رحيل المناضل الكبير خليل كلفت

لم اعتاد أن أكتب نعيا رغم أن كثير من رفاقي و أصدقائي و أقاربي الذي أعزهم قد فارقوا الحياة . و كيف يمكن أن يكتب نعيا عن مناضلا كان أديبا و مترجما و ناقد أدبي و لغويا و نحويا علاوة علي نضاله السياسي و الفكري الماركسي. و كيف أن أكتب نعيا عن شخص معروف كل هذه المعرفة وسط رفاقه و أصدقاءه في مصر و العالم فكثيرين يعلمون عنه و منه أكثر كثيرا مما أعرف. و كيف أكتب عن شخص عرف عنه أخلاصه لوطنه و حبه لناسه و أخلاصه لأصله النوبي و لغتهم و أصولهم القديمة بينما وطنه الكبير و الصغير يواجه كل هذه المخاطر التي تعصف بهما كليهما. و قد أعتدت أن أكتب كي أضيف جديدا ليس لأردد الشائع و المشهور و تعلمت ذلك منه . و تعلمت منه أيضا ما كان يقوله دائما أن علاج الحزن و الإحباط و الألم هو "العمل" هكذا كنا نسمي النضال أيامها .. العمل.

فلننتقل "للعمل" إذا و لا نترك خليل. فما هي مآثره خليل؟ تحتار هنا أيهم تختار لمناضل كان له مثل هذه الحياة العريضة فكريا و ثقافيا و نضاليا . لكنني سأغامر باختيار أمرين أعتبرهما علي أعلي درجة من الأهمية . أمرين لا يعكسا تاريخ الرجل من البداية للنهاية و لكن يعكسا ما ينفع الناس أكثر من أي شيء أخر.

في نظري ألمآثره الأولى لخليل هي دوره البارز -مع قله من رفاق أخرين- في مقارعة الأفكار التي سادت وسط اليسار و الشيوعيين في الخمسينات و الستينات عن الرأسمالية في مصر . أشياء من نوع "طريق التطور اللارأسمالي" و "مجموعة أشتراكية في السلطة" و "السلطة الوطنية" بصرف النظر عن حدودها. كان نقاشا فكريا سياسيا لم تشهد مصر له مثل منذ وقتها و حتي الآن. نقاشا أستفز دوافع التعلم و التعمق في الماركسية و تاريخ اليسار المصري و تاريخ الشعب المصري كله و تركيبه الاجتماعي .كنا نتلهف لمعرفه كل حجة جديدة و نتسابق في الردود و ننتظر من خليل أن يقدم الخلاصة أو كنا نقرأ خليل ثم نتجادل في البرهنة و تقديم حجج جديدة و نقضي أياما في محاولة فهم كل كلمة لخليل و كل صيغه لغوية . هذا النقاش واسع النطاق كان الأسس للحركة الجماهيرية واسعة النطاق من 1968 حتي 1977 الحركة الطلابية العمالية . كان لخليل دورا بارزا في هذا الخضم العظيم . و مكنه سنه من أن يجمع بين الطرفين معرفة التيارات الفكرية اليسارية في الأربعينات و تلك التي ظهرت في أواخر الستينات . بما في ذلك الصراع الروسي – الصيني و النقد الصيني لتجربة الاتحاد السوفييتي. فنقاشنا المحلي كان مرتبطا أشد الارتباط بالصراع الفكري في العالم كله . لم نكن فقط "نصفي حساب الماضي" – كما كان يقول خليل – كنا نضع أسس للمستقبل . و لم نكن نفعل ذلك بعيدا عن أخر صيحات الفكر الماركسي في العالم . عرفنا خليل علي أمثال لوكاش و التوسير و بليخانوف و كاوتسكي و قائمة طويلة كنا نقيم عليها ليل نهار بينما كان لينين هو مرجعنا الأول كان النابغين بيننا يصارعون ماركس في كتبه القديمة و الجديدة . نفتش فيها عن حجة أو أسلوب أو منهج لبناء منظومتنا الجديدة و نفعل هذا و نحن نمارس وسط الناس فلم ينسي خليل أن يعرفنا علي جرامشي . و كان خليل من ورائنا "المدفعية الثقيلة" – كما كان يقول أيضا - و في نفس الوقت لا يتورع خليل عن نقد ما نكتب و لو كانت كلمة خاطئة أو تعبيرا غير دقيق فكل شيء مهم في البناء الجديد. بدون هذا الصراع الفكري السياسي لم يكن ممكنا أن تظهر حركة جماهيرية بهذا الاتساع و العمق في هذا الوقت الصغير . كنا بحارة في سفينة وسط الأمواج و خليل ربانها. و لم ننسي أن ندخل لمجتمعنا و نكتب عن المسألة الزراعية و عن الدولة البوليسية و عن الطبقة العاملة و تركيبها و تطورها و النقابات العمالية . و انهمكنا في مقارعة كبار كتاب النظام من اليمين و اليسار نلاحظ الفروق و الأجنحة و الصراعات وسط الطبقة الحاكمة و تاريخ اليمين الديني و دوره التاريخي . كنا نتصارع ليس مع اليسار أو الشيوعيين فكريا و سياسيا بل مع النظام أساسا . كنا نعرف أن هذا يخدم ذاك و يقدم لنا "الأسس الفكرية" – كان خليل مغرما بكلمة الأسس كثيرا – كي نفضح الرأسمالية و نبني الحجة لطبقتنا كما كنا نسمي الطبقة العاملة. هذه هي ألمآثره الأولي لخليل كلفت

مآثره خليل الثانية التي لا تقل أهمية عن الأولى و ترتبط بها أشد الارتباط هي بناء الكادر. كان و مازال الكادر هو التعبير عن الحزب هو "المادة البشرية" كما يقول التي تجسد الأفكار التي لا تحلق في الفراغ وحدها. الرجال و النساء هم من يصنع الثورة و من يقود الجماهير و من يفكر و يبدع و يناقش و يبادر طالما "أمتلك" الأفكار. و خليل كان بجانب طاقته الهائلة علي "العمل" كان سريع التواصل مع الناس كانت تأتي له بشكل تلقائي ذو حدس غريزي لمعرفة معادن النساء و الرجال و أقدارهم. و لم يكن يكف عن لقائهم و تتعجب كيف يتسع وقته بعد ذلك كي يكتب كل هذا و من أين له وقت ليقرأ كل هذا . كان المثل ملهما للكادر و هو لم يتأخر عن رؤية أصغر عضو أن شعر بأن هناك له ميزه و لم يتأخر عن أقتراح المهام الجديدة التي تناسب هذا أو ذاك . و مع ابتسامته الدائمة و قفشاته و سلاسته في الحديث و اهتمامه الجدي بكل كلمة يقولها أو تقولها محاوره و بناؤوه عليها و تشجيعه للكادر كي يمضي للنهاية و لا يتوقف أمام رهبه فكرة جديدة و في نفس الوقت يستشيرك في أكثر أفكارة طرافه و حداثة . و لم يتأخر عن متابعة أدق تفاصيل العمل الجماهيري و عن دفع العمال لمقدمة الصفوف فهم في النهاية طبقتنا التي نريد أن ننتمي أليها. و لم يتخلف خليل عن مساعده كادره في حل هذه المشكلة الشخصية أو تلك كما لو يتأخر عن نقد صارم لهذا الانحراف الشخصي أو ذاك ثم يمضي الليل يعمل بعدما تكون قد غلبك النعاس. و كما كنا نتصارع خارج الحزب كنا نتصارع داخله و نناقش و ننقد كل كلمة و كل مقال جديد .فربي خليل عبر العمل كتيبه من الكادر صارعهم و صارعوه بعد ذلك . لكنهم جميعا كانوا "الرافعة" – كلمة أخري محببه له – التي نهض عليها بنائنا الحزبي و الفكري و الجماهيري في مختلف المجالات و أكاد أجزم بأن كل واحد و واحدة منهم مدين له بالفضل في هذا الجانب أو ذاك مهما أختلف معه بعد ذلك أو مهما تواري للنسيان تاريخه النضالي.

هذه هي مآثر خليل كلفت التي أخترتها من وسط الكثير الكثير الذي يمكن أن يقال عنه لأننا في أمس الحاجة لهما الآن البناء الفكري السياسي الجديد و الكادر القادر علي صياغته و تحويله لنضال في الواقع و هذا أيضا أفضل تخليد لذكرى خليل كلفت ..

حسن خليل
9 نوفمبر 2015