ما هي الإشكاليات الواجب حلها لإخراج منطقتنا من التخلف؟


رابح لونيسي
الحوار المتمدن - العدد: 8113 - 2024 / 9 / 27 - 14:26
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

يتبين لنا من خلال عرضنا ومناقشتنا في سلسلة مقالاتنا السابقة لمختلف نظريات نشأة التخلف في منطقتنا، إن مجتمعات منطقتنا لم تستطع الانتقال إلى الصناعة في الماضي لأن فائض القيمة والتراكم المالي الذي كان يحصل عليه الفلاحون والتجار عادة ما كانت تسلبه الطبقات الحاكمة بشتى الطرق والوسائل. فبدل استثمار هذا التراكم في الصناعة وتطوير الحرف وقوى الإنتاج، فإنه يبذر في الترف والبذخ وفي الحروب والصراعات الداخلية حول السلطة. لكن كيف استطاعت هذه الطبقات الحاكمة سلب هذا الفائض الاقتصادي من أصحابه وتبذيره؟.
نعتقد أن السبب الرئيسي لذلك هو انتقال المسلمين من خلافة راشدة مبنية على انتخاب الخليفة ومباديء الشورى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والعدل الإجتماعي إلى ملك عضوض مستبد يقمع كل صوت يدعو إلى التوزيع العادل للثروة، ويقف في وجه الظلم والطغيان والنهب والسلب. إن تحالف الاستبداد مع الإستغلاليين ورجال دين كانوا يبررون لهم إستبدادهم وإستغلالهم أدى إلى ظهور فساد أخلاقي ونفاق سياسي واجتماعي في الطبقات الحاكمة، ثم انتقلت هذه الصفات بدورها إلى المجتمع كله. ويبدو أن هذا الاستبداد يختفي وراء عدم تناول الفقه الإسلامي عموما مسألة السلطة وتوزيع الثروة ومحاولة وضع ميكانيزمات لتجسيد مباديء وردت في القرآن الكريم على أرض الواقع، وعلى رأسها مبدأي الشورى والعدل الإجتماعي، بل تعرض كل من يحاول التطرق إلى ذلك إلى قمع شنيع كما وقع مثلا مع الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري الذي غيب اليوم تماما في الخطاب الديني منذ صعود إسلام البترو-دولار الخليجي في ثمانينيات القرن الماضي، والذي يدعم النظام العالمي الرأسمالي لدرجة تكفيره مفكرا أعتنق الإسلام، وهو روجي غارودي إلا لأنه فهم من خلال دراساته العميقة للإسلام بأنه دينا يناقض النظام الرأسمالي العالمي، ويحاربه على عكس ما يروج له إسلام البترو- دولار الخليجي.
وكرد فعل على فساد الحكام وأغلبية المجتمع هرب البعض إلى التصوف السلبي غير المتلائم مع قيم الإسلام الحقيقية التي تدعو المسلم إلى الكد والجد والقيام بمهمة الخلافة في الأرض وتعميرها، وهذا التصوف السلبي في نظرنا هو نوع من الهروب من الواقع المزري البائس السائد آنذاك في المجتمعات الإسلامية. ويمكن تشبيه هذا التصوف السلبي في الماضي بالتزمت والتطرف الديني المنتشر لدى بعض المسلمين اليوم، والذي له عدة أسباب طبعا، ويمكن أن يكون احدهم هو رد فعل سلبي على التغريب الرأسمالي والوضع الاقتصادي والاجتماعي المتأزم في العالم الإسلامي، هذا ما يفسر رفض هؤلاء المتطرفين لكل ما هو غربي دون أي تمييز، لأن في قرارة أنفسهم أن كل ما يرمز للغرب هو تذكير بهذا الغرب الذي يتحمل مسؤولية مأساتهم الاجتماعية والاقتصادية.
ويبدو أن هذه الصفات السلبية كالتصوف السلبي التي سادت مجتمعات منطقتنا في عصور الانحطاط هي التي دفعت ماكس فيبر إلى القول أن قيم الإسلام عرقلت انتقال المجتمع الإسلامي إلى مجتمع صناعي، لأن فيبر لا يميز بين الجانب النظري والتطبيق المزيف والمنحرف لتلك القيم الإسلامية.
إن إنتقال المسلمين إلى نظام إستبدادي، قد سمح بالنهب المنظم للفائض الاقتصادي للمجتمع من طرف السلطة الاستبدادية وظهور البذخ والترف والفساد الأخلاقي العام في المجتمع، والتي أدت بدوره إلى نهاية المسلم الفعال الذي قام ببناء تلك الحضارة الإسلامية العظيمة، وظهر المسلم السلبي وما بعد الحضارة أو ما بعد الموحدين كما يسميه مالك بن نبي، والذي ما زال سائدا إلى حد اليوم، لكن بأشكال أخرى .
لكن ما زاد الطين بلة في نظرنا من عدم إمكانية ظهور المجتمع الصناعي في منطقتنا هو الامتيازات التي أعطتها الدولة العثمانية إلى التجار الأوروبيين، فتحطم بذلك أكثر التجار والفلاحين والحرفيين المحليين، فلم يستطع هؤلاء تكوين أي فائض اقتصادي بفعل حصول التجار الأوروبيين عليها بفضل الامتيازات إلى جانب سلب السلطات الحاكمة لهؤلاء التجار والفلاحين والحرفيين بدعوى أخذ الخراج والضرائب المختلفة .
نجد تشابها كبيرا عند أي مقارنة بين أوضاع منطقتنا في الماضي واليوم، فاليوم كما في الماضي نجد الدكتاتوريات والفساد الأخلاقي ونمط استهلاكي مريع وعدم فعالية المسلم المعاصر ونهب الطبقات الحاكمة للفائض الاقتصادي، وشركات متعددة الجنسيات ما فتئت تحطم يوميا الصناعات المحلية الناشئة، وأضيف إلى حاضر منطقتنا ارتباطها الوثيق بالرأسمالية العالمية عن طريق ارتباط مصالح الطبقات الحاكمة فيها بمصالح الرأسمالية العالمية، فيشتركان سويا في نهب ثروات المنطقة بأشكال غير شفافة. ولم تكتف الرأسمالية العالمية اليوم بذلك، بل توصلت إلى حد ربط مصالح الكثير من شرائح مجتمعاتنا كالتجار الكبار وأصحاب الأموال الضخمة بمصالحها، فتحول هؤلاء إلى مجرد وكلاء للشركات الكبرى في الغرب وظيفتهم تسويق منتجات الرأسمالية العالمية في بلداننا بدل استثمار أموالهم الضخمة التي جلبوها بطرق عديدة في القطاع المنتج الذي يخلق الثروة وفرص العمل، ويطور قوى الإنتاج المحلية، فينطبق بحق على هؤلاء المصطلح الصيني "طبقة الكمبرادور" الذي أطلق في القرن 19م على الذين يخدمون الأوروبيين في بيوتهم.
إن تحليلنا يدفعنا إلى طرح عدة إشكاليات تفرض على نخب بلادنا مناقشتها والاجتهاد فيها وهي: كيف يمكن لنا تحويل هؤلاء الكمبرادور إلى الاستثمار المنتج؟، وكيف نحول الإقتصاد الريعي إلى إقتصاد منتج؟ وبعبارة أخرى كيف نبني صناعة في بلداننا، ونطور قوى الإنتاج بصفتها البنية التحتية التي بدروها ستغير البنية الفوقية المتمثلة في الذهنيات والسلوكات والثقافة وشكل الدولة وغيرها؟، كيف نخرج الإنسان في منطقتنا من التهميش والإقصاء إلى مرحلة المشاركة في المراقبة وصناعة القرار؟، كيف نحول الدولة من جهاز في خدمة فئة أو طبقة أو شريحة إلى جهاز في خدمة المجتمع كله بدون استثناء؟، كيف نغير ذهنية هذا الإنسان، فينتقل من السلبية إلى الإيجابية والفعالية؟، كيف ننهي الاستغلال الرأسمالي العالمي لثرواتنا وإمكانياتنا، ونحولها من خدمة الرأسمالية الغربية إلى خدمة اقتصاديات منطقتنا؟، وبعبارة مختصرة كيف نتخلص من التخلف العام الذي نعاني منه ونبني حضارة جديدة أو على الأقل المساهمة الفعالة في الحضارة العالمية اليوم؟.
كل هذه الأسئلة والإشكاليات والإجابة عليها بأسلوب علمي وأكاديمي هي التي ستغطي كل سلسلة مقالاتنا القادمة، وسنطرح من خلالها ما أسميناه "البديل الإنساني".