تفسير مالك بن نبي لتخلف منطقتنا


رابح لونيسي
الحوار المتمدن - العدد: 8096 - 2024 / 9 / 10 - 14:23
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

تساءلنا في المقالة السابقة الخاصة بالنهب الذي مارسته السلطات الحاكمة في منطقتنا قبل مجيء الإستعمار الأوروبي بصفته أحد التفسيرات التي منعت التجار وملاك الآراضي من توسيع إستثماراتهم إلى قطاعات أوسع يمكن أن تقيم ثورة صناعية لأن كل ارباحهم كانت تأخذها الطبقات الحاكمة عكس ما وقع في أوروبا الغربية حيث تمكن هؤلاء من الثورة على الإقطاعيين، وقلنا لماذا لم يثر هؤلاء التجار والمزارعين وعامة الشعب في منطقتنا ضد هذه الطبقات الحاكمة التي كانت تنهبهم وتأخذ أموالهم ثم تنفقها في البذخ والترف؟، فطرحنا سؤال هل المشكل يعود إلى إنسان هذه المنطقة الذي رضي بذلك؟. وهو سؤال دفع الذين طرحوه إلى تناول مسألة الإنسان ذاته وأسباب عجزه وعدم قدرته على التحرك الإيجابي، وهو ماسماه المفكر الجزائري مالك بن نبي ب"إنسان غير فعال" أو "إنسان ما بعد الموحدين"، أي إنسان أنتجته عصور إنحطاط الحضارة الإسلامية، فكان ذلك مدخله لتفسير تخلف منطقتنا مركزا على العالم الإسلامي كله.
لم يتناول مالك بن نبي إشكالية التخلف في العالم الإسلامي بنظرة اقتصادية بحتة، بل تناولها كمشكلة حضارية، ويعتبر تخلف العالم الإسلامي اليوم حتمية بناءً على نظريته "دورة الحضارة" التي تقول أن كل حضارة تمر بثلاث مراحل: مرحلة أولى يسودها الروح أو الفكرة التي تعتبر السبب الرئيسي لميلاد أية حضارة، ففي هذه المرحلة يتميز الإنسان بالفعالية، وينتج أكثر مما يستهلك، فينشأ التراكم، ثم تأتي مرحلة تخبو فيها تلك الفكرة شيئا فشيئا، خاصة عندما تصل الحضارة إلى نقطة أوجها، وهذه هي المرحلة الثانية التي يسوده الترف والاستهلاك المفرط وضعف الأخلاق، ثم تأتي المرحلة الثالثة، وهي مرحلة السقوط والانحطاط وانهيار الحضارة بسبب انحسار الفكرة الدافعة لذلك، وسماها بطور الغزيرة، فـيقول أن "دورة الحضارة تبدأ عندما تدخل التاريخ فكرة دينية معينة أو عندما يدخل التاريخ مبدأ أخلاقي معين على حد قول كيسرلنج، كما أنها تنتهي حينما تفتقد الروح نهائيا الهيمنة التي كانت له على الغرائز المكبوتة أو المكبوحة الجماح".
ويرى مالك بن نبي أن الحضارة هي نتيجة لتفاعل الإنسان والوقت والتراب )أي الأرض والثروات الطبيعية)، وتمثل هذه العناصر الثلاث الثروة الأولية التي تملكها كل المجتمعات دون إستثناء، لكن لا يحدث هذا التفاعل إلا بفكرة دافعة، وقد أعطى بن نبي للفكرة الدينية دورا أساسيا في بناء الحضارة، وينطلق في ذلك من ملاحظاته ودراساته المعمقة لنشوء الحضارتين الإسلامية والغربية، بالإضافة إلى ما أورده الكثير من الدارسين للحضارت كالألماني أوسفالد شبنغلر وولتر شوبرت وأرنولد توينبي، وكذلك أبن خلدون الذي تأثر به بن نبي كثيرا، وكذلك المفكر الألماني هرمان دي كيسرلنج الذي قال في كتابه "البحث التحليلي لأوروبا" "ومع الجرمانيين ظهرت روح خلقية سامية في العالم المسيحي".
ويقسم مالك بن نبي المجتمعات إلى ثلاثة أنواع وهي: مجتمع ما قبل الحضارة مثل المجتمع العربي في الجاهلية، ومجتمع الحضارة مثل المجتمع الإسلامي أثناء إزدهاره والعالم الغربي اليوم، ثم مجتمع ما بعد الحضارة مثل العالم الإسلامي اليوم الذي علقت به الشوائب والخرافات والشعوذة والسلبية والجمود والخمول وانعدام الفعالية .
ويرى بن نبي أنه لا يمكن للمسلم المعاصر الدخول في الحضارة من جديد إلا بالقضاء على مظاهر عصور الانحطاط وبناء إنسان جديد بديل لإنسان ما بعد الحضارة. فيجب على المسلم المعاصر-حسبه- تدمير كل ما علق به من أفكار ومظاهر سلبية مثلما دمر القرآن الكريم كل ما هو سلبي في المجتمع الجاهلي، ويرى بن نبي أن أكبر ظاهرة تهدد المسلم ما بعد الحضارة اليوم هي "الشيئية"، فمثلما كان العربي ما قبل الحضارة أي في الجاهلية مغرما بعبادة الأوثان مثل الطفل الصغير المنبهر بالأشياء واللعب، فإن المسلم ما بعد الحضارة أي المعاصر مغرم ومنبهر بالأشياء ومنتوجات الغرب "فالأشياء هنا تستعيد سلطتها على العقول والوعي، إذ غالبا ما تكون تافهة براقة، وتُبهظ الجيوب حين يتعين شراؤها من الخارج". فهذه إشارة من بن نبي إلى خطورة انتشار النمط الاستهلاكي البحت لسلع الغرب وأشيائه دون أن يحاول المسلم المعاصر فهم آليات صنعها .
هذا ما جعل بن نبي يدعو المسلم المعاصر إلى الاعتماد على نفسه بدل لجوئه إلى استيراد منتوجات الغرب، فالحضارة بناء وليس تكديسا لأن "المقياس العام في عملية الحضارة هو أن الحضارة هي التي تلد منتجاتها، وسيكون من السخف والسخرية أن نعكس هذه القاعدة.
ولكي نبني الحضارة-حسب بن نبي- لا يكفي لنا فقط حل مشكلات الإنسان والتراب (الأرض والثروات الطبيعية) والوقت، بل علينا أيضا بناء مجتمع جديد مبني على شبكة علاقات اجتماعية متماسكة، فيندفع المجتمع إلى البناء الحضاري بالجد والتضحية والفعالية "وكلما كانت شبكة العلاقات أوثق كان العمل فعالا مؤثرا".
ويحذر مالك بن نبي من فساد وتفكك شبكة العلاقات الاجتماعية بتضخيم خاصة الآنا والأنانية فيه لأن ذلك "ينتهي إلى تحلل الجسد الاجتماعي لصالح الفردية... فالعلاقات الاجتماعية تكون فاسدة عندما تصاب الذوات بالتضخم، فيصبح العمل الجماعي المشترك صعبا أو مستحيلا".
ويبدو لنا أن مالك بن نبي لم يشر مباشرة إلى خطر التوسع الرأسمالي على العالم الإسلامي، وإلى الارتباط الوثيق للعالم الإسلامي بالرأسمالية العالمية شأنه في ذلك شأن كل بلدان العالم الثالث، ولو أن بن نبي كان يفكر في تكتل العالم الثالث للخروج من التخلف عاقدا الأمل على المؤتمر الآفرو-آسيوي بباندونغ في عام 1955 .
إذا كان مالك بن نبي يعتبر تخلف العالم الإسلامي حتمية حضارية، فإن هذا ليس معناه استحالة بناء حضاري جديد، لكن لا يمكن تحقيق ذلك-حسب بن نبي- إلا بإعادة بناء الإنسان ونقله من السلبية إلى الفعالية، لكن من عيوب طرح مالك بن نبي أنه لم يقل لنا كيف يمكن لنا تحويل هذا الإنسان من إنسان سلبي إلى إنسان فعال مكتفيا فقط بعموميات. لكنه طرح فكرة هامة وهي أن الإستعمار ليس هو سبب تخلفنا، بل وجد مجتمعا متخلفا وضعيفا، ولو لم يجد ذلك التخلف، لما تمكن من إستعمارنا، وهو ما أطلق عليه "القابلية للإستعمار" الذي أسيء فهمه، واتهم من البعض بأنه يؤيد الإستعمار، مما جلب له عداوات الوطنيين في الجزائر أثناء العهد الإستعماري الذين كانوا يقولون أنه يكفي بطرد الإستعمار سنتقدم لأنه هو الذي كان يمنعنا من ذلك، لكن بعد إسترجاع الإستقلال تواصل التخلف، فنتجت مجموعة اخرى تحمل المسؤولية للأنظمة، وترى أن تغييرها كاف للخروج من التخلف، لكن وقع تغيير هذه الأنظمة عدة مرات في عدة دول في منطقتنا، بل يمكن القول انه طبقت كل الأيديولوجيات، ولم يتغير شيئا كما يقول عالم الإجتماع البحريني محمد جابر الأنصاري الذي يعد أحد الباحثين مع آخرين أصبحوا يبحثون بعمق عن أسباب تخلف منطقتنا.
فقد كان لبن نبي الفضل في غرس بذرة هذا البحث العميق. كما أن بن نبي يرفض فكرة استحالة بناء الحضارة أو الخروج من التخلف على أي مجتمع كان سواء كان مجتمع ما بعد الحضارة كالعالم الإسلامي، أو مجتمعات لم تبن حضارات قط في تاريخها، وبهذا يناقض النظريات العنصرية النابعة من المركزية-الأوروبية، والتي تقول بأن التقدم والتحضر محصور في الغرب فحسب، أما العالم الإسلامي وغيره فالتخلف حتمية أبدية عليهم، وهي النظريات التي سنناقشها في مقالات قادمة.