نظرة متفائلة
حسن خليل
الحوار المتمدن
-
العدد: 4812 - 2015 / 5 / 20 - 22:19
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
إذا تركت الأحداث اليومية و نظرت من أعلي ستجد أن عوامل الهدم و التدمير و الموت في النهاية تعمل بنشاط في منطقتنا منذ 40 سنة التدمير الاجتماعي عبر الإفقار و الاستبداد و الشرذمة و التدمير الاقتصادي و الأخلاقي و الثقافي . ثم تكاتفت عوامل التدمير لتواجه الثورة و الانتفاضات الشعبية الرافضة لهذه الفوضي التدميرية لنصبح في قلب عاصفة تدميرية كبري . النظام الرأسمالي نظام فوضوي التدمير جزء من بنيته الأساسية فهو يعتمد البناء ثم البناء المفرط حتي لحظة معينة لفائض الإنتاج – و فوضويته – لتبدأ مرحلة التدمير – لنفس ما تم إنتاجه من قبل – عبر الكساد و البطالة و الحرب . مثلا نحن أعتدنا أن نقول أن مصر كانت تسبق كوريا الجنوبية في الخمسينات لكننا ننسي أن كوريا الجنوبية شهدت مرحلة تدمير واسعة النطاق لم نعرفها نحن في الحرب الكورية و ما تلاها من احتلال . عملية التدمير مثل حرق قش الأرز و حرائق الغابات خطوة في طريق إعادة البناء. لكن التدمير الحالي لا يعني بشكل آلي مرحلة قادمة من البناء و الحياة ربما مرحلة طويلة ممتدة من التدمير . ففي ظل العثمانيين عرفنا 5 قرون متتالية من التدمير و الظلامية حتي أنخفض عدد السكان ل 2 مليون بينما كان قبلها 8 مليون. المهم هنا ألا نصبح أسرى لعملية التدمير و أن نري دورها التاريخي الذي يمكننا – علي الأقل نظريا – من تجاوزها .
الملاحظة الأولي هي العودة للماضي : القوي المشاركة في عملية التدمير من كل التوجهات موقفها الرئيسي هو العودة لنقطة سابقة في التاريخ . عودة الأنظمة لوضعها قبل لحظة التدمير و قوي طائفية ظلامية تريد العودة بعيدا للحظة خيالية في التاريخ لم توجد إلا في المخيلة و حتي قوي ثورية تريد العودة لوضع سابق حينما كانت مجتمعاتنا في لحظات الصعود و البناء . نحن إذا إزاء سباق للعودة . و الإنسان لا يمكنه إلا استدعاء الماضي في مواجهة قضايا الحاضر فهذا هو معني الخبرة التاريخية . لكن هذا الاستدعاء أما يكون لإعادة بناء ما سبق – و هو أمر مستحيل – أو للاستفادة من دروس الماضي لبناء شيء جديد تماما .
الملاحظة الثانية هي تقلص القاعدة الاجتماعية : سواء علي المستوي المحلي أو العالمي . فنظام عبد الناصر مع قاعدته من الطبقة الوسطي و العمال تحول للسادات و قاعدته التي تمثلت في جزء من الطبقة الوسطي و حتي الحرفيين المستفيدين من لحظة الانفتاح و الهجرة وصولا لنظام مبارك الذي هو مجرد طغمه بلا قاعدة اجتماعية و متصارعة علاوة علي ذلك . عالميا فأن نظام القطبين المتوازن لحد ما لنظام القطب الواحد الاستبدادي و العسكرتاري علي المستوي العالمي . إقليميا من توازن بين نظام عربي و إسرائيلي و تركي و أيراني لوضع إقليمي لم يتبقى فيه سوي المنظومة الإسرائيلية . فالتدمير ناجم عن التمرد ضد الاستبداد المحلي و العالمي و الضغط – العسكري في الغالب – للحفاظ علي هيمنة الطغمة العالمية و المحلية و الإقليمية. كل حل لا يستوعب هذه الوضعية الجوهرية علي أي مستوي لابد أن يكون حلا مستحيلا . فمن المستحيل العودة لنظام مبارك أو الأسد أو القذافي و لا يمكن العودة للهيمنة الأمريكية الشاملة . فحتي ضمن كل منظومة سابقة تشققات عنيفة نتيجة التمرد . و هو ما يفسر مثلا صراع الإخوان مع النظام في مصر و غيرها و حتي بين الخليج و أمريكا . فالتمرد من أسفل يفتح الباب لإعادة ترتيب نسب القوى بين منظومة الاستبداد.
الملحوظة الثالثة هي أختلال المفاهيم الأساسية : . الثورة و الديمقراطية و المقاومة – كأمثلة – فالثورة نزع منها طابعها التقدمي لتصبح قاصرة علي تحدي النظام – حتي لو كان لصالح نظام أشد رجعية و تخلفا – لذا نجد أن الإخوان يتكلمون باسم الثورة . و هذا يخدع الكثيرين . و الديمقراطية تتحول عبر أمريكا لمن هم يناسبونها فالانقلاب في اوكرانيا عمل ديمقراطي شعبي بينما الموجة الثورية – أو الثورة – في 30 يونيو هي أنقلاب . فالديمقراطية أصبحت ممسحة لا أكثر . و محليا تجد الديمقراطية تتجلي في دستور محفوظ في المتحف . و المقاومة أيضا نزع عنها طابعها الأساسي التحرري لتصبح حركة عسكرية بالأساس و هذا نراه في كل مكان . لكن من ناحية أخري فأن هذه المفاهيم نفسها أصابها الخلل حتي مع استبعاد استغلالها سياسيا من مختلف القوي . فهذه المفاهيم ذات الطابع الاجتماعي لابد لها أن تختل مع تهشم المجتمعات . فمثلا هل الثورة في مجتمع ممزق وسط ميوعة اجتماعية أمرا لصالح مجموع الناس أم من المحتم أن تؤدي لمذيد من التهشيم و التمزق . هل يمكن الحديث عن ثورة دون الحديث عن قوي ثورية ؟ و هل فقدان عنصر القوي الثورية هو مجرد افتقاد لعنصر من العناصر المكونة للمفهوم أم هدم لكامل هذا المفهوم ؟
الملحوظة الرابعة الإسلام : القوي المتصارعة المختلفة تكاد تكون كلها تتحدث باسم الإسلام إيران و السعودية نظامان دينيين إسلاميين و كل منهما تدعم أطرافا تتحدث باسم الإسلام أيضا . الإسلام نفسه أصبح ضمن هذه المفاهيم المختلة . و الولايات المتحدة التي لعبت دورا محوريا في تفكيك المنطقة أولا ثم في تأجيج الصراعات فيها تتحدث باسم الإسلام أيضا حتي أن وزير خارجيتها ألقي خطابا في جامع في جيبوتي . و بالطبع لا يمكن مساواة كل هذه الأطراف من وجهة نظر شعبية تقدمية لكنها كلها تجتمع في رؤية رجعية ماضوية حتي و أن كان بعضها – مثل حزب الله اللبناني – لها أدور تقدمية مثل تحرير لبنان من الاحتلال الإسرائيلي. و هناك حتي أطرافا تعتبر نفسها يسارية تتحالف مع قوي إسلامية – مثلا تحالف الاشتراكيين الثوريين مع الإخوان في مصر – فالإسلام هو الموضة الآن. ثم لدينا القوي الإرهابية الصريحة – داعش و القاعدة و جبهة النصرة و مضاعفاتهم – كلها تشترك مع من تحاربهم في هدف بناء "الدولة الإسلامية" طبقا لمخططات مختلفة. لم تخرج منطقتنا بعد من الإطار الفكري للقرون الوسطي حينما كانت كل طبقة اجتماعية و فئة جهوية لا تجد تعبيرا سياسيا عن نفسها إلا عبر الرداء الديني . مما يعني تراجعا عن الماضي القريب حينما كانت هناك توجهات سياسية مدنية في المنطقة مثل البعث و القوميين العرب و الناصرية و اليسار و الليبرالية . الإسلام وعاء يمكن ملئه بكل شيء و أي شيء. من إيران إلي السعودية بل و أوسع من هذا أيضا في اندونيسيا و باكستان الخ . لكن هذا لا يعني أن القوي الشعبية يمكنها أن تستخدم الإسلام كما يدعي البعض فهذا معادي لتوجهها المدني اللاطائفي . فسيادة الفكر الإسلامي يعكس تراجع و تحلل القوي الشعبية و يعكس بالتالي أن الصراع لا يدور سوي حول الهيمنة المناطقية و ليس حول الحقوق الاجتماعية.الحفاظ علي الإطار الاجتماعي القائم هو إذن عنصر مشترك في كل القوي المتصارعة من داعش لإيران. و علي نفس القدر من الأهمية نجد أنه لا يوجد فكر مدني حديث قادر علي أن يلهم جماهير عريضة و يضمها معا و يقدم حلولا بديلة فكما ننتقد الأخرين يجب أن ننتقد أنفسنا.
الملحوظة الخامسة التكنولوجيا : أن تاريخ الرأسمالية هو تاريخ التطور التكنولوجي . فمع كل تغيير كبير فيها توجد قفزة تكنولوجية كبري . الانتقال من الإنتاج السلعي البسيط للتصنيع عبر الآله البخارية و من عصر الاستعمار للإمبريالية عبر محرك الاحتراق الداخلي و عصر البترول و أخيرا الانتقال للرأسمالية المعولمة الحديثة عبر ثورة الاتصالات و تطورات مهمة في كل الميادين – الطب الفضاء النانو تكنولوجي الخ – و المسافة الزمنية الفاصلة بين كل قفزة تكنولوجية و أخري تتقلص . كل فتح جديد في العلم يؤدي لفتوحات جديدة بشكل أسرع و أعمق . و الآن العالم علي أعتاب ثورة تكنولوجية جديدة . لكن في منطقتنا لم نخرج بعد من عصر الصناعة علي أحسن تقدير . فنحن في تناقض مع مستوي التكنولوجيا في العالم . نحن نستهلك تكنولوجيا لا نعلم عنها و لا نشارك في إنتاجها أي عبيد تكنولوجيين . و كل المحاولات التي جرت تاريخيا و نجحت في التحرر الاجتماعي كانت قريبة من مستوي العلم و التكنولوجيا السائد عالميا . فحينما قامت ثورة 1919 مثلا كانت مصر دولة متخلفة لكن كان بها اساس تكنولوجي للحاق بثورة محرك الاحتراق الداخلي . كانت ثاني دولة في العالم بها خطوط سكك حديد و ثاني دولة بها سينما . و التحرر الاجتماعي فتح الباب للحاق وصولا للناصرية و التصنيع و الأبحاث النووية و ما أشبه. و لا يمكن تصور مرحلة جديدة من التحرر الاجتماعي دون قفزة للوصول لعصر المعلومات الذي تستعد دول العالم لمغادرته. لكن هذا التطور المعلوماتي يتناقض بعمق مع الأطر الفكرية و الثقافية التي نعيش فيها . فليبرالية ثورة 19 كانت تتماشي مع عصر النفط . و حتي الناصرية كانت تتماشي مع التصنيع بل تضعه كهدف رئيسي رغم تناقض بعض جوانب الناصرية مع "حرية البحث العلمي" . فماذا عن التطور الإيراني التكنولوجي مع ولاية الفقيه ؟ الأيدلوجية الإيرانية الإسلامية تنطوي علي تناقض خاص بها . فهي إسلامية قومية – قومية إيرانية – و لا يمكن التوفيق بين الاثنين . فالأيدلوجية الإسلامية تستند "للأمة الإسلامية" بينما تلك القومية محلها قومية الدولة الحديثة . و لذا فأن الخطاب الإيراني مذدوج مرة عن الإسلام و مرة عن القومية – أو الشعب الإيراني كما يقولون – المهم هنا أن هذا الجانب القومي هو الدافع وراء التطور التكنولوجي مقرونا طبعا بالثروة الإيرانية.
أين التفاؤل هنا ؟ يبدو التفاؤل من الدمار نفسه الذي لحق و يلحق بالمنطقة ككل. فيتم تطهير المنطقة من سلطات استبدادية و أفكار رجعية . علي مستوي أصغر كثيرا يمكن أن نري أعتلاء الإخوان للسلطة و بالتالي التخلص منهم عقب انكشافهم و هذا انجاز للثورة المصرية رغم أن كثيرين لا يفهمون هذا و عمق تأثيره. لكن الخروج من الدمار لمرحلة البناء يستلزم أطارا فكريا يتجاوز الواقع القائم و يستفيد من الملاحظات السابقة . أي نظرة مستقبلية و أوسع قاعدة اجتماعية و خطاب غير متخلف و رجعي و منفتح علي العالم. و هذا تحديدا هو ما افتقدته الثورة المصرية في عملية الإطاحة بالإخوان فعدنا نواجه ما نراه اليوم.و لا يجب أن ننسي أن عالم الهيمنة الإمبريالية الشاملة – الأمريكية خصوصا – ينفتح لتعدد الأقطاب و بالتالي يتيح فرصة للانفلات من الدمار . و كذلك أن الاقتصاد العالمي يتجه أيضا لتعدد الأقطاب . نحن في حاجة لأطار فكري جديد . أطار فكري للتحرر نابع من الماركسية و لكن مع تطبيقها علي حالتنا الخاصة الاجتماعية و التاريخية . التفاؤل وسط الخراب نابع من أتضاح المهمة و هذا لا يكتسب بسهولة.