهير الشعبية، فقد ظل مسمرا في عاصمة البلد.
الثلاثي" الترويكا" الفعلي والحاكم الحقيقي
وطيلة هذه الفترة ظلت ثلاثة قوى تراقب وتتابع الوضع، أولهما القلة القليلة من الرأسماليين الكبار المسيطرين على ثروات البلد، وثانيهما: بيروقراطية المؤسسة العسكرية التي تحمل السلاح القانوني وتحمي الأغنياء، وثالثهما: البيروقراطية النقابية المتحكمة بزمام الاتحاد العام التونسي للشغل وتساند البرجوازيين.
المسار الثوري يعد بالدقائق
كانت ساعات وأيام الثورة تسير بسرعة وتراكم من الأحداث المعلنة والمخفية والاتفاقية العلنية والسرية التي حددت مصير الفقراء التونسيين، وسطرت مسار ثورتهم/ن بعيدا عن سلطتهم ومراقبتهم.
وبدون ذكرها كلها تجنبا لمنح النص أكثر من حجمه، فهذا الأمر يحتاج إلى كتاب، لكن أهمها ضروري:
ففي 27 فبراير/ شباط 2011 أسقطت الجماهير الثائرة حكومة محمد الغنوشي الذي خلفه الرئيس بن علي، وهو احد أعمدة حكمه، وبعده تشكلت حكومة الباجي قائد السبسي في 7 مارس/ آذار 2011 مباشرة نتيجة اتفاقيات والتزامات، والحفاظ على قسم من حكومة محمد الغنوشي؛ والباجي من مؤسسي الدولة الاستبدادية في تونس والمعجب بالمستبد بورقيبة إلى حد التقديس.
وفي مارس/ آذار 2011 تأسست " الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي" من طرف عدة أشكال تنظيمية أفرزتها الثورة منهما : " لجنة حماية الثورة" و" اللجنة العليا للإصلاح السياسي" وهي تركيبة سياسية غايتها التوافق بين الليبراليين والإسلام السياسي من اجل إيجاد مخرج يفيد مصالح النظام السياسي تحت سيطرة الرأسماليين التونسيين.
في بدايتها ضمت نحو155 شخص، و12 حزبا سياسيا و19 نقابة، وجمعيات ومنظمات وأرباب العمل، وتيارات سياسية من مختلف الإيديولوجيات الموجودة بالبلد.
وأعلنت عن عدة قرارات منها : تكوين " الهيئة العليا المستقلة للانتخابات" وهي هيئة مستقلة ودائمة لها شخصية معنوية واستقلال إداري ومالي، من مهامها : الإشراف والسهر على ضمان الانتخابات والاستفتاءات، واتفقت مكونات" الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاحات السياسية والدستورية" و"الانتقال الديمقراطي" على هدف إقصاء " حزب التجمع الدستوري الديمقراطي" والأشخاص الذين واللواتي ساندوا الرئيس بن علي لترشح للانتخابات.
لكن السلطة الفعلية مع الوزير الأول للحكومة الانتقالية الذي حدد مسار عمله وهو" عدم المس بمصالح الأقلية الرأسمالية الحاكمة في مصير البلد، أي الحفاظ على "هيبة الدولة" يعني بذلك دولة الرأسماليين ومصالح الامبرياليين، وقد همشت حكومته " الهيئة العليا لحماية الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي" التي حملت عدة تناقضات أزمت عملها وتسببت لها في تصدعات. فقد احتج قسم من المعارضين/ات على تعيين الباجي، وأرادوا إسقاط حكومته ونظموا اعتصام بالقصبة لأجل ذلك لكنهم تعرضوا للقمع، وفشلوا في المهمة وانهزموا في المعركة.
وكان من بين الاتفاقيات إلغاء جهاز" امن الدولة" أي الشرطة السياسية زبانية مجرمة ضد المعارضين/ات للنظام السياسي في تونس منذ عهد بورقيبة؛ وقد تحقق حل هذا الجهاز المرعب بقوة الضغط الجماهيري بالشارع؛ ومطلب الإشراف على انتخابات المجلس الوطني التأسيسي وتحديدها في أكتوبر/ تشرين الأول 2011.
الثورة تبحث عن حكومة ثورية
لم تنتزع حقوق الجماهير " حرية – كرامة – عدالة " لماذا؟ لان السلطة الفعلية ظلت بيد القلة القليلة من الرأسماليين المسيطرين على كل ثروات وخيرات تونس، والمحميين من القوى الامبريالية والأنظمة العربية الرجعية، والاقليمية والمدعومين من البيروقراطية العسكرية، وبتعاون من البيروقراطية النقابية بالاتحاد العام التونسي للشغل.
فجل المناورات السياسية وضعت مليون حساب لهذه " الترويكا" الحقيقية والفعلية بعيدا عن أهداف الفقراء والمعدمين في تونس، الذين واللواتي دفعوا ثمن ثورتهم/ن، وخسروها، لأنهم بدون تنظيم، وبدون مال كاف، وبدون سلاح، وبذلك استغلتهم" الترويكا" الحقيقية، وخانهم بيروقراطيي كل من الجيش والنقابة، بعلة حماية " هيبة الدولة" أي دولة مقصودة؟ إنها طبعا دولة القلة القليلة من الرأسماليين/ات، وليست دولة الفقراء.
فمنذ هروب الرئيس بن علي في 14 يناير/كانون الثاني 2011، وتوجهه رفقة أسرته صوب المملكة العربية السعودية ممولة الإسلام السياسي وحاميته، معقل الرجعية، والتي رحبت به غاية الترحيب، فترك السلطة الفعلية بيد الرأسماليين وأجهزة دولتهم، الذين ضحوا به عندما انتهى دوره، وأصبحت إعادته غير ممكنة نهائيا.
بعد هذا الهروب وسقوط رئيس البلد، بدأت التأويلات الدستورية والقانونية بعيدا عن حسابات الفقراء والمعدمين، ومن بين هؤلاء المجتهدون في تفاسير الدستور كان قيس سعيد، وظهر الانتهازيون يجتهدون من اجل خدمة الطبقة الحاكمة بكل أركان الاقتصاد والمال وهو احدهم، وفي الأخير تحت ضغط الإضرابات العامة والاعتصامات والعصيان المدني والمواجهات مع أصناف الأجهزة القمعية، مرت الأمور نحو انتخاب مجلس وطني تأسيسي وصياغة دستور جديد وبناء جمهورية ثانية، ماتت كل الاجتهادات الإصلاحية والترقيعية المتعلقة بالدستور.
هذه الحلقة من سلسلة معارك الثورة التونسية خلفت نتائجها حسابات وكشفت مطامح وفضحت أحزاب وتنظيمات وتيارات وجمعيات، ومثقفين وفنانين ورياضيين وعدد من الأشخاص البارزين/ات على الواجهة العامة.
انتخب المجلس الوطني التأسيسي في 23 أكتوبر/ تشرين الأول 2011، تشكل من نحو 217 عضوا، وكانت كالتالي: 89 مقعدا لحركة النهضة وهي فرع تنظيمي للإخوان المسلمين في تونس. و29 مقعدا لحزب المؤتمر من اجل الجمهورية، وهو حزب يجمع أشخاص حقوقيين وإعلاميين، و26 مقعدا لقائمة العريضة الشعبية للحرية والعدالة والتنمية، وهي لائحة جمعت أشخاص يتحدرون من حركات يمينية شعبية رجعية أسسها محمد الهاشمي الحامدي صاحب قناة " المستقلة" التي تبث من لندن. و20 مقعدا لحزب التكتل الديمقراطي من اجل العمل والحريات، وهو حزب يمثل مجموعة مثقفين حداثيين ليبراليين وديمقراطيين مزيفين.
هذه المعركة السياسية والانتخابية ظلمت لائحة " العريضة الشعبية للحرية والعدالة والتنمية" وتم إقصاؤها، من الرتبة الثالثة بحجج كثيرة منها " استعمال قناة" المستقلة " أثناء الحملات الانتخابية، وبذلك حل محلها الحزب الذي حصل على الرتبة الرابعة.
وبذلك تشكلت" الترويكا" الحزبية الانتخابية تحت سيطرة الإسلام السياسي للإخوان المسلمين الذين وظفوا كل من حزبي " المؤتمر من اجل الجمهورية، والتكتل الديمقراطي من اجل العمل والحريات" وبدأت المعارك من اجل الاستفادة من جهاز الدولة الرأسمالية بين الحزبين بينما حركة/حزب النهضة بزعامة راشد الغنوشي ظلت تعمل من اجل التغلغل في جهاز الدولة وإيجاد أماكن لخدمة الرأسماليين والامبرياليين في داخل البلد وخارجه من منظورها الرجعي.
تم تقسيم المهام في 13 ديسمبر/ كانون الأول 2011 : عين رئيسا مؤقتا للجمهورية المنصف المرزوقي، وهو رئيس حزب المؤتمر من اجل الجمهورية، بعد حصوله على 153 صوتاً من أصل 217. وعين رئيسا للوزراء حمادي الجبالي، وهو من ابرز قادة حركة النهضة. وعين مصطفى بن جعفر رئيسا للمجلس الوطني التأسيسي، وهو أمين عام حزب التكتل الديمقراطي من اجل العمل والحريات، وابعدوا الهاشمي الحامدي من هذه التوزيع.
وزع هذا الثلاثي المناصب الوزارية بينهم حسب ميزان القوى، وكانت الوزارات الأهم والسيادية من نصيب حركة النهضة، وقد تم لهم ذلك بعد إقصاء قائمة العريضة الشعبية؛ وبهذه الصيغة فقدت الثورة تحقيق مهامها الأساسية وفاء لشهدائها، وانتهزت هذه الأحزاب انعدام تنظيمات شعبية ديمقراطية وحزب ثوري يربط سبب وجوده بقضايا الفقراء والمعدمين، ويكون أكثر تنظيما وانتشارا بالبلد.
المعارك السياسية حول الدستور وتأويله لم تنتهي
فقد استمر الصراع على صياغة الدستور بين الحداثيين والليبراليين والرجعيين في الشوارع والساحات والبطحات وداخل المجلس الوطني التأسيسي؛ وقامت النساء التونسيات بمهام كبيرة في حسم المعركة بين الإسلام السياسي والليبراليين القدماء والجدد بمساندة من طرف الجمعيات والمنظمات النسائية والحقوقية والنقابية والتيارات والأحزاب اليسارية الجذرية الصغيرة والضعيفة، هذه المعارك رغم أهميتها لكنها أبعدت المعركة بعيدا عن مسالة الثروات والخيرات منها : الأرض والماء والمعادن والمال والحق في الاستفادة منهم.
ففي هذه المعارك من اجل الدفاع عن المكاسب التي تحققت أثناء تأسيس الجمهورية الأولى في 1955و1956، وبالأخص مجلة الأحوال الشخصية والحقوق المدنية، التي خاضتها النساء التونسيات ببسالة، جندت فيها حركة النهضة اليمينية احد أعمدة الإسلام السياسي كل من يدور في فلكها، واستعملت كل ما لديها من قوة داخل المجتمع التونسي وحتى خارجه بالدول الرجعية والرأسمالية والامبريالية، لأنها تعتبرها معركتها المصيرية ضد ما تطلق عليه " حثالة الفرانكوفونية" هذا الوصف الذي تردد في عدة أماكن عمومية وعبر قنوات إعلامية جماهيرية، أرادت من خلاله كسب تعاطف المتزمتين ثقافيا والمحافظين والتقليدين، علما أن جل اطر حركة النهضة وحزب المؤتمر عاشوا ودرسوا ولجاءوا إلى أوروبا، وبالأخص في باريس ولندن.
ففي أواخر شهر فبراير / شباط 2012، نظم مؤتمر في تونس تحت شعار " أصدقاء سوريا" شارك فيه وزراء خارجية دول جامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي والاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة الأمريكية، وعدد من الدول الإقليمية، وقاطعته دولة روسيا. هذا المؤتمر أزم الوضع السياسي والاتفاقيات والترتيبات المحلية في تونس؛ إضافة إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية والاجتماعية، لان الرأسماليين متحكمين في دولاب الإنتاج والتوزيع والمصارف.
وفي أوائل ابريل /نيسان2012 نظمت مظاهرات من طرف المعارضة والاتحاد العام التونسي للشغل وقمعتها الأجهزة بعنف مما خلق مواجهات ميدانية مع وزارة الداخلية؛ وتم خلق " لجنة تحقيق مستقلة" من طرف المجلس الوطني التأسيسي حول القضية.
وفي فاتح مايو/ أيار 2012 تم تخليد اليوم الاممي للشغالين، وجعله مناسبة للاحتجاج على الحكومة، هذه الأخيرة التي حشدت أنصارها من الإسلام السياسي بجميع أصنافه للدفاع عنها.
وفي يونيو/ حزيران 2012 أعلن عن تأسيس" حركة نداء تونس" بقصر المؤتمرات بالعاصمة تونس، بزعامة الباجي قائد السبسي، وفتحت أبوابها على مصارعها لجميع الليبراليين والحداثيين ومن يدعون أنهم علمانيين وآلاف الانتهازيين ويساريين سابقين تائهين استجابة " للنداء" الذي وضعته الدولة الرأسمالية على أساس خلق توازن في الوضع بالبلد للحد من سيطرة الإسلام السياسي، وبذلك جمع النداء عدد من اطر"حزب التجمع الديمقراطي الدستوري" المنحل مستفيد من خبرتهم/ن الإدارية والتقنية، بغاية إعادة دمجهم تحت مظلة جديدة؛ وقد فهمت حركة النهضة هذا الدور الذي لعبه الباجي قائد السبسي، واحتج عدد من أنصارها على الخطوة بما فيه أمام قصر المؤتمرات أثناء انعقاد التأسيس. وقد استفاد" نداء تونس" من الذين تقلدوا مناصب مهمة في الحكومة الانتقالية، أبرزهم الطيب البكوش، وبدأت المعركة السياسية على واجهة الأحداث حول تاريخ نهاية مهام المجلس الوطني التأسيسي، ومضامين الدستور، وتحديد تاريخ الانتخابات التشريعية والرئاسية.
وفي شهر آب/ أغسطس 2012 أتم المجلس الوطني التأسيسي صياغة النسخة الأولى لمسودة دستور الجمهورية الثانية. وفي منتصف أكتوبر/ تشرين الاول2012 أعلنت الحكومة المكونة عن تاريخ إجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية، وحددت مابين مارس/آذار ويونيو/حزيران 2013، والجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية يوم 7 يوليو/ تموز2013.
وفي أكتوبر/ تشرين الأول 2012 احتجت النقابة الوطنية للصحافة على السياسات المتبعة ونظمت إضراب عام، معلنة أن الحكومة تعمل للسيطرة على الإعلام والصحافة لخدمة توجهاتها غير الديمقراطية.
حددت مهام المجلس الوطني في مدة سنة وتم الاتفاق على ذلك، ولما انقضت المدة، وعدم استجابة الحكومة المنبثقة من المجلس الوطني التأسيسي لهذه المهمة، أصبح لدى الأحزاب والهيئات والتنظيمات حق بالاحتجاج على هذا الالتفاف على زمن الثورة وعدم الالتزام بما اتفق عليه من طرف الجميع، وطلب من حكومة حمادي الجبالي الإعلان عن نهاية مهمتها، والشروع في انجاز الدستور وعرضه للاستفتاء، وتنظيم الانتخابات في اجل محدد في يوم 23 أكتوبر/ تشرين الأول 2012.
الثورة تخلق لجان شعبية ومن سيطر عليها يحدد مسارها
ففي معارك الثورة ضد أجهزة الدولة ونظام بن علي تشكلت لجان شعبية لحماية الأحياء السكنية وممتلكات الناس، وحفظ الأمن والدفاع الذاتي، تم هذا في الأسابيع الأولى قبل وبعد هروب الرئيس بن علي؛ وقد استولت عليها الأحزاب المكونة للحكومة التي انبثقت من المجلس الوطني التأسيسي، وبالأخص كل من: حركة النهضة وحزب المؤتمر الذين حولوها إلى" مليشيات" تابعة لها، توظفها ضد خصومها السياسيين، وفي منتصف يونيو /حزيران 2012 منحتها الحكومة تصريح قانوني، تحت اسم تعددت تصنيفاته" رابطات حماية الثورة" و" رابطة حماية الثورة" و" الرابطة الوطنية لحماية الثورة" حصل هذا في عهد حكومة حمادي الجبالي، وبذلك أصبحت تحت تصرفها، وبدأت تواجه كل من يعارض سيطرة النهضة على الحكم وتنفيذ مشروع الإسلام السياسي والإخوان المسلمين في تونس وبالمنطقة.
ففي 6 فبراير/شباط 2013 ارتكبت جريمة اغتيال سياسي بإطلاق عدة رصاصة قاتلة على رأس وصدر المناضل والزعيم شكري بلعيد أمام بيته باريانة، وهو الأمين العام لحزب الوطنيون الديمقراطيون الموحد، واحد أهم مؤسسي" الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي" وقام بدور أساسي في تأسيس" الجبهة الشعبية" واعتبرها من أهم ما حققه طيلة نضاله السياسي؛ وقد اهتز البلد وتزعزعت الدولة والشعب على اثر الجريمة السياسية، وأعلن حمادي الجبالي رئيس الحكومة عن تشكيل حكومة "وحدة وطنية" وهي مناورة سياسية لتغطية على جريمة الاغتيال السياسي والتصفية الجسدية للمعارضين تحت حكومته، أو تقديم استقالته.
وقد تمسكت حركة النهضة بالحكومة، لكن رئيس الحكومة حمادي الجبالي نظرا لقوة الجريمة قدم استقالته في 13 مارس /اذار2013، بعد مصادقة المجلس الوطني التأسيسي على حكومة علي العريض.
لم تمر سوى خمسة أشهر تقريبا حتى اهتزت تونس مرة ثانية على اثر جريمة كبرى باغتيال المناضل والزعيم محمد البراهمي في 25 يوليو/ تموز2013 أمام منزله باريانة، فقد صب عليه المجرمين نحو 14 رصاصة ،وهو نائب بالمجلس الوطني التأسيسي عن ولاية سيدي بوزيد، والأمين العام لحزب حركة الشعب، التي استقال منها، وأسس حزب التيار الشعبي، وهو قومي عربي من" حركة الوحدويون الناصريون بتونس".
هذه المرة كانت الهزة قوية وشعر الجميع بالزلزال، ففي اقل من نصف سنة يتم اغتيال زعيمين وطنيين مهمين، وفهم رئيس الحكومة، ورئيس الجمهورية، ورئيس المجلس الوطني التأسيسي بان المسؤولية الكبرى يتحملونها، وحاولوا المناورة لكن الشارع كان لهم بالمرصاد، ونظر إليهم بأنهم أعداء حقيقيين للمسار الثوري، ويحمون المجرمين/ات، وان ساعة رحيلهم قد حلت، وقد بدأت الاحتجاجات والتظاهرات ضد الحكومة والمجلس ورئاسة الجمهورية.
فرئيس الحكومة علي العريض تلاحقه عدة جرائم منها قمع سكان سليانة عندما كان وزير داخلية في حكومة حمادي الجبالي؛ ففي أيام 27/28/ نونبر/ تشرين الثاني 2012، استعمل ضدهم القنابل الخانقة والمسيلة للدموع، والرصاص المطاطي، لكن صمود الفقراء والمعطلين ضد أجهزته القمعية كانت قوية، ومن اجل قمعهم وزرع الرعب لديهم/ن، استعمل الرصاص الانشطاري الذي يثقب الجلد، وقد استهدفت قواته عيون ورؤوس المحتجين/ات، وكانوا طالبوا بإقالة والي الولاية لكن الحكومة تمسكت به ضد حقوق السكان؛ وتعددت المعطيات حول عدد الضحايا.
نظمت حركة النهضة احتجاجات بالميادين دفاعا عن حكمها بتنسيق مع حلفائها العلنيين والمخفين بأقنعة متعددة ومختلفة في بداية آب/أغسطس 2013، وقد قامت مع زعيمها وشيخها راشد الغنوشي بجميع المناورات السياسية لحل الأزمة وحماية حكومة حركته.
وكان صيفا ساخنا من جميع الجوانب، فنظمت المعارضة تظاهرات واحتجاجات تطالب بإسقاط ما أسمته" منظومة الحكم" مما جعل حركة النهضة تناور باستعمال شعار " تشكيل حكومة وحدة وطنية" وهي العملية السياسية التي تستعملها الأنظمة الاستبدادية وقت الأزمات السياسية، من اجل ضم الأحزاب البرجوازية والليبرالية والانتهازية للاستفادة من المناصب بجهاز الدولة، وامتصاص الغضب.
كانت أهم الترتيبات للخروج من الأزمة السياسية بعد جريمة الاغتيالات السياسية لزعماء وطنيين هو العناق الحار بين احد أعمدة الاستبداد في تونس الباجي قائد السبسي من العهد البائد وزعيم الإسلام السياسي للإخوان المسلمين راشد الغنوشي، وكلهما خدما بجد لفائدة الأقلية الرأسمالية الحاكمة، و قاموا بقهر وسحق أغلبية الفقراء بدون رحمة ولا شفقة.
حصل اللقاء والعناق بينهما في باريس العاصمة الفرنسية منتصف آب /أغسطس 2013، تم ذلك على حساب دم الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي.
ولما وجدت الحكومة ورئيس المجلس الوطني التأسيسي ورئيس الجمهورية أمامهم باب مغلق، بدأت التنازلات تحت الضغط الشديد، ودماء شهداء وزعماء تونس؛ وبذلك وافقت حركة النهضة التي بيدها تدبير المرحلة على تشكيل حكومة "وحدة وطنية" ومقترح حل حكومة علي العريض في 22 أب /أغسطس 2013، وفي أواخر الشهر نفسه نظمت مظاهرات واحتجاجات عارمة طالبت برحيل الحكومة، وفي الفترة نفسها صنفت الحكومة " أنصار الشريعة" بجماعة إرهابية. وفي أواخر سبتمبر/ أيلول 2013 خضعت حركة النهضة لضغط الشارع وقبلت باستقالة الحكومة، وتشكيل "حكومة انتقالية "مهمتها الإشراف على تنظيم الانتخابات.
هذا الإعلان عن قبول استقالة الحكومة وازته المناورات في التأجيل والتعطيل، لكن المظاهرات والاحتجاجات لم تخفت، ولم تتعب الجماهير كما طمحت حركة النهضة؛ وفي أواخر أكتوبر/ تشرين الأول 2013 انطلقت جلسات رسمية معلنة حول كيفية تنظيم الاستقالة.
هذه العملية احتاجت إلى غطاء سياسي لإيقاف المد الاحتجاجي والسخط على الحكم ومؤسساته؛ وفي بداية أكتوبر/ تشرين الأول 2013 بعد لقاء باريس بنحو شهر ونصف، انطلقت عملية" الحوار الوطني" تحت رعاية أربع منظمات وطنية، وهم: الاتحاد العام التونسي للشغل، والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية، والهيئة الوطنية للمحامين بتونس، والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، أطلق عليه" الرباعي الراعي للحوار الوطني" بمساندة من المنصف المرزوقي رئيس الجمهورية، ومصطفى بن جعفر رئيس المجلس الوطني التأسيسي، لكن الأهم هو علي العريض رئيس الحكومة المطلوب إقالتها، وبرفقة طبعا مهدي جمعة الذي اتفقت أغلبيتهم عليه للقيام بمهمة رئاسة حكومة تعوض حكومة علي العريض، والتحضير للانتخابات التشريعية في 26 أكتوبر/ تشرين الأول 2014، والرئاسية في 23 نونبر/ تشرين الثاني بالسنة نفسها. تشكلت حكومة مهدي جمعة من 29 يناير / كانون الثاني 2014 إلى 6 فبراير/ شباط 2015،و كان تقلد منصب وزارة الصناعة في حكومة علي العريض.
انتخابات ثانية وتحالفات جديدة لخدمة الرأسماليين والامبرياليين
جرت الانتخابات وكانت نتائجها كما يلي: نداء تونس 86 مقعدا، حركة النهضة 69 مقعدا، الحزب الوطني الحر 16 مقعدا، هذا الأخير أسسه رأسمالي كبير سليم الرياحي، وهو من الذين رتبوا " للقاء باريس" بين الباجي وراشد، وحصلت الجبهة الشعبية على 15 مقعدا. وجرت الانتخابات الرئاسية في الجولة الأولى وحصل الباجي على الرتبة الأولى، والمنصف المرزوقي الرتبة الثانية، وحمة الهمامي الرتبة الثالثة، وبذلك حسمت المنافسة بين الأول والثاني، وقبلها بدأت الحسابات داخل هذه الأحزاب والنداءات والجبهات تواجه الواقع السياسي والأوضاع كما هي، وكان الفائز الحقيقي من هذه العملية هي الطبقة الرأسمالية التي تمثل أقلية جد ثرية بينما الفقراء ازدادوا فقرا وحرمانا. وفي الجولة الثانية بعد الحسابات والترتيبات التي جرت في 22 ديسمبر / كانون الأول 2014 فاز الباجي قائد السبسي برئاسة الجمهورية التونسية بحصوله على الرتبة الأولى بنسبة 55.68 بالمائة من الأصوات، وحصل المنصف المرزوقي على نسبة 44.32 بالمائة. ومن هنا بدا الإسلام السياسي الذي تمثله حركة النهضة يتخلى عن حلفائه السابقين وينسج علاقات جديدة مع أعداء الأمس حسب ما فرضه الواقع، لكن جريمة الاغتيالات السياسية في فترة حكمها ظلت تلاحقها، ولم ولن تتخلص منها.
ونتيجة البحث عن حكومة ثورية ظلت أقسام من الشباب متمسكة بالبقاء في تونس، بينما أقسام أخرى اختارت الهجرة القسرية نحو الخارج، وقسم أخر استطاعت الحركات الإسلامية الأكثر تطرفا وإرهابا استقطابه إلى صفوفها، مستفيدة من الثقافة والموروث الديني لدى أغلبية التونسيين والتونسيات.
تشكلت حكومة الحبيب الصيد في 5 فبراير/ شباط 2015، وظهرت الحسابات السياسية للتحالفات الجديدة للإسلام السياسي، وعقدت أمور الحكومة، وبعد الخلافات حول توزيع المناصب الوزارية لمن يخدم الرأسماليين/ات أفضل، تم سحب الثقة من حكومته في 30 يوليو/تموز 2016 بنسبة 109 صوتا من 217.
وكانت بدأت المناورات السياسية حول الاتفاقيات والمعاهدات والعقود تحت شعار" الوحدة الوطنية" و" اتفاق قرطاج" ومحاولة تشريك الأزمة على الجميع، وبذلك حصلت حكومة يوسف الشاهد على ثقة المجلس في 26اب/أغسطس 2016.
عملت حكومة يوسف الشاهد على فتح الأبواب للرأسماليين والامبرياليين لتوظيف أموالهم في البلد واستغلال ثرواتها، والسعي إلى جلب[ البترودولار] من اجل إخراج البلد من ما اعتبروه" الأزمة الاقتصادية" وان مهمة حكومة" الوحدة الوطنية" هو الاستقرار،وهل كان ممكن تحقيق الاستقرار في ظروف البطالة الواسعة وسط الشباب من كلا الجنسين وبالأخص الإناث وغلاء المعيشة وأزمة السكن والنقل والصحة...الخ؟
لقد استمرت السياسات المتبعة وازدادت حياة الناس تدهورا، وتفاقمت المشاكل وتعقدت أكثر فأكثر. وجاءت الانتخابات التشريعية والرئاسية لسنة 2019.
أظهرت نتائج الانتخابية التشريعية 6 أكتوبر/ تشرين الأول 2019 عن نتائج مزلزلة في الضعف الكبير لدى " الجبهة الشعبية" بعدم انغراسها في الأوساط الشعبية كما يحمل اسمها، وعدم انتشارها بكل الأراضي والجهات في تونس، رغم عدد مكوناتها السياسية، بمختلف إيديولوجياتهم؛ وبينت كذلك ضعف المشاركة في التصويت.
وبذلك ظهرت على" الجبهة الشعبية" علامات التفكك، وقد ساهم بذلك عمل البيروقراطية النقابية التي تشكلت من تيارات تنتمي للإيديولوجيات المكونة لهذا التحالف السياسي الذي حمل اسم" الجبهة الشعبية"وساهمت فيها من جهة أخرى، أنشطتها في مجلس نواب الشعب [البرلمان] منذ 2014، لأنها فصلت بين نشاط ثوري في مؤسسة برجوازية عن كفاح ثوري للفقراء والبروليتاريا بكافة الحقول الإنتاجية، والحياة الاجتماعية لأغلبية السكان المحرومين والكفاح الميداني والبناء من التحت للأشكال التنظيمية الشعبية؛ فقد نشطت بقيد وضعته البيروقراطية النقابية بيد الثوريون، وشيدت جدار صلب أمامهم من خلال سياسة" الوحدة الوطنية" و"الانتقال الديمقراطي" وحماية" هيبة الدولة" بسلكها الانضمام إلى" رعاية حوار" يضمن استمرار ظلم الظالم في ظلمه، ونزع سلاح التظاهر والاحتجاج والإضراب العام السياسي من بين أيدي المظلوم؛ وبذلك منحوها "جائزة نوبل" مشاركة مع أرباب العمل.
قبل انتخابات 2019 أعلن حزب" الطليعة العربي الديمقراطي" عن انتهاء" الجبهة الشعبية" وقد انقسمت هذه الأخيرة، فشكل كل من:[ حزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد، ورابطة اليسار العمالي وحلفائهما] شق، وكل من:[ حزب العمال وحلفائه] شق. وانطلق نشاطهم/ن في المعارك القانونية لدى مؤسسات الدولة الرأسمالية الراسخة بقوة المال والسلاح من اجل" الملكية القانونية" لاسم" الجبهة الشعبية" ولمن له الحق الحديث باسمها؟ وقد استقال تسعة نواب في مجلس الشعب من كثلة "الجبهة الشعبية"منتسبين إلى شق حزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد، ورابطة اليسار العمالي، وهي تيار ماركسي ثوري تروتسكي منتسب للأممية الرابعة،وحلفائهما] وترك ستة نواب منتسبين إلى [ حزب العمال وحلفائه]
جرت الانتخابات في 6 أكتوبر/ تشرين الاول2019، وأعلن عن ظروفها كما يلي: عدد الناخبين المسجلين في التشريعية سبعة ملايين وخمسة وستين الف، وثمانمائة وخمسة وثمانون ناخبا [7ملايين و65 الف و885 ناخبا] وعدد المشاركين في عملية التصويت مليوني، وتسعمائة وستة وأربعون الف، وستمائة وثمانية وعشرون ناخبا[ 2 مليون، و946 الف، و628 ناخبا] وعدد الأوراق الملغاة نحو [49الف،و704 ورقة] وعدد الأوراق البيضاء نحو[26 الف،و403 ورقة] وهذه النتيجة توضح ظروف تونس من أين؟ والى أين؟ وان البحث عن حكومة ثورية للثورة سيظل مستمرا إلى ما لانهاية، لان الأصل في القضية هو الصراع الطبقي بين الفقراء والأغنياء الذي يحكم التطور التاريخي لحياة البشر؛ ومن له القدرة على تأسيس نظامه ودولته.
من هذه الأصوات المعبر عنها كانت نتائجها كما يلي: حركة النهضة 52 مقعدا، حزب قلب تونس38 مقعدا، وهو حزب انتهازي قام بدور حزب نداء تونس في المرحلة بعد تفكك هذا الأخير، يتزعمه الرأسمالي نبيل القروي صاحب قناة نسمة الإعلامية؛ حزب التيار الديمقراطي 22 مقعدا، وهو حزب يتحدر اغلب عناصره من المؤتمر من اجل الجمهورية؛ وحزب ائتلاف الكرامة 21 مقعدا، وهو ائتلاف مشكل من عناصر من شلل مختلفة يمينية رجعية تتقاسم أفكار " رابطة حماية الثورة" حزب عنيف وقبيح في تصرفاته؛ الحزب الدستوري الحر 17 مقعدا، تتزعمه عبير موسي عضو حزب بن علي المنحل، حزب" التجمع الدستوري الديمقراطي" الذي حكم البلد من 1987 إلى 2011؛ حركة الشعب 15 مقعدا؛ وحزب تحيا تونس 14 مقعدا، وهو حزب أسسه يوسف الشاهد رئيس الحكومة السابق؛ حزب مشروع تونس 4 مقاعد، حزب أسسه محسن مرزوق احد أعمدة حزب نداء تونس.
فمنذ اندلاع الثورة والناس تنتظر حكومة ثورية ورئيس ثوري للقيام بالمهمة وكما أطلق عليه التونسيين/ات " أهداف الثورة" فهم يقصدون بها في الحقيقة مطالبهم وحقوقهم/ن في الحياة الكريمة في السكن والعيش والشغل والعلاج والتعليم والنقل...الخ، من الأساسية التي تحقق إنسانية الإنسان في بلده ووطنه.
وقد ترسخ في أذهانهم/ن صوت وتعليق في الساعات الأولى بعد هروب الرئيس الرحيل بن علي، وكان هذا الصوت الذي بحثت عنه القنوات الإعلامية الأكثر انتشارا لطرح سؤال:حول ماذا سيحصل بعد ذلك؟ لأنها تعرف حدوده السياسية والنضالية ضد الاستبداد، ومرجعيته المحافظة، خشية من أن تظهر أصوات علمانية وثورية جذرية تريد التغيير الاجتماعي وهدم القديم، وبناء الجديد؛ وكان هذا الصوت المحافظ التقليدي لقيس سعيد.
وبما أن الأنظمة الاستبدادية التي تعاقبت على حكم تونس قبل 2010، اقصد بورقيبة وبن علي استطاعوا أن يحرموا الناس من الحصول على الوعي السياسي الثوري، والتنظيم والتكوين، فقد انجروا بصدق نواياهم مع ما تم ترويجه عبر الإعلام عن قيس سعيد، بأنه صاحب شهادة الدراسات المعمقة في القانون الدولي العام من كلية الحقوق والعلوم السياسية بتونس، وعلى شهادة الأكاديمية الدولية للقانون الدستوري، وعلى شهادة المعهد الدولي في ايطاليا...الخ، وحملات طلبته السابقين/ات بكل من : كلية الحقوق والعلوم الاقتصادية والسياسية بسوسة، وكلية العلوم القانونية والسياسية والاجتماعية بتونس العاصمة على وسائل التواصل الاجتماعي عبر شبكة [الانترنت] لكن الشهادات الأكاديمية شيء، والوعي السياسي الثوري شيء أخر مختلف تماما؛ وقد روجوا بصورة واسعة بأنه غير منتمي حزبيا وتنظيما، وغير متورط في الفساد، وهذا ما جعل الناس يجرفهم تيار قوي هب في ظروف خاصة؛ لكنه منتمي إلى تكريس دولة الأغنياء، لطحن الفقراء، مثل من سبقوه.
جرى الدور الأول للانتخابات الرئاسية في 15 سبتمبر/ أيلول 2019، وتصدر قيس سعيد قائمة النتائج بنسبة 18.4 في المائة، وهو شخص ادعى انه " مستقل" وصدق الناس ذلك، والرتبة الثانية حصل عليها نبيل القروي بنسبة 15.58 في المائة؛ عن حزب قلب تونس، والرتبة الثالثة عبد الفتاح مورو بنسبة 12.88 بالمائة ،وهو احد أعمدة حركة النهضة، والرتبة الحادية عشر المنصف المرزوقي بنسبة 2.27، عن حركة أطلق عليها" حراك تونس الإرادة" وهو رئيس الجمهورية مؤقت سابقا. والرتبة الثالثة عشر منجي الرحوي بنسبة 0.81، عن شق من" الجبهة الشعبية" المنقسمة، وعضو بارز في حزب الوطنيون الديمقراطيون الموحد، والرتبة خمسة عشر حمة الهمامي بنسبة 0.69 وهو من اليسار الجديد ومعارض تاريخي للأنظمة التي حكمت تونس، وكان ناطق رسمي باسم "الجبهة الشعبية" التي انقسمت، والأمين العام لحزب العمال.
أعلن عن فوز كل من قيس سعيد ونبيل القروي، في المنافسة الانتخابات لرئاسة الجمهورية في الجولة الأولى، وكان هذا الأخير معتقل بتهم تتعلق بما أطلق عليه" الفساد المالي" لكن حالة هذا الأخير خلقت أزمة سياسية ودستورية وقانونية للجميع؛ فكل المحاولات لإقصائه من منافسة الدور الثاني فشلت، وكانت مجموعة من رؤساء وأعضاء أحزاب سياسية بمجلس النواب تقدموا بلائحة تطعن بنتائج الانتخابات ضده.
جرت الجولة الثانية للانتخابات الرئاسية في 13 أكتوبر/ تشرين الاول2019، وساندت الأغلبية الساحقة قيس سعيد ضد نبيل القروي، بادعاء انه يمثل "المسار الثوري" و" تتفق حوله كل الأطياف" بينما نبيل القروي يمثل " منظومة الفساد" وكانت نتائجها كما يلي: قيس سعيد الرتبة الأولى بنسبة 72.71 بالمائة، وهي نتيجة لها دلالة واضحة؛ ونبيل القروي بنسبة 27.29 بالمائة.
ففي 23 أكتوبر/ تشرين الأول 2019 أدى قيس سعيد اليمين الدستوري لتحمل مسؤولية رئاسة الجمهورية التونسية، وفي 15 نونبر/ تشرين الثاني2019 كلف الحبيب الجملي بتشكيل الحكومة، وعرضها عليه بشأن اختيار وزيري الدفاع والخارجية كما ينص الدستور التونسي، وقد كان اختيار رئيس الحكومة من طرف حركة النهضة، وهو قريب منها، وشغل منصب كاتب دولة بحكومات حمادي الجبالي وعلي العريض.
ففي أوائل يناير/ كانون الثاني 2020 سقطت حكومة رئيس الوزراء المكلف الحبيب الجملي بنسبة 134 صوتا رافضا لها، مقابل 71 صوتا مؤيد لها؛ وكانت حركة النهضة هي التي اقترحته ودافعت عنه بمساندة من حلفائها الجدد بعدما تفكك نداء تونس، وباتفاق بينهم فاز راشد الغنوشي زعيم وشيخ حركة النهضة، واحد أعمدة التنظيم الدولي للإخوان المسلمين برئاسة مجلس نواب الشعب[البرلمان] وهي المسالة التي تجندت لها المجموعة المحيطة به من داخل الحركة يتزعمها نورالدين البحيري شغل منصب وزيرا للعدل من 2011 إلى 2013،ووزير معتمد لدى رئيس الحكومة من2013 إلى 2014 ؛ولهذا فان رئاسة مجلس نواب الشعب باعتبارها مكانة محصنة من الاتهامات والمتابعات تناسبه، لان رئاستي الجمهورية والحكومة غير مضمونين له، وكان راشد الغنوشي وجماعته يسخرون من نبيل القروي وحزب قلب تونس بتوزيعهم مواد غذائية من المعجنات" المقرونة" ولكنهم بعد هذه الانتخابات والنتائج، تناولها بنهم شديد مع الحلفاء الجدد؛ وكانت لذيذة ومرة بالوقت نفسه.
سقطت حكومة حبيب الجملي المدعوم من الإسلام السياسي وحلفائه الجدد، وبدأت الحسابات، فتم تعيين الياس الفخفاخ في 27 فبراير/شباط 2020 لكنها لم تمضي سوى أشهر قليلة تحت معارك علنية وسرية، وفي 15 يوليو/ تموز من السنة نفسها قدم استقالته، رغم انه خدم مصالح الرأسماليين والإسلام السياسي، وحركة النهضة بجد سابقا، فقد سحبوا ثقتهم عنه بمبرر" تضارب المصالح" وبعد ذلك تعمقت المناورات بما فيه جهاز الدولة الفعلية والأقلية الرأسمالية الحاكمة في الاقتصاد التونسي: الإنتاج والتصدير والاستيراد، والمصارف، والتأمينات، والشركات الكبرى، والعقار والعلاقات التبعية للامبريالية ومؤسساتها المالية الدولية، البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية وغيرهم، وهي أقلية قليلة محمية من البيروقراطية العسكرية، ومساندة من البيروقراطية النقابية التي أصبحت غنية ووضعها الاجتماعي جيد، ولذلك دافعت عنه بارتياح، لأنها تمثل" ارستقراطية نقابية" شريحة تناور مع كلا الطبقتين، فهي مع الأغنياء ومع الفقراء، مع الشغيل، ومع رب العمل حسب ميزان الصراع.
وبعد استقالة رئيس الحكومة الياس الفخفاخ عين رئيس الجمهورية قيس سعيد يوم 2 سبتمبر/ أيلول 2020 هشام المشيشي رئيسا للحكومة وقد سار على الدرب نفسه خدمة الرأسماليين وسحق الفقراء. وبذلك تراكمت المشاكل وتأزمت الوضعية أكثر مما يطاق.
كان مجلس الشعب أمام الجماهير الشعبية عبارة عن صور كاريكاتورية، وفرجة ومسخرة بسبب أصناف البشر الذين واللواتي استطاعوا تشكيل أحزاب بسرعة فائقة والوصول إلى هذه المؤسسة المحصنة بقوة الدستور، وقد وصلت أحداثه إلى درجة من العنف الشديد بين أعضائه، فلم تعد بالسب والشتم والضجيج والمقاطعة أثناء الحديث والنقاش، بل بالضرب والركل العنيف.
ففي 30 يونيو/ حزيران 2021 تعرضت النائبة عبير موسي للضرب العنيف من طرف زميلها النائب الصبحي سمارة، لكن ما هو السبب؟ فعبير موسي من زمرة الرئيس زين العابدين بن علي وكانت مستفيدة من نظامه وعضو في حزبه الذي تم حله، لكنها مساندة من قسم من الأقلية الرأسمالية الحاكمة تحت غطاء الحزب الدستوري الحر، والصحبي سمارة كان مع اليسار الطلابي بالجامعة وتحول إلى متملق لنظام بن علي قبل الثورة، وأصبح في عهده انتهازي ومدافع على الديكتاتورية ضد المعارضين/ت، وبعد الثورة بدأ يتلون مع الفائزين/ت في الانتخابات، وانتخب نائب تحت راية ائتلاف الكرامة، وقد عمل لمصلحة الإسلام السياسي بوقاحة؛ هذه الجريمة النكراء جعلت عبير موسي تتخوذ[ تضع على رأسها خوذة] وقاية من الضرب، وكان المشهد غريبا.
مسار ثوري بحثا عن حكومة ثورية
أوصلت الحكومات والرؤساء المتعاقبين الشعب التونسي إلى وضع مأسوي وفواجع متتالية: بطالة في صفوف الشباب وغلاء معيشة وتجميد الأجور، وإغراق البلد في الديون الخارجية والداخلية، بينما الأقلية التي تتحكم في الاقتصاد التونسي تزداد غناء فاحشا، وقد زاد عمق الأزمة أكثر جائحة كوفيد-19 التي حصدت أرواح التونسيين/ات، في انعدام وسائل صحية كافية لحماية المواطنين/ات من الوباء، وجميع الأمراض، على الرغم من توفر البلد على موارد بشرية جيدة بالقطاع.
ولقد لاحظ السكان ان أغنياء الانتخابات من خلال تشكيلهم للأحزاب من اجل الوصول إلى مجلس نواب الشعب للحصانة يزدادون مع كل فترة انتخابية، فوصل عدد الأحزاب في سنة 2020 نحو مائيتان وأربعة وأربعون حزبا سياسيا[ 244 حزبا سياسيا] في بلد صغير جغرافيا، فمساحة تونس تبلغ 163.610 كيلومتر مربع، وعدد سكانها نحو12.36 مليون نسمة؛ بدون فائدة لهم/ن، وان ممثلهم/ن الحقيقي لم يتأسس بعد؛ فالسكان يعرفون بعضهم، وهذا الثراء الفاحش الناتج عن الانتهازية الانتخابية عبر اصواتهم/ن أصبح أمر مكشوف ووقح، ويجب الانتفاض ضده.
هذه الظروف دفعت الناس إلى تنفيذ الواجب، وبدأ الاحتجاج على السياسات المتبعة، وطالبت بإسقاط الحكومة وحل مجلس نواب الشعب، وقسم منهم توجه إلى مقرات الأحزاب السياسية المساهمة في ذلك، وبالأخص الركيزة الأساسية التي سيطرت على المشهد منذ 2011، وهي حركة النهضة وقد عبثوا بممتلكاتها في بعض الولايات، ودائما الذين يتعرضون للاحتجاج ينسبونه إلى الجهات التي تنافسهم أو"أعداء الوطن". و"أعداء الاستقرار" لأنهم مستفيدين منه.
وقد استغل الرئيس قيس سعيد هذه الأزمة السياسية والسخط الشعبي على الحكومة ومجلس النواب، وقام بعملية سياسية قبل أن تصله شرارة الانتفاضة وتسقطه كما فعلت مع الرئيس الهارب والرحيل بن علي، وهي السياسة نفسها التي نهجها الرؤساء السابقين أثناء مراحل المسار الثوري، فالرئيس المؤقت المنصف المرزوقي عمل مع حلفائه على إيقاف المسار الثوري من خلال شعار" الاستقرار لتحقيق الانتقال الديمقراطي" بغاية تصفية الثورة الاجتماعية ووقفها في الإصلاحات السياسية الطفيفة تحت هيمنة الرأسماليين التونسيين ودولتهم؛ والرئيس الباجي قائد السبسي الرحيل عمل مع أجهزة الدولة والسلطات الفعلية على حماية الأقلية الرأسمالية التي كدست الأموال منذ عهد بورقيبة وازدادت غناء في عهد بن علي تحت شعار الدفاع عن" هيبة الدولة"
فالرئيس قيس سعيد قام بتأويل الفصل 80 من الدستور لفائدته ولمصلحة الرأسماليين وحمايتهم من الغضب الساطع الذي انطلق يوم 25 يوليو/ تموز2021، خوفا من المد الثوري لكي لا يتوسع بسرعة ويضطر إلى استعمال الرصاص ضد الشعب ويفقد الشرعية الانتخابية، فانتهز المناسبة التي لا تعوض وأعلن عن إقالة حكومة هشام المشيشي، وتوليه السلطة التنفيذية وتعينه لحكومة تساعده في المهمة، وترأسه للنيابة العمومية، وتجميد عمل مجلس نواب الشعب، ورفع الحصانة عن النواب؛ وبذلك نجا من السيرورة الثورية التي كانت ستعصف به، وامتص الغضب بتأويل انتهازي للفصل 80 من الدستور، ولكن الانتفاضات الشعبية والثورة قادمة معه أو مع غيره إذا لم تتحقق مطالب أغلبية الفقراء التونسيين/ات.
إن كل من تعاقب على الحكم رؤساء حكومات ورؤساء الجمهورية ورؤساء مجلس نواب الشعب، عملوا كل ما بوسعهم من اجل إيقاف السيرورة الثورية والحفاظ على سيطرة الرأسماليين/ات التونسيين والتونسيات.
أما مسالة هل ما حصل " تصحيحا للمسار" ام " انقلاب على الشرعية" لا فائدة من شرعية تحت ظلم الأقلية الثرية المستمرة في سحق الأغلبية المظلومة، وتصحيح المسار يصح إذا اتجه صوب تأسيس دولة الفقراء المظلومين؛ فقد ظل رئيس الجمهورية التونسية قيس سعيد يردد في كل مكان" الدولة حاضرة وموجودة" طبعا دولة الرأسماليين التي وظفته مثل من سبقوه، ولذلك أنقذها من الخطر الداهم، خطر الثورة الاجتماعية.