هل فعلا الندرة هي وراء المشكلة الإقتصادية؟
رابح لونيسي
الحوار المتمدن
-
العدد: 8120 - 2024 / 10 / 4 - 14:47
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
تبين لنا من المقالات السابقة أن منطقتنا تعاني من مشكلات عدة، وتتمثل في مشكلة السلطة ومشكلة الإقتصاد والتخلف العلمي ومشكلة الإنسان، وسنحاول في المقالات القادمة طرح حلول وآليات وميكانيزمات جديدة لحل هذه المشكلات، ونبدأ بالمشكلة الإقتصادية التي تتلخص في كيفية تحويل إقتصادياتنا من إقتصاد ريعي وكمبرادوري يخدم الرأسمالية الغربية إلى إقتصاد منتج.
تطرح المشكلة الاقتصادية في منطقتنا اليوم على أساس التصورات الرأسمالية التي تعتبرها مشكلة ندرة لأنه -حسب فالراس- "لا توجد منتجات ممكنة التكاثر بلا حدود، إن جميع الأشياء التي تكون جزءًا من الثروة الاجتماعية –الأرض والقدرات الاجتماعية والبضائع الرأسمالية الصرفة والسلع الدخلية من كل الأنواع- موجودة بكميات محددة فقط-، ومن بين هذه الأشياء تكون الأرض والقدرات الشخصية ثروة طبيعية، في حين تكون السلع الرأسمالية الصرفة والسلع الدخلية ثروة اصطناعية لصيرورتها منتجات بفضل مروره عبر عملية إنتاجية، وتلعب الخدمات التي تقدمها الأرض الدور السائد في إنتاج بعض الأشياء كالفواكه والحيوانات المتوحشة والخامات على سطح الأرض والمياه المعدنية، ويهيمن العمل على إنتاج أشياء أخرى كالخدمات القانونية والطبية ومحاضرات أساتذة الجامعات، والأغاني والرقصات. إلا أننا نعثر على خدمات الأرض والعمل ورأس المال سوية في إنتاج معظم الأشياء المكونة للثروة الاجتماعية من الأرض ومن القدرات الشخصية أو من منتجات خدمات الأرض والقدرات الشخصية، ولما كان مل (Melle) يعترف بوجود الأرض بكميات محدودة فقط، فإذا كان ذلك صحيحا هو الآخر بالنسبة للقدرات البشرية. فكيف يجوز مضاعفة الإنتاج بدون حدود".
أن هذه النظرة الرأسمالية هي التي جعلت الإنجليزي مالتوس يرى في القرن 19م بأن الموارد الطبيعية، ستصبح غير كافية للبشر في المستقبل لأن الغذاء ينمو بمتتاليات حسابية في الوقت الذي ينمو فيه السكان بمتتاليات هندسية، وهو ما يؤدي حتما -حسب مالتوس- إلى المجاعة وهلاك الجنس البشري.
فبناءً على ذلك أندفع الأوروبيون في تحديد النسل لتجنب المشكلة مستقبلا، لكن تبين فيما بعد خطأ مالتوس. فأصبح الغرب يعاني من خطر اندثار السكان، بالإضافة إلى الشيخوخة التي تعرقل النشاط الاقتصادي، ويرى جان فالان أن أوروبا ستصبح في عام 2040 لا تمثل سوى 4% من مجموع سكان الأرض إذا تواصلت نسبة نمو السكان على هذا الشكل، فالألمان مثلا يتناقصون بمعدل نصف مليون شخص سنويا، ويتناقص الفرنسيون بمعدل 100 ألف شخص سنويا، مثلما أثبت الكثير من العلماء أن الأرض بإمكانها تلبية الحاجات الغذائية لـ 32 مليار نسمة، وليس فقط لحوالي 7 ملايير نسمة، وهو عدد سكان الأرض اليوم، ويرى خبراء في هيئة الأمم المتحدة أن مساحة الأراضي المزروعة في العالم اليوم لا تمثل إلا 43,5% فقط من المساحة القابلة للزراعة، ولو استغل الجزء المزروع فقط بشك جيد، لأمكن إطعام أكثر من 60 مليار نسمة من السكان.
ان الكثير من الأبحاث العلمية تؤكد على عدم صحة التصورات الرأسمالية للمشكلة الاقتصادية، فالحقيقة أن المشكلة هي مشكلة ندرة، بل هي مشكلة نابعة من الظلم الإجتماعي والتوزيع غير العدل للثروة، وعدم استغلال الإنسان لإمكانياته بشكل فعال، خاصة إمكانياته العقلية واليدوية في استخراج النعم التي سخرها الله سبحانه وتعالى لهذا الإنسان.
ولا أفهم كيف لم ينتبه المسلمون إلى ذلك، وهم يقرأون يوميا في القرآن الكريم "وآتاكم من كل ما سألتموه، وأن تعدوا نعمة الله لا تحصروها، إن الإنسان لظلوم كفار" (سورة إبراهيم الآية 34)، وهو ما يتماشى مع ما قلناه سابقا حول الإمكانيات الهائلة المتوفرة على الأرض، لكنها لم تستغل على أحسن ما يرام، ولم توزع بشكل عادل. لا أعلم كيف لازال الكثير من مفكري منطقتنا، الذين يدعون الإسلام يدافعون عن النظام الرأسمالي بشكل أو بآخر معتقدين أنه سبب تقدم الغرب، وليس إستغلاله البشع لشعوبنا وثرواتنا؟، كيف لم ينتبه هؤلاء بأن الظلم الذي تتحدث عنه هذه الآية هو الظلم الإجتماعي والتوزيع غير العادل للثروة؟، كيف لم ينتبه أو بالأحرى لم يشر هؤلاء المتشدقين علينا يوميا بالإسلام إلى كل ذلك مركزين على القشور والشكليات بدل الجوهر، بل أكثر من ذلك يستغلونه لخدمة مصالح الإستغلاليين الرأسماليين والمستبدين، فهل لا يعلمون أم يخفون، ويتسترون بأنهم ضمن هذا التحالف المقدس الذي ما أنفك يتحدث عنه القرآن الكريم بين فرعون الممثل للإستبداد وقارون الممثل للإستغلال وهامان الممثل للكهنة الذين يبررون دينيا للإستبداد والإستغلال، ويخدرون الشعوب، ويقومون بإستحمارها بإسم الدين؟، كيف لم ينتبه هؤلاء أو إخفائهم عن العامة بأن محاربة الظلم الإجتماعي والفقر وإقامة العدالة الإجتماعية هي من أعمدة هذا الدين مثله في ذلك مثل إقامة الصلاة، وإلا فلماذا كلما ذكرت إقامة الصلاة في القرآن الكريم ذكرت إلى جانبها الزكاة والإنفاق على الفقراء ومساعدتهم كمرحلة مؤقتة فرضتها الظروف حتى يتم التخلص نهائيا وتدريجيا من فقرهم ومن الظلم الإجتماعي الذي يتعرضون له؟ ،كيف لم ينتبه هؤلاء من قراءتهم للقرآن الكريم أو تعمدوا ذلك بأن الربط القرآني الدائم لإقامة الصلاة بمحاربة الفقر معناه أن الصلاة لا معنى لها إذا لم تكن مرتبطة بالكفاح والنضال اليومي من أجل محاربة الفقر والظلم الإجتماعي وإقامة العدالة الإجتماعية ؟.
أن هذا الظلم اليوم الذي ذكرته الآية الآنفة الذكر يتمثل في هذا النظام الرأسمالي الاستغلالي الذي جعل 15% من سكان العالم يستهلكون 80% من موارد العالم، والباقي يعيشون في فقر مدقع، بالإضافة إلى احتكار الرأسمالية العالمية البحث العلمي والتكنولوجيا وتسخيرها لخدمة مصالح أقلية من البشر في الوقت الذي تساعد فيه الطبقات الحاكمة والمرتبطة بها في منطقتنا على تجهيل شعوبها وإستحمارها وتهريب باحثيها وعلمائها. فعلى هذا الأساس لا يمكن حل المشكلة الاقتصادية في عالم اليوم، خاصة في منطقتنا إلا بالتخلص النهائي من الرأسمالية وفك الارتباط بها ممارسة وسلوكا وتصورا وفكرا، بالإضافة إلى تطوير البحث العلمي والتكنولوجي وتنمية المواهب العقلية واليدوية في الإنسان واستغلال طاقاته على أكمل وجه بدل الكفر بنعم الله، وعلى رأسها نعمة العقل. لكن كيف يمكننا تحقيق ذلك عمليا؟، وقبل الإجابة على ذلك كله مستقبلا علينا الإشارة إلى الأتظمة الإقتصادية المطبقة في بلداننا منذ إسترجاع إستقلالها وإنعكاساتها.