ثقلفة الطبلة والزمارة والهيصة
سامى لبيب
الحوار المتمدن
-
العدد: 7279 - 2022 / 6 / 14 - 18:09
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
لماذا نحن متخلفون (94) .
- المشهد البدئي
عندما كنت فى المرحلة الإبتدائية كان لي نصيب طيب من فن الإلقاء والخطابة لأتصدر طابور الصباح منشداً بعض الشعارات والخطابات الخشبية عن الثورة والقومية العربية والإستعمار مقتبساً هذه الخطب من كتابات صحفية ومقولات الزعيم الخالد جمال عبد الناصر .. لأتذكر قيام ناظرة المدرسة بالإشارة لي بالتوقف بعد كل فقرة لتطالب التلاميذ بالتصفيق لأستكمل بعدها وليتكرر التصفيق مرات ثانبة .
بالطبع كنت أنتشي من التصفيق وزهوي بتريدد الشعارات والمقولات الثورية ولكن كان هناك تأمل بسيط راودني يشير إلى الببغائية وإنصياع القطيع ولكني لم أتوقف أمامه كثيراً , وهاأنا أتوقف عنده الآن للإشارة لما نتربي عليه من ثقافة الطبلة والمزمار والقطعان .
- 9و10 يونيه .
يشهد شهر يونيه الكثير من المشاهد الدرامية فى مقدمتها هزيمة مصر الكبيرة المُذلة فى 67 ليليها سيناريو تنحي الرئيس جمال عبد الناصر فخروج جماهير حاشدة تعلن عن تمسكها بالزعيم ورفضها للتنحي .
يتصور البعض أن خروج المصريين الحاشد لرفض التنحي جاء بشكل تلقائي عفوي , ولكن لنا أن تتوقف أمام مشهد شعب تجرع هزيمة منكرة ليتحرك رافضاً تنحي قائد الهزيمة مطالياً ببقاءه , فالأمور لا تعدو سوي قيام من يمتلكون الطبلة والمزمار من قيادات الإتحاد الإشتراكي والتنظيم الطليعي فى حشد الجماهير فى هذا السيناريو .
- موت الزعيم .
شهدت مصر أكبر جنازة في العالم عند وداع الزعيم جمال عبد الناصر لتتصور أن هذا المشهد طبيعي وعاطفي لحب الجماهير لزعيم الامة وهذا صحيح إلى حد ما , ولكن الأمور لم تخلو من حضور أصحاب الطبلة والمزمار الذين حشدوا وأثاروا الجماهير وإن كان هذا تم بدون مجهود يذكر , ليتشابه هذا مع عادة المصريين فى الريف والأماكن الشعبية بإستحضار المعددة التى تقوم بالصويت والصراخ لتُحيي وداع المرحوم ليتبعها النسوة , فصاحبة الطبلة والمزمار قامت بمهمة الحشد والتهييج وهكذا كل مشاهد حياتنا .
.
- 18و19 يتاير 77
فى 18و19 يتاير 77 قام الشعب المصري بمظاهرات حاشدة ضد القوانين الإقتصادية بزيادة الاسعار لأكون مشاركاً وشاهداً على هذه الاحداث بقيامي بالحشد والإثارة عازفاً على الطبلة والمزمار , لأضيف أن اليسار المصري قام بالحشد والتهييج ولكنه فقد السيطرة على حراك الجماهير فإتسمت الأحداث بالتخريب والإنفلات .
- الترحاب بنيكسون .
شهدت مصر أحداث تنم عن أننا شعب يحركه طبلة ومزمار بلا أي وعي لتنساق الجماهير كالقطيع , فتحت رغبة السادات الإرتماء فى الحضن الأمريكي رأينا مشهد إحتفالي فنتازي بترحيب المصريين بالرئيس الأمريكي نيكسون ليتجول فى الشوارع بصحبة السادات وسط جماهير محتفية ليحدث هذا عام 74 بعد عام واحد من دعم امريكي قوي لإسرائيل فى 73 .. فبماذا تفسر طبيعة هذا الشعب التى تربي على العداء السافر لأمريكا في مدارسه وصفحات جرائده وعلي جدران شوارعه وميادينه ليحتفي بنيكسون سوى أن رجال السادات من أصحاب الطبلة والمزمار عرفوا كيف يقومون بحشد القطيع .
- 25 يناير 2011 .
التظاهرات الضخمة التى صاحبت ما يعرف ب25 يناير جاءت نتاج السماح بقوي الطبلة والمزمار على الحشد والتهييج , وهذا السماح جاء نتيجة ضغوط امريكية فى تغيير النظام الذي إحترق أوراقه والرغبة فى إستبداله بنظام إسلامي ليبدأ الحراك بواسطة قوي ليبرالية يسارية ثم يقفز ويسيطر الإسلاميون على المشهد وهو المطلوب تحققه .. فلا تتصور أن السُخط والغضب الشعبي تجاه نظام مبارك هو الدافع الوحيد للإنتفاضة بل عندما قام أصحاب الطبلة والمزمار بالتهييج مع إدراك الجماهير أن الصراخ والصياح آمناً ويمكن ان يتحقق .
- 30 يونيه .
ما يطلق عليه ثورة 30يونيه هو أسلوب ذكي في التعامل مع الطبلة والمزمار فقد تم إستغلال غضب الجماهير من حكم الإخوان فى قلب الطاولة او قل بالأحري تلويح حملة الطبول والمزامير بأن بالإمكان قلب الطاولة , وذلك بالتمهيد بجمع ملايين التوقيعات بواسطة حملة تمرد ليقوم حملة الطبلة والمزمار بإتاحة الفرصة بالصراخ والصياح عن طريق تأمين الجيش والشرطة لحراكهم لتتحرك الجماهير للصياح بأمان وتستحضر الجيش للسلطة .. فلولا السماح لحملة الطبول والمزامير وإستجابة الجماهير لها ما كان هناك تغيير .
- ليست هذه المشاهد قاصرة على الشعب المصري فحسب فهناك حضور دائم لحملة الطبول والمزامير فى كاقة البلدان العربية ليحركوا الجماهير إحتفاءاً بعيد ميلاد الرئيس وبقراراته الكارثية وعداواته المتهورة ألخ ليكون الحضور الجماهيري ليس حباً فى الزعيم وإقتناعاً بسياساته بقدر الرغبة فى الصياح والهيصة .
- نحن شعوب تنتفض ليس من حجم السخط والغضب في داخلها بل إستجابة لمن يمتلك الطبلة والزمارة الذي يستطيع حشد وتهييج الجماهير .
- المفكر الكبير إبراهيم عيسى لا يتوقع قيام المصريين بتظاهرات حاشدة مستقبلاً على غرار 25 يناير ويعزي هذا إلى وعي المصريين بخطورة الفوضي والإذعان للإسلام السياسي .. الأستاذ إبراهيم عيسى مُحق فى توقعاته ولكنه مخطأ فى تفسيره , فالمصريين لن يشاركوا فى تظاهرات حاشدة مستقبلية لعدم وجود اصحاب الطبلة والمزمار القادرين على الحشد والتهييج فقد إعتقل النظام المصري كل من له القدرة على الإثارة والحشد .
- أتذكر مشهد من حياتي فى الفترة الجامعية عندما تم إعتقالي أنا ومجموعة من الرفاق الشيوعيين لعدة أيام وصدقاً لم نتعرض فيها للتعذيب وكل الدعابات الدرامية المصاحبة للإعتقال .. ليجمعنا لقاء مع عقيد من أمن الدولة قبل الإفراج عنا ليقول : هذه قرصة ودن صغيرة ونحن نعلم أنكم مجموعة من المثققين فقط ونحن لا نعاديكم طالما مافي أدمغتكم ثقافة ولكن عندما تتحركوا للتنظيم والإثارة وحشد الجماهير فسيكون لنا معكم شأن آخر .
- تحرص الأنظمة القمعية على إعتقال أى أصوات قادرة على حشد وتهييج الجماهير ليس خوفا من شعاراتهم وبرامجهم بل من قدرتهم على حشد الجماهير وتحريكها .
- أكاد أجزم أن الجماهير تتحرك وتنتفض متى توفرت كوادر قادرة على حشدها وتحريكها فلا تأتي الشعارات والبرامج كدافع لها للحركة وإن كانت الشعارات التى تمس مصالحها تشعل جذوتها ولكن ليست هذه هي الأولوية بل يمكن القول أنها تحتشد وتتحرك وراء اى شعار حتى لو كان تافهاً غير موضوعي طالما سيسمح لها بالصراخ والهيصة والفوضي .
- تبارك الانظمة القمعية أصحاب الطبلة والزمار طالما هي بعيدة عن ذقنها فتسمح بالتعصب الكروي بين قطبي كرة كالأهلي والزمالك بل تسمح بالتعصب الطائفي لتفريغ طاقة العامة بالصياح والصراخ .
-أسباب ثقافة الطبلة والمزمار أن هناك ميراث هائل من القهر والتعايش معه بل إستعذابه وتمجبده , لتفقد الشعوب القدرة على الرفض والإستنكار والصراخ ليكون موقفها هو تفريغ طاقة الغضب والسخط فبمن تطوله أياديها كالنزاعات القبلية والعائلية والطائفية ومن يستطيع حشدها بطبلة ومزمار .
- علاج هذه الحالة المتردية من الإذعان لثقافة الطبلة والمزمار بإنتشار الوعي والجرأة على نقد الذات وكل الإرث الثقافي وما يطلق عليه بالثوابت والتراث ليمتلك المصريين المصداقية والموضوعية فلا ينقادون لشعارات , ولا يكون الصراخ والصياح والجلبة نهجهم ووسيلتهم الوحيدة للتعبير مع كل من يستطيع تهييجهم وإثارتهم بالطبلة والمزمار .
-لابد أن نربي أطفالنا على الصياح والصراخ وفق قناعاتهم ومشاعرهم وليس وفق إملاءات فيكون حراكهم طبيعياً صادقاً فلا يلجأون لمن يمتلك الطبلة والمزمار ليحرك الغضب ويطلق فيهم صراخ وصيحات ببغائية .
دمتم بخير .
لا سبيل لتطور حضاري إنساني فى وجود ثقافة الطبلة والمزمار ومن ينجذب لها طالباً الصياح والهيصة .