هل للتوسع الرأسمالي علاقة بتخلف منطقتنا؟


رابح لونيسي
الحوار المتمدن - العدد: 8062 - 2024 / 8 / 7 - 14:05
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

لا يمكن لنا وضع إستراتيجية سليمة للتنمية أو طرح بديل إقتصادي وإجتماعي وسياسي وثقافي في منطقتنا دون الفهم الموضوعي لأسباب التخلف وكيفية نشأته عندنا، وقد ظهرت عدة نظريات تحاول تفسير نشأة التخلف في العالم الثالث الذي يعتبر العالم الإسلامي جزءًا منه، وقد عمم البعض هذه النظريات على كل بلدان العالم الثالث دون الأخذ بعين الاعتبار لخصوصيات بعض المناطق، كما حاول البعض الآخر وضع نظريات تنطبق فقط على بعض المناطق دون الأخرى من العالم الثالث .
ويمكننا تصنيف نظريات تفسير نشأة التخلف ثلاثة أصناف، صنف ربط نشأة التخلف في العالم الثالث بظهور الرأسمالية الأوروبية، وما صاحبها من استعمار لهذا العالم ونهب ثرواته، وتطلق على نفسها نظريات التبعية، ونجد صنف آخر من هذه النظريات حاول أصحابها الرد على نظريات التبعية، فحاولت أن تذهب إلى ما قبل ظهور الاستعمار والرأسمالية، وتجيب عن سؤال أساسي، وهو لماذا ظهرت الرأسمالية الصناعية في أوروبا، ولم تظهر في العالم الإسلامي الذي كانت تسوده رأسمالية تجارية أو مركانتيلية أكثر تطورا من المركانتيلية في أوروبا؟، أما الصنف الثالث والأخير من هذه النظريات، فتنطلق من فكرة المركزية-الأوروبية التي تحتقر كل ما ليس بأوروبي، فحاولت أن تجسد فكرة مفادها أن تخلف العالم الإسلامي طبيعي وحتمي، ويردون سبب ذلك إلى ثقافته ونفسيته ووضعه الاجتماعي، وسنحاول في سلسلة المقالات القادمة تناول مختلف هذه النظريات ونقدها لكي نصل من خلال ذلك إلى تفسير أكثر موضوعية يسمح لنا بوضع إستراتيجية جديدة للتنمية وطرح بديل إنساني لمنطقتنا ثم للعالم كله، ونواجه به النظام العالمي الرأسمالي السائد اليوم الذي يتسم بالهمجية والإستغلال البشع للإنسان.
من أشهر النظريات المفسرة للتخلف في العالم الثالث، ومنه منطقتنا هي نظريات التبعية أو ما يمكن تسميتها بنظريات ربط تخلفنا بظهور الرأسمالية والإستعمار.
تعتبر هذه النظريات أن العالم الثالث لم يكن متخلفا قبل أن تستولي عليه أوروبا الإستعمارية وتنهب ثرواته، وتوجه اقتصادياته لخدمة الاقتصاد الاستعماري الرأسمالي، وتعتبر أن ذلك النهب هو وراء التراكم الأولى للرأس المال في أوروبا، وعلى هذا الأساس فكلما نمت وتوسعت الرأسمالية الأوروبية قابلها نمو وتوسع التخلف في العالم الثالث .
وقد ظهرت نظريات التبعية أول ما ظهرت عند المفكرين الإقتصاديين في أمريكا اللاتينية، ونجد على رأسهم الاقتصادي الأرجنتيني راؤول بربيش Raoul Brebich الذي وضع نظرية القلب والتخوم في كتابه "أمريكا اللاتينية كهامش في النظام العالمي الرأسمالي" الذي نشره عام1981، ويعني بها أن الرأسمالية الأوروبية نجحت في توحيد العالم في نظام رأسمالي بإستعمال القوة والاستعمار، فتمركزت بذلك القوة والثروة بيد القلب أو المركز الرأسمالي العالمي على حساب أطراف أو تخوم هذا النظام، ويشبه بربيش هذا النظام الاقتصادي العالمي بالمجموعة الشمسية أين التخوم أو الأطراف تدور حول القلب أو المركز الرأسمالي، فكلما ازدادت قوة المركز الرأسمالي ووزنه انجذبت إليه أطرف أو تخوم النظام الرأسمالي العالمي. ويميز بريبش بين الطبقة الرأسمالية في المركز أو القلب والطبقة الرأسمالية في الأطراف أو التخوم، فالأولى مبدعة ومدخرة، أما الطبقة الثانية فتابعة ومحاكية للغرب ومستهلكة ومترفة.
ونشير إلى أن الكثير من الاقتصاديين في أمريكا اللاتينية أثرو نظريات التبعية، ومنهم فرانك A.G.Frank الذي قال بأن بلاد أمريكا اللاتينية لم تكن متخلفة ولا متقدمة، لكن بمجرد إدماجها العنيف على يد الإستعمار في النظام الرأسمالي العالمي أصبحت متخلفة جدا في الوقت الذي تقدم فيه الغرب الرأسمالي. أما إيمانويل والرستين Immanuel Wallerestein فيرى أن نهب بلاد أمريكا اللاتينية أدى إلى نمو الصناعة والزراعة في أوروبا في نفس الوقت الذي حرمت هذه البلاد من مواردها وفرص نموها.
ويقول أوسفالدو سينكل بتوجيه اقتصاديات بلدان العالم الثالث لخدمة الاقتصاد الإستعماري الرأسمالي، فاستخدمت هذه البلاد لإشباع حاجات المركز الرأسمالي، وليس حاجات العالم الثالث، ففرض الاستعمار التقسيم الدولي للعمل، أين تخصص العالم الثالث في إنتاج وتصدير المواد الأولية والمحاصيل الزراعية النقدية كالقطن في مصر والكروم ثم النفط في الجزائر، والقصدير في بوليفيا، والبن في البرازيل، وقصب السكر في كوبا، والكاكاو في غانا، والشاي في الهند... وغيرها من المواد، ويقوم المركز الرأسمالي بتحويل هذه المواد الأولية إلى مواد مصنعة، ثم يعيد بيعها إلى بلدان العالم الثالث بأسعار مرتفعة جدا.
وبناءً على ما سبق يمكن لنا تلخيص الحجج والبراهين التي يستند إليها أصحاب نظريات التبعية عند وضع نظرياتهم حول أمريكا اللا تينية في:
- نهب الغرب لثروات العالم الثالث مما وفر تراكما أوليا للرأسمال في المركز الرأسمالي.
- التقسيم الدولي للعمل الذي فرضه الاستعمار، والذي أدى إلى التبادل اللامتكافئ بين الغرب الرأسمالي والعالم الثالث .
- إنشاء طبقات ومؤسسات سياسية واقتصادية واجتماعية في العالم الثالث مرتبطة بالمركز الرأسمالي وفي خدمته .
وحاول بعض المؤرخين والاقتصاديين في أمريكا اللاتينية تعميم هذه النظريات إلى مناطق أخرى من العالم الثالث، ومنهم المؤرخ الاقتصادي الغوياني والتررودني في كتابه "أوروبا والتخلف في إفريقيا"، أين حاول أن يثبت أن إفريقيا وأوروبا كانتا متقاربتين من الناحية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية في القرن 16م، لكن سيطرة أوروبا على التجارة الدولية وممارستها لتجارة العبيد في القارة، وغزو سلعها للأسواق الإفريقية أدى إلى إعاقة التطور الطبيعي لإفريقيا اقتصاديا وتكنولوجيا، قبل أن تصبح لقمة سائغة للإستعمار الأوروبي في القرن 19م، وأوضح والتر رودني في بحثه مدى مساهمة إفريقيا في التطور الرأسمالي طيلة خمسة قرون، وكيف ساهمت أوروبا في تجسيد التخلف في القارة السوداء، ليتوصل إلى نتيجة مفادها أن هناك علاقة "إندماج كل من التنمية والتخلف في نظام واحد هو الأمبريالية الرأسمالية"، لأن من طبيعة الرأسمالية "تركيز كل من الثروة والفقر وإستقطابهما في طرفي نقيض على الصعيد المحلي والأوروبي والعالمي".
لا يمكن إعتبار ميلاد نظريات التبعية في أمريكا اللاتينية ومحاولات البعض تعميمها على بعض المناطق كأفريقيا السوداء، بأنها محاولة من أصحابها لتبرير التخلف في هذه المناطق، بل يبدو لنا أن تاريخ التوسع الرأسمالي يفرض ذلك، وقد أبرزنا في سلسلة مقالاتنا السابقة حول نشأة وتطور الرأسمالية، كيف أن اكتشاف العالم الجديد في عام 1492م، يعتبر نقطة بداية النظام الرأسمالي العالمي، وأن نهب أوروبا للمعادن الثمينة وممارستها تجارة الرقيق في الإنسان الإفريقي كان وراء نشوء التراكم الأولي للرأس المال في أوروبا، والذي استثمر في الثورة الصناعية فيما بعد، ثم فرضت أوروبا أساليب أخرى لضمان تدفق الفائض الاقتصادي عليها من المناطق الأخرى من العالم، ومن هذه الأساليب نجد الإستعمار وتخصيصها بعض البلدان في إنتاج مواد زراعية وأولية معينة، وإنشاء طبقات مرتبطة بها، وتحمي مصالحها .
لكن يرى البعض أنه لا يمكن لنا إعطاء نفس التفسير لنشأة التخلف في منطقتنا، لأنها لم تتعرض للإستعمار الأوروبي إلا في القرن19م، فلا يمكن لنا أن نربط بين نمو الرأسمالية في أوروبا وبروز التخلف في بلادنا، ويمكن لنا الاكتفاء فقط بالقول أن الاستعمار قد كرس التخلف بربطه اقتصاديات منطقتنا بالمركز الاستعماري الرأسمالي منذ القرن 19م، هذا ما دفع هؤلاء إلى البحث عن الأسباب العميقة لنشأة التخلف في منطقتنا ورد أسبابها إلى فترة ما قبل ظهور الرأسمالية في أوروبا. هذا ما سنتطرق إليه في المقالة القادمة.