الثورة بين النظرية و التطبيق
حسن خليل
الحوار المتمدن
-
العدد: 4741 - 2015 / 3 / 7 - 15:37
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
الثورة بين النظرية و التطبيق
لا تقلق عزيزي القارئ فلا أنوي الدخول في قضايا نظرية معقدة فقط أريد
أن أناقش مآل الثورة المصرية و غيرها من ثورات الربيع العربي.
كيف تتحقق الثورة:
في النموذج الماركسي للمجتمع الرأسمالي ينتج فائض القيمة في مجال الإنتاج بينما يتحقق فائض القيمة في مجال أخر ..مجال التداول . فالرأسمالي يأخذ من العامل ساعات عمله غير مدفوعه الأجر لكنه لا يمكنه أن يحصل عليها إلا بعد مبادلتها – كسلع – في السوق. فمجال إنتاج فائض القيمة يختلف عن مجال تحققها. و هكذا في نواحي عديدة في الحياة كمثل أن العلم الذي يحصله الطالب في الجامعة لا يستفيد منه – لا يتحقق – إلا في مجال العمل. و الثورة ينطبق عليها نفس القانون . فالثورة لا تتحقق إلا خارج مجال العملية الثورية نفسها . فالثورة الروسية مثلا تحققت عبر بناء المجتمع السوفييتي الجديد علي أنقاض المجتمع القيصري . فحدث تقدم هائل في الصناعة و العلم و الإنتاج . و بالتأكيد أن هذا التحقق لا يناسب أفكار من قاموا بالثورة الذين كانوا يحلمون بمجتمع تقوده الطبقة العاملة نحو إلغاء الطبقات و تلاشي الدولة. و سواء أسمينا المجتمع السوفييتي الجديد رأسمالية دولة أو دولة عمالية منحطة أو ما شئت من الأسماء فهو بلا جدال مجتمع جديد مقابل المجتمع القيصري . الثورة أطلقت عملية التغيير الاجتماعي لكن هذا التغيير حدث وفق ممكنات هذا المجتمع و ممكنات الصراع الطبقي العالمي أيضا فالمجتمعات ليست جزر معزولة. و في حالة الاتحاد السوفييتي لعب التدخل الأجنبي دورا هاما في تشكيل المجتمع سواء في مرحلة الحرب الشيوعية أو الحصار أو الغزو النازي أو الحرب الباردة. نفس الظاهرة نجدها في الثورة الإيرانية . فالثورة الإيرانية ضد الاستبداد الشاهنشاهي أسفرت عبر عملية تحول اجتماعي عميقة إلي دولة استبدادية رجعية لكنها تختلف كثيرا عن مجتمع الشاة من حيث صراعها مع الإمبريالية و أمور أخري . مرة أخري هذا التحول لا يوازي مطلقا أحلام الشباب الإيراني عام 79 لكنه مجتمع جديد دون جدال رغم أنه رأسمالي مثل مجتمع الشاة تماما لكن يجب أن نتذكر أن الرأسمالية هي أسم عام لمجتمعات متنوعة جدا .كما لو أن الثورة الإيرانية كل ما فعلته هو أنها حررت الرأسمالية الإيرانية من القيد الإمبريالي بعد نقل مركز ثقل الرأسمالية للفقيه و خصمت من إيران مظاهر الحداثة و التمدن. و الثورة الفرنسية حيث الصراع الطبقي بلغ مداه ينطبق عليها نفس الظاهرة تحقق الثورة في مجال غير مجالها الخاص . لكن الثورة الفرنسية تقدم لنا صورة مختلفة بعض الشيء عن النموذج الإيراني و الروسي و هي صورة تكرار الثورات .فعملية التحقق للثورة الأم منقطة بالثورات(ثورات 1830 – 1848 -1871 )أو الانتفاضات الكبري – كما لو أن كلما خفت تأثير ثورة قامت أخري كي تدفع العملية للأمام . و علي مستوي أصغر كان تحقق ثورة 19 المصرية من هذا النوع المنقط بحركات جماهيرية كبري (1935 – 1946 -1952 ).الثورة هي فتح بالقوة لباب التغيير الاجتماعي . و التفسير البسيط للنظرية الماركسية الذي يري أن المجتمع الرأسمالي ينضج داخل المجتمع الإقطاعي ثم تكون الثورة عملية أخراج المجتمع الجديد من القديم كما تخرج الفراشة من الشرنقة هو تفسيرا مبسطا لكنه ليس تاريخي . فالمجتمعات لا تسير وفق مخططات مسبقة و الثورة لا تحدث طبقا لهندسة اجتماعية مسبقة بالإضافة لأنه لا يمكن عزل مجتمع حديث عن محيطه العالمي . فالثورة تحدث ليس فقط ضمن شروط الأزمة الطبقية لكن أيضا ضمن الشروط المخصوصة للعملية السياسية و هذه لا تتطابق مع تلك من الممكن أن نجد شعوبا تثور و لم تترسخ الرأسمالية في تربتها بعد و العكس .
و بشكل عام لا توجد ثورة شعبية سياسية خصوصا لو كانت واسعة النطاق دون تغيير اجتماعي مصاحب لها علي إلا نفهم التغيير الاجتماعي باعتباره استبدال طبقة بطبقة فحسب . فمسار الثورة المصرية مثلا أدي في صورتها النهائية إلي رأسمالية دولة مختلفة كثيرا عن الرأسمالية التقليدية و كبار ملاك الأرض ليس هذا فحسب بل لاتساع عدد و وزن الطبقة العاملة و الطبقة الوسطي رغم أن كلاهما في النطاق التاريخي للرأسمالية.
ما فعلته هذه الثورات الكبري إذن هو أنها بدلا من أن تحرر المجتمع من الرأسمالية حررت الرأسمالية من المجتمع . سواء علي مستوي التخلص من الطبقات القديمة أو الهيمنة الإمبريالية و أيضا القوي الثورية الصاعدة -كما تخلص تحقق الثورة الروسية من جوهر الحزب البلشفي الثوري و تخلص تحقق الثورة الإيرانية من القوي التي صنعتها. هذه الثورات حينما تحققت عبرت عن الحاجة الموضوعية أليس تحرر الرأسمالية من المجتمع-بمعني أنطلاق الرأسمالية لأبعد غاياتها- هو شرط تحرر المجتمع منها؟.و أحب هنا أن أذكر أن للكاتب مقال بعنوان "هل يمكن تجاوز الرأسمالية" يتناول عملية التحول هذه. و لا يجب أن نفهم الأمر هنا بشكل مطلق فالعالم نسبي و هناك عوامل خارج كل المجتمع تلعب أدوارا رئيسية فمثلا في روسيا لم يكن الانتصار ممكنا لولا مساحة روسيا الهائلة حتي تروتسكي المنتصر قال هذا و بالمثل فلولا الغني الكبير لإيران لما كان ممكنا لها أن تبني مجتمع الفقيه الجديد.
أقل من ثورة:
إذا كانت هذه هي خبرة عملية تحقق الثورات فيجب علينا أيضا أن نتناول خبرة عمليات تغيير اجتماعي أقل من الثورات. و أهمية هذه الخبرة لموضوعنا هو أنها حديثة في عالم الرأسمالية المعولمة و أنها أدت لتغييرات ملموسة لكنها ليست واسعة و أن اليسار كان في طليعتها.
منجزات اليسار في العالم في العقدين الماضيين التي تجلت في أمريكا اللاتينية و أخيرا في اليونان بما في ذلك تجربة تضامن البولندية. جمعت بين أمرين أساسيين أولا "حالة الأزمة" في المجتمع ككل بسبب الديكتاتورية و التفاوتات الطبقية و الأزمة السياسية. و ثانيا وجود يسار منظم علي هيئة تحالفات بين مجموعات كبيرة من مختلف أنواع اليسار و متحالف في نفس الوقت مع قوي اجتماعية متنوعة خصوصا النقابات العمالية . و بشكل عام يتميز هذا اليسار بالراديكالية من ناحية و بالبعد عن المفاهيم النمطية و التقليدية للماركسية و المدارس القديمة بشكل عام. "راديكالية جديدة" أن صح التعبير. أما عن الوسائل فقد جمعت بين الاحتجاجات الشعبية – الإضرابات و المظاهرات الخ – و بين الانتخابات فلم تقم ثورة واحدة في كل الأماكن التي تحقق فيها تقدم . و هنا أيضا يدور الصراع الطبقي في مجال و يتحقق في مجال أخر عقب “انتصار” قوي التغيير الاجتماعي. تتميز هذه الخبرة بالتدخل واسع النطاق للإمبريالية العالمية وسط شعوب صغيرة لا يمكنها مقاومة حجم هذه التدخلات خصوصا عن طريق قوي محلية و إعلام مضلل الخ. و بالطبع فأن هذه الخبرة تقدم مجرد إصلاحات اجتماعية محدودة و لا ترقي لمستوي بناء "مجتمع جديد" لكنها تخلق ديناميكية اجتماعية جديدة -أنظر مثلا مثال اليونان و قبلها بولندا الخ -و علي عكس الثورات الكبري لا تؤدي إلي تحطيم قوي التغيير الاجتماعي بل ربما تعزز من مكانتها .و لكنها أيضا توسع المجال أمام الرأسمالية و أن علي نطاق أقل كثيرا من الثورات الكبري . فروسيا بثورتها نقلت رأسماليتها لمركز التنافس من كبري الدول الإمبريالية مثلا لكن البرازيل فقط عجلت حركتها الاجتماعية بنشاط "البزنس" ليرتفع ترتيبها بين الدول الرأسمالية الكبري.
الثورة و الدولة:
الثورة هي تحدي الدولة هي نقيضها و الدولة هنا تعني جهاز القهر الطبقي و ليس البلد أو القطر . و كلما كان جهاز الدولة قويا و متماسكا كلما ذادت قدرته علي سحق الثورة. و نظريا فأن الثورة تحطم الدولة كي تعيد بناء جهازها الخاص – حتي كثير من الاناركيين اليوم يرون ضرورة وجود جهاز دولة من نوع ما علي الأقل في أعقاب الثورة- و كلما كان تحطيم جهاز الدولة واسعا و إعادة بناءه شاملة بقدر ما يكون التغيير الاجتماعي واسعا . الثورة الروسية حطمت جهاز الدولة و بنت جهازا جديدا و كذلك الإيرانية . لكن في كلتا الحالتين لم نري نمطا جديدا للإنتاج ينجم عن هذه العملية . فالتحطيم و البناء نابع من العملية الثورية و في مجالها أما نمط الإنتاج الجديد -إذا حدث- فينبع من مجال التحول الاجتماعي الذي يعقب الثورة و يسبقها أيضا. أما مجتمعات حركات التحرر اليسارية الجديدة التي قامت بأقل من ثورة فلم يمكنها طبعا أن تحطم جهاز الدولة و لكنها نجحت في أحيان كثيرة في بناء أجهزة موازية أقل كثيرا من أن تناطح جهاز الدولة . أجهزة من نوع محليات و قوي شعبية مختلفة حسب الحاجة مما عرف ب "الديمقراطية التشاركية".
و في مجتمعات متخلفة مثل ما لدينا يلعب جهاز الدولة دورا واسعا في البنيان الاجتماعي و ليس فقط في الأدوار التقليدية للدولة – القمع و الأدوار الثانوية الأخري – فالدولة تكاد تكون هي الأب الشرعي للرأسمالية في مجتمعاتنا. و في المجتمعات المتقدمة ظهرت الرأسمالية طويلا قبل أن يتطور جهاز الدولة بل كانت الرأسمالية هي الأب الشرعي لجهاز الدولة الحديث رغم أن الدولة كانت و مازال هي راعي الرأسمالية . علي العكس مما جري عندنا. و يمكننا أن نلاحظ أن ثورات المجتمعات المتخلفة – هشه الرأسمالية – يلعب جهاز الدولة دورا حاسما في خلق المجتمع الجديد الذي ينشأ عقب الثورة هذا ما حدث في روسيا "المتخلفة" و في إيران أيضا و هو نفسه ما حدث في مصر عبر مسلسل 19 – 52 حتي لو كان جهازا جديدا من صنع الثورة نفسها. جهاز الدولة الجديد بعد الثورة يستأنف نشاط ذلك القديم في ترسيخ الرأسمالية و توسيع مداها و بناء المجتمع الجديد.
متي يتم الانتقال من مجال الثورة لمجال تحقق الثورة؟
إذا كنا نعترف بأن العملية الثورية تدور في مجال بينما عملية تحقق الثورة في مجال أخر . و أن القوانين التي تحكم الثورة تختلف عن تلك التي تحكم تحققها فيصبح سؤال متي يتم الانتقال من هذا المجال إلي ذاك؟ يجري تحقق الثورة منذ اليوم الأول لها عبر الإجراءات التي تتخذها لتحقيق أهدافها الكبري لكن هذه الإجراءات لا تفعل فعلها طبقا لما يتصوره الثوار بل طبقا للواقع الاجتماعي فهناك تداخل بين المجالين منذ اليوم الأول. و ما أن تتراجع العملية الثورية بفضل القمع أو الهزيمة أو حتي الانتصار حتي يصبح مجال تحقق الثورة -التي تحرر الرأسمالية من المجتمع – مفتوحا واسعا كما رأينا و سوف نتناول تطبيقا لهذا علي الثورة المصرية ثورة يناير.
هل هذا يعني أن الثورة لا تحقق الحرية و العدالة؟
النظرية الخيالية عن الثورة تصورها كعصا سحرية يمكنها نقل المجتمع من حال لحال. و هذه فكرة خرافية. خذ مثلا قضية الديمقراطية في مصر (و أتناولها هنا بالمعني الليبرالي البرجوازي) هل يمكن أن تكون مصر ديمقراطية بشكل حتي يماثل ما كانت عليه في العشرينات حتي لا نقول تماثل أوروبا الغربية؟ الحالة العامة للشعب – الأمية و الفقر الشديد – عائق أمام التحول الديمقراطي و هذا أيضا كان قائما في العشرينات لكن الفارق الكبير هو ثلاث أمور أولا في العشرينات كانت هناك قضية محورية و هي الاحتلال التي تشكل إجماع شعبي و هو أمر ضروري لأي ديمقراطية ثانيا أنه كانت هناك مؤسسات شعبية – أحزاب نقابات جمعيات – و كلها نفتقده الآن و هذه هي أدوات الديمقراطية. ثالثا أن في العشرينات كانت هناك نخبة حية و مثقفة لم تري لها مصر مثيلا مذاك (مع أي تحفظات). بينما نخبتنا الآن ليست ديمقراطية حتي في الأحزاب اليسارية ذاتها . و لا شك أن الاستبداد السياسي و النهب المنظم و رأسمالية المحاسيب مسئولة عن هذا "التجريف" و أنهاك و المجتمع و تحلله. و لا يمكن تصور أن ثورة يناير كان يمكنها تغيير هذا الواقع غاية ما يمكنها هو فتح الباب أمام التغيير . فحتي الثورة و شهدائها و معاركها لا يمكنها القفز فوق الواقع الاجتماعي . و ليس معني هذا أن الثورة لم تسهم في التغيير الديمقراطي فهزيمة نظام الاستبداد و الفساد و الرجعية الدينية مقدمة ضرورية لا غني عنها لأي تطور ديمقراطي.
التدخل الإمبريالي:
يتميز عالمنا بهيمنة إمبريالية شاملة عبر مؤسسات كبري و قوي عسكرية و إعلام عالمي و قدرات تكنولوجية غير مسبوقة. و كل حركة ثورية حتي ولو جنينية تستثير ردود فعل متنوعة من القوي الإمبريالية بل و حتي تلك الإقليمية . بل أن الإمبريالية و القوي الإقليمية قد تصطنع حركة ثورية زائفة لتحقيق أهداف خاصة في الصراع الجيوسياسي في مختلف المناطق كما رأينا بوضوح في أوكرانيا و فنزويلا من أيام. و التدخل الإمبريالي و الإقليمي واسع النطاق في سوريا و ليبيا و اليمن و العراق و مصر بأشكال متنوعة ينتمي لهذه الحركات الثورية الزائفة ما نسميه ب "الثورة المضادة" مثلها مثل النظام القديم و حتي أشد رجعية و تخلفا منه.
و أفظع أشكال التدخل الإمبريالي كانت الجريمة التاريخية في حصار و احتلال العراق حيث قتل عددا كبيرا جدا ربما أكثر من مليون من العراقيين – يتجاوز أي شيء فعلته داعش بمراحل – لكن الاحتلال فشل رغم ذلك بسبب كلفته العالية جدا بشريا و ماديا – مع ملاحظة أن الشعب الأمريكي نفسه كان ضد احتلال العراق قبل أن يبدأ- فكان لابد من اختراع أسلوب أرخص تكلفه ماديا و بشريا للهيمنة علي المنطقة. و الثورات و الحركات الاجتماعية الكبري تسمح بالتدخل الإمبريالي حيث تضعف مقاومة كل من النظام و القوي الثورية. و التيار الديني اليميني الرجعي ذو الطبيعة الفاشية كان علي استعداد لأن يقدم خدماته سواء مباشرة أو عبر الوسطاء الخليجيين. و للأسف فأن كثيرا من الكتاب يتجاهلون هذا الجانب أو يتناولونه بسطحية.
و التدخل الإمبريالي بوسائل مختلفة سواء "خشنة" أو "ناعمة" ليس ظاهرة جديدة . فعقب الحرب العالمية الثانية تدخلت الولايات المتحدة في فرنسا الجبهة الشعبية و إيطاليا الحرب الشيوعي عن طريق شراء نقابات و صحف و أيضا الاغتيالات كما تدخلت علي نحو أشد عنفا في الحرب الأهلية اليونانية . و ربما الآن حيث ثورة الاتصالات و هيمنة إعلام الاحتكارات أصبحت سبل التدخل أكثر تنوعا و ذكاء و لكنها تجري ضمن نفس الظاهرة القديمة المألوفة.
لكن التدخل الإمبريالي في عالم أزمة الرأسمالية العالمية و صعود قوي إمبريالية جديدة أصبح مقيدا لحد ما فالنظام السوري استطاع الصمود هذه السنوات بفضل الدعم الروسي و الإيراني بينما محمد علي الذي بني دولة أقوي كثيرا بمعيار أيامها تم سحقه سحقا فلم يكن هناك من يدعمه. فلا ثورة تتحقق في عالم خاص معزول و منذ يومها الأول يطرح عليها سؤال معقد أن وقفت ضد النظام القديم فهل لا يؤدي هذا لدعم التدخل الإمبريالي أو القوي الأشد رجعية الأخري؟ أصبح سؤال الثورة شئنا أم أبينا سؤالا مركبا ليس فقط متعلقا بالسلطة المحلية . و أذكر هنا أن لينين تحالف عمليا في لحظة معينة مع كيرنسكي ممثل النظام الذي كان يحاربه لينين رغم أنه كان مطاردا من كيرنسكي نفسه!! تسطيح سؤال الثورة لا يدعم الثورة بل يدعم أعدائها و سوف نعرض لهذا أكثر لاحقا.
الثورة المصرية:
تميزت الثورة المصرية بأنها من الناحية الموضوعية تتكون من تحالف تيارين أو قوتين طبقيتين و هما قوي البرجوازية الصغيرة الديمقراطية بنت الطبقة الوسطي و قوي شعبية – عمال و فقراء مدن – هذا التحالف الموضوعي ظهر بشكل تلقائي في ميادين الثورة . و بينما ركزت قوي الطبقة الوسطي علي مقاومة الاستبداد السياسي فأن القوي الشعبية ركزت علي إعادة توزيع الثروة. و في أعقاب الثورة حدث أنشقاق وسط هذا التحالف بسبب غياب قيادة سياسية ناضجة للثورة -و هنا يجب أن نؤكد علي أنه كانت هناك قيادة للثورة من شباب صغير السن قليل الخبرة السياسية –. و قد شاركت في عملية الثورة أيضا الرجعية الدينية ممثلة في الإخوان و حتي بمعني معين البيروقراطية العسكرية بتخليها عن مبارك. و تاريخ الثورة هو تاريخ الانشقاق بين التيارين الشعبيين مع التقاء مؤقت في 30 يونيو . و قوي الثورة المضادة هي أيضا من تيارين الأكبر و هو البيروقراطية العسكرية و الأصغر و هو تنظيم الإخوان كل يعبر عن شرائح في الرأسمالية الرثة التي تحكمنا.و مقابل الانشقاق في جانب الثورة حدث التقاء في جانب الثورة المضادة. فقد كانت سياسية كلا التيارين بمباركة أمريكية تعتمد علي التحالف بينهما من أجل الالتفاف علي الثورة. و يظهر تاريخ تحقق الثورة في الحالة المصرية أيضا تحرر الرأسمالية من المجتمع.
التدخل الأمريكي في منطقتنا أو بالأحرى استمراره في عصر جديد اعتمد علي قوي الإسلام السياسي و الطائفية كوسيلة للهيمنة علي المنطقة كجزء من المخطط العالمي . و قد ظهر هذا بكل وضوح فور احتلال العراق و تقسيمه طائفيا . و علي هذا المنوال فالثورة فتحت الباب للمخطط الأمريكي كي يتمدد لمصر و غيرها فانحازت للإخوان انحيازا واضحا-بالذات لأنهم الطرف الاضعف في بناء الرأسمالية المصرية- و هكذا دخلت في صدام مع البيروقراطية العسكرية. و لم يكن ممكنا للبيروقراطية أن تقبل بالشروط الأمريكية لأنها تعني نفيها هي نفسها . و هكذا فتح تحقق الثورة الطريق للطبقة الرأسمالية للتحرر و لو النسبي من الهيمنة الأمريكية الشاملة التي سادت لأربعة عقود .
قيادة الثورة لم تكن من التوحد و من الوعي بحيث تسعي جاهدة للمشاركة في السلطة و لم تدرك أن الثورة هي السلطة. لكن أهم أخطائها هو سماحها بانفضاض التحالف بين القوي الشعبية بل أن كثير من هؤلاء اعتبروا أن الثورة هي الشباب و أن الشباب هم تلك المجموعة من القوي الديمقراطية و هكذا فقدت قاعدتها الاجتماعية بدلا من أن توسعها بل أن بعضها انحاز صراحة لليمين الديني – انتخابات مرسي – مما يكشف عن غياب كل رؤية طبقية لديها. و استمر هذا التخبط بل اذداد مع كل منعرج حتي أصبحت قيادة الثورة تشارك مع النظام في عزل نفسها . و يبدو مؤخرا أن إهمال تلك القوي للإرهاب و أحيانا حتي الميل أليه حضيض جديد لها . و هكذا خلص تحقق الثورة الرأسمالية من القوي الثورية و بمعونة منها نفسها
الإخوان لم يشارك الإخوان لا في صناعة الثورة و لا حتي في أيامها الأولى ألتحقوا بها بعدما أتضح حجمها و سارعوا للتحالف مع البيروقراطية العسكرية للالتفاف علي الثورة . و بعدما أنهك المجلس العسكري في الصراع مع قوي الثورة و بعدما أتضح الدعم الأمريكي الكامل للإخوان فض الإخوان تحالفهم مع العسكري و قرروا المشاركة في الانتخابات الرئاسية. و ما أن وصل مرسي للسلطة – بدعم من بعض من قوي الثورة المغيبة طبقيا – كان توجه الإخوان هو السيطرة علي كل أجهزة الدولة و الاستعداد للحرب الأهلية إذا اقتضت الضرورة. لكن تحقق الثورة كان يمنع سيادة تلك القوي الرجعية التابعة علي الرأسمالية . و هذا ما حدث فعلا .
البيروقراطية العسكرية ما أن تولت البيروقراطية العسكرية الحكم في ثورة يناير عملت علي عودة النظام القديم و تجنبت الدخول في معارك واسعة مع الثورة و تحالفت مع تنظيم الإخوان حتي أثناء الثورة ذاتها. ثم أنفض هذا التحالف حينما قرر الإخوان فضه و السعي لمركز الرئاسة عكس ما وعدوا به. و خضعت البيروقراطية مؤقتا للتوجيه الأمريكي خوفا من الحرب الأهلية .و تركزت استراتيجيتهم علي تشجيع الانتفاض ضد الإخوان و هكذا وصلنا للحظة 30 يونيو التي مثلت تحالف واسع النطاق بين البيروقراطية و القوي الديمقراطية و مجمل الشعب. و كان طبيعي بعد ذلك أن تبادر البيروقراطية إلي فض هذا التحالف عبر قانون التظاهر.فم تكن القوي الديمقراطية تستند لحلف شعبي قوي. بل علي العكس انتقل مركز الثقل الشعبي للجيش رغم أن في 30 يونيو الشعب هو من حمي الجيش و ليس العكس. و شكل الإرهاب الإخواني الداعم الرئيسي للبيروقراطية فالشعب أصبح الأمن هو مطلبه الأول و ليست الحريات السياسية و العدالة الاجتماعية علاوة علي الخوف من أنهيار الدولة ذاتها كما في دول محيطة.و قد ساهمت هذه الحالة الغريبة في إحباط واسع و حالة من التخبط بين قوي الثورة. فهي أقرب للديكتاتورية عسكرية معززة بدعم شعبي. و هكذا تحررت البيروقراطية من ضغط القوي الشعبية و الديمقراطية كي تمارس حملة واسعة من الاستبداد السياسي و الاقتصادي . و بادرت البيروقراطية أيضا متمتعة بدعم الخليج الخائف من أنهيار مصر للانفتاح علي الصين و روسيا و تعزيز مكانتها الدولية رغم الضغوط العنيفة الأمريكية و الأوروبية.
وقفة عند الدستور
كشفت لحظة صناعة الدستور و الاستفتاء عليه عن مدي التخبط الذي تعاني منه ما يسمي قوي الثورة . فالدستور وضعته لجنة الخمسين التي ضمت قوي ديمقراطية تعبيرا عن تحالف 30 يونيو . و بالطبع القوة الأكبر في هذا التحالف هي البيروقراطية العسكرية. و هذه اللجنة انتجت دستورا به بعض الإصلاحات الديمقراطية. لكن قوي الثورة قارنت هذا الدستور بما تتخيله عن دستور تضعه هي وحدها فهو ليس "دستور الثورة" كما لو أن الثورة حازت السلطة !! و بالإضافة لذلك تأثرا بموقف الإخوان و الأمريكان من قضية الدستور. بل أن أحدهم رفض الدستور الجديد لأنه دستور رأسمالي كما لو أن هناك دستور في العالم ليس كذلك !! هذا المستوي من التخبط و فقدان رؤية الصراع الطبقي الجاري ساهم في عزل قوي الثورة – أو ما يسمي كذلك – عن الحياة الفعلية
الوضع العام في المنطقة شهدت سنوات الثورة الأربعة تصاعد في مستوي التحلل و الصراع في المنطقة ككل. في العراق و سوريا و اليمن و ليبيا و غيرها. و التدخلات الإقليمية و الإمبريالية لعبت دورا كبيرا في هذه الحالة لكنها من الناحية الأساسية نتاج للتحلل الاجتماعي تحت وطأة الاستبداد السياسي و الفساد و الإفقار . و يجب ألا ننسي أن الثورة كان لها دوافع وطنية واضحة و أن الناس خرجت كي "تنقذ البلد" من كابوس الفقر و الاستبداد.
سؤال العصر لكننا لسنا في مطلع القرن العشرين حينما قامت الثورة الروسية و لا حتي في السبعينات حينما قامت الإيرانية . بل نحن في عصر جديد تماما هو بحد ذاته ثورة كبري علي الهيمنة الرأسمالية الشاملة و لا يمكن فهم ثورتنا دون فهم الثورة العالمية سواء علي مستوي التكنولوجيا أو الأزمة المالية العالمية أو إعادة ترتيب القوي العالمية. فموجة الهجوم الإمبريالي التي بدأت في السبعينات قد انكسرت و نحن في بداية تصاعد ثوري بحكم تبدل موازين القوي في العالم.
لكن الثورة لم تهزم رغم ذلك
لكن الثورة المصرية علي عكس الروسية و الإيرانية لم يبلغ فيها الصراع حده الأقصى و لم تنجح قوي الثورة فيها في تسلم السلطة – حتي في إيران فأن قوي الخميني شاركت في صنع الثورة – و لم تجرؤ فيها أيضا قوي الثورة المضادة و خصوصا البيروقراطية العسكرية أن تسحق قوي الثورة سحقا خوفا من تفجر الثورة مجددا و أكتفت ب "قضم" هذه القوي جزء جزء . و أيا كانت الخسائر فروح الهزيمة لم تصل لا للثورة و لا للشعب . بينما في الحالة الروسية تكفلت الحرب بابتلاع الكادر الثوري و العمالي الذي صنع الثورة و في إيران قامت سلطة الخميني بنفس الشيء. و عمليا لحق دمار واسع بروسيا و إيران في سياق الثورة فمثلا لم تعد روسيا لمستوي إنتاج عام 1917 إلا عام 1928 نفس الخراب لحق بإيران خاصة إذا حسبنا الحرب العراقية – الإيرانية التي استهلكت مليون روح . و الخراب الذي لحق بمصر أقل من ذلك كثيرا . و كذلك مستوي تحقق الثورة الذي رصدناه سابقا . و قد تكفل الإرهاب بتوقيف التفاعل الاجتماعي بين الثورة و أعدائها.
دور الثوري :
فما الذي كان سيفعله تروتسكي لو علم أن عبقريته العسكرية أثناء قيادته للجيش الأحمر و هزيمة الرجعية و التدخل الأجنبي أنما ستسفر عن بناء النظام الذي أطلق عليه هو نفسه الرصاص في المكسيك و ما الذي كان سيفعله الشاب الإيراني اليساري الذي ناضل ضد الشاة أنه أنما يبني المشنقة التي سيعلق عليها حينما يأتي حكم الخوميني . و نحن هنا لا نتكلم عن ثورات فاشلة بل ثورات ناجحة أشد النجاح هزت العالم بأسره و أبهرته و بنت مجتمعا جديدا. السؤال متعلق بالعملية الثورية التي تجري في مجال و عملية تحقق الثورة التي تجري في مجال أخر. و نحن هنا أيضا لا نتكلم عن مصير أفراد مهما كان دورهم هائل في التاريخ و أنما نتحدث عن مصائر الثورة التي وهبوها حياتهم و قدراتهم بلا تحفظ .
لكن تضحيات ملايين الثوريين قادة و عامة لم تكن بلا طائل علي العكس تماما كانت ثوراتهم ضرورة كي تنتقل مئات الملايين لوضع أرقي اقتصاديا و اجتماعيا و سياسيا ضمن شروط المجتمع المحلي و العالمي كل ما في الأمر أن أحلام الثوريين لم تتحقق كما هي تحقق منها أقصي ما يمكن أن تسمح به هذه الشروط.
يجب أن يعترف الثوري بأمانة أمام نفسه بأنه لا يوجد "حل نهائي" لا توجد نهاية للتاريخ . فالثورة التي ستطيح بالنظام الرأسمالي و تأتي بنظام اشتراكي -و هي الثورة التي لم تحدث حتي الآن- لن تكون المحطة النهائية للتاريخ و لن تأتي بالمدينة الفاضلة . فحتي في حالة النجاح الأقصى للثورة فأن تحققها قضية أخري تتعلق بمجال أخر.
القضية الأكثر محورية الآن بالنسبة للقوي الثورية هي بناء تحالف شعبي من العمال و المثقفين و الطبقة الوسطي المدينية هذا التحالف هو القاعدة الضرورية لبناء سياسة ثورية جديدة
حسن خليل
7 مارس 2015